في مطلع أغسطس/ آب 1990 كانت المنطقة العربية- الإسلامية على موعد شكل مفاجأة لكل القوى الإقليمية والدولية. آنذاك لم تكن المنطقة تتوقع أنها ستكون أمام منعطف تاريخي سيؤدي إلى إعادة تشكيل هيئة التحالفات ويخلط الأوراق ويرتب توازنات تكسر معادلة القوة بين دول «الشرق الأوسط الصغير».
في تلك الأجواء العاصفة نشرت صحيفة «صندي تايمز» دراسة مطولة شرحت فيها المتغيرات والتحولات لتنتهي إلى التأكيد على أن «الشرق الأوسط» بعد أغسطس 1990 لن يعود كما كان قبل هذا التاريخ. الآن وبعد 19 سنة على وقوع «أزمة الكويت» وكتابة تلك الدراسة في الصحيفة البريطانية تغيرت الكثير من الصور وتبدلت الهيئات السياسية وتشكلت خرائط للدول لا تتوافق مع الأشكال الهندسية التي استقرت عليها المنطقة العربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فما حدث في ذاك الشهر زعزع استقرار الدول وعبث بثرواتها واستنزف قواها وأعاد ترسيم تحالفاتها وانقساماتها وتجاذباتها. فالكل كان على موعد تاريخي غير منتظر سقط على المنطقة بلحظة زمنية ودفعها إلى الانزلاق نحو مواجهة سياسية- عسكرية أدت إلى انجراف الدول إلى عقد تحالفات ومساومات وتنازلات ساهمت في رفع نسبة التدخل الدولي في شئونها.
التدخل الدولي لم يتوقف منذ ذاك الشهر. فهو ظهر بأشكال مختلفة وتمدد بألوان متنوعة واستقر وتكيف حتى أصبح الآن يتدخل يوميا في التفصيلات الكبيرة والصغيرة. 19 عاما انقضى على ذاك الحدث المدمر ولاتزال المنطقة تدفع ثمن تلك اللحظة وتتقبل تداعياتها راضية أو مكرهة.
خريطة العراق السياسية لم تعد موجودة إلا على الورق ووحدته الوطنية وهويته العربية ودولته المركزية تمزقت وتشرذمت وتوزعت على مناطق طائفية وولاءات مذهبية وأقوامية. الكويت لم تخرج حتى الآن من نتائج الأزمة وهي تتأرجح بين عراق مضى وآخر يتشكل ولاتدري كيف ستكون هيئته وكيف ستتعامل معه ويتعاطى معها. إيران أيضا ربحت من تبخر نظام صدام حسين وتقوض الدولة العراقية وتموضع الفوضى في ساحة بلاد الرافدين ولكنها لم تنجح في ترتيب علاقات تضمن استقرارها في المحيط من دون خوف أو تخويف. فإيران بدورها تتأرجح بين صورة دولة عراقية موحدة تتعايش معها في إطار جغرافي أو هيئة عراقية مشرذمة تتواصل معها مذهبيا في قنوات ملتوية تثير القلق وترفع من حرارة التوتر في الجوار الإقليمي.
دول الخليج العربية من جانبها لم تستقر نفسيا حتى الآن. فهي ترى أن المنطقة تخلصت من خطر صدام ومخاطر نظام ايديولوجي يمتلك نزعة قومية تتجاوز حدود بلاد الرافدين ولكنها في المقابل بدأت تتورط في أزمة إقليمية ناجمة عن الفراغ الأمني الذي تولد بغياب الدولة العراقية ونهوض قوة عسكرية في إيران قد تدفع المنطقة إلى العسكرة وسباق جديد على التسلح (المظلة النووية مثلا).
ما سبق وتوقعته صحيفة «صندي تايمز» في قراءة مستقبل «الشرق الأوسط» حصل وتحديدا في مسألة «أنه لن يعود كما كان». الآن وبعد مرور تلك الحقبة الزمنية على ذاك الحدث المزلزل لم يعد السؤال عن أن «الشرق الأوسط» لن يعود كما كان بل عن كيف سيكون في الفترة المقبلة. هل يتوقف التدهور السياسي وتستقر المنطقة على معادلة أمنية ترضي مختلف الأطراف الإقليمية أم يستمر التدهور وتتداعى علاقات دول المنطقة نحو مزيد من عدم الاستقرار؟
الجواب يتوقف على مجموعة عناصر تبدأ بالسياسة الأميركية واستراتيجية إدارة باراك أوباما المقبلة وتنتهي بمدى استجابة «إسرائيل» لدعوات السلام العربية والتفاهم على صيغة تؤدي إلى جعل «الشرق الأوسط» منطقة خالية من السلاح النووي.
إدارة واشنطن لاتزال تواصل دراسة المواقف وتكثف اتصالاتها ويرجح أن تأخذ المزيد من الوقت لإعادة إنتاج استراتيجية بديلة عن مشروع جورج بوش التقويضي. والفترة الإضافية التي ستأخذها الولايات المتحدة قبل الإعلان عن مشروعها محكومة بمدى قدرتها على توضيح تصوراتها بشأن التعامل مع تل أبيب والتعاطي مع طهران. فالمشكلة الأميركية ليست مع الدول العربية وإنما مع «إسرائيل» وإيران.
هل تتجه واشنطن إلى مد الخطوط والقنوات والتواصل الإقليمي حتى تضمن الاستقرار وتؤسس قواعد عمل ترشد القوى المعنية للسير سويا في خريطة طريق «الشرق الأوسط»؟ هل تتردد واشنطن وتبدأ بمراجعة الملفات من زاوية تقارب رؤية بوش (سياسة الزعزعة والتقويض) من دون التورط في نزاعات ميدانية؟ هل تستمر واشنطن في إرسال إشارات متعارضة تتراوح بين التطبيع والتموضع لكسب الوقت والتعرف على النهايات التي ستستقر عليها أزمة إيران الداخلية؟
مهما كانت الأجوبة الأميركية المنتظرة بدأت تنمو في الأفق القريب معادلات إقليمية أخذت تؤثر على خريطة توازن القوة في «الشرق الأوسط». هناك قوة اقتصادية - مالية صاعدة تتركز على نمو الكتلة الخليجية العربية (دول مجلس التعاون) التي بدأت الدول الكبرى تحسب حسابها وأخذت تشاركها في لقاءات «قمة الدول العشرين» للبحث في إيجاد مخارج لأزمة النقد العالمية. وهناك قوة عسكرية صاعدة تتركز على نمو «تيار المحافظين الجدد» في إيران واحتمال فرض سيطرته على مفاصل الدولة ومصادر الثروة وتوظيفها في فضاء ايديولوجي يطمح لمد نفوذه في المحيط الجغرافي. وهناك قوة سياسية صاعدة أخذت تتشكل في الأناضول مستفيدة من موقعها الجغرافي (نقطة تقاطع بين الشرق والغرب) ودور تركيا التاريخي في المرحلة العثمانية.
هذه القوى الإقليمية (الاقتصادية والعسكرية والسياسية) الثلاث نجحت في التكيف مع المتغيرات التي طرأت خلال مرحلة الانقضاض الأميركي على منطقة «الشرق الأوسط» عقب انفجار أزمة الكويت في أغسطس 1990. الدول الخليجية تأقلمت اقتصاديا مع حربين وتعايشت مع الفوضى وعدم الاستقرار ونجحت في تحمل الخسائر وضاعفت احتياطها النقدي وواصلت تطوير البنى التحتية وشبكة المصارف والعقارات. إيران تأقلمت عسكريا مع المتغيرات التي حدثت في محيطها الجغرافي- السياسي وأخذت تموضع نفوذها في العراق وأفغانستان واستكملت تطوير برنامج التسلح إلى درجة أن أحد قادة «الحرس الثوري» كشف أمس الأول عن معاناة طهران من ضعف قدراتها على تخزين الفائض من منتوجاتها من الصواريخ. وتركيا بدورها تأقلمت سياسيا مع المتغيرات الداخلية (توقف ظاهرة الانقلابات العسكرية) وبحثت عن بدائل إقليمية في دول الجوار الجغرافي بعد انسداد آفاق دخولها إلى سوق الاتحاد الأوروبي.
هذه القوى الإقليمية الصاعدة في «الشرق الأوسط» جاءت في سياق الانقلاب الصاعق الذي انفجر فجأة في أغسطس 1990 وأدت تداعياته إلى تعديل خريطة المنطقة وإعادة تشكيل هيئة التحالفات بسبب نمو مواقع وتراجع مواقع كما توقعت الصحيفة البريطانية أن يحصل. «الشرق الأوسط» لم يعد كما كان قبل 19 سنة ولكن السؤال اللغز لايزال يدور حول كيف سيكون في الفترة المقبلة؟ الجواب يعتمد كثيرا على إدارة أوباما وكيف ستتعامل مع هذه المتغيرات والمعطيات. فالإدارة لاتزال في طور المراجعة وهي أخذت فترة إضافية للتعرف أكثر على تعقيدات المنطقة وملفاتها الساخنة... وبعدها سيكون لكل حادث حديث.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2523 - الأحد 02 أغسطس 2009م الموافق 10 شعبان 1430هـ