من واشنطن، وبهدوئه المميز، وصوته الخجول الذي يكاد أن يسمع، وبعد أن أشاد «بجهود الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون من أجل إحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط وإنهاء النزاع وتحويل موارد المنطقة من الحرب والدمار إلى السلام والتنمية»، وبعد أن شدد على «أهمية العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة الأميركية وأنها تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة»، فجر وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل قنبلته السياسية التي تشكك في جدوى «الدعوة للتطبيع ومقاربة الخطوة خطوة والأمن المؤقت وإجراءات بناء الثقة لن تجلب السلام»، التي تحاول أن تروج لها كلينتون، سوية مع بعض القوى المتطرفة داخل المؤسسة الصهيونية، كما جاء في تصريحها الصحافي، الذي بعد أن أكدت فيه على أن «موقف القيادة السعودية أمر حيوي لتحقيق السلام الشامل والدائم»، عادت كي تدعو الدول العربية بما فيها السعودية «للعمل معنا لاتخاذ خطوات لتحسين العلاقات مع (إسرائيل) ودعم السلطة الفلسطينية وإعداد الشعب لاحتضان سلام محتمل بين الفلسطينيين والإسرائيليين».
ولم يترك الوزير السعودي الحبل على الغارب، فوجدناه يدعو إلى «مقاربة شاملة تحدد النتيجة النهائية منذ البداية وتطلق مفاوضات السلام حول قضايا الوضع النهائي والحدود والقدس واللاجئين والمياه والأرض»، متهما «إسرائيل»، وبشكل واضح بأنها «تحاول صرف الانتباه عبر تحويل الأنظار عن القضية الرئيسية وهي إنهاء الاحتلال للأراضي العربية منذ العام 1967م وإنشاء دولة فلسطينية إلى قضايا عرضية مثل الاهتمامات الأكاديمية ووسائل الطيران المدني... إلخ»، مثيرا من خلال هذه التصريحات مجموعة من القضايا الجوهرية التي تستحق التوقف عندها نظرا للأهمية التي تكتنفها تلك قضايا والمشروعات، لكونها تأتي من شخصية سياسية مثل سعود الفيصل لها بصماتها الواضحة على رسم معالم السياسة الخارجية السعودية، وتحظى باحترام وقبول الكثير من الأوساط السياسية العالمية، ومؤسسات صنع القرار فيها.
لذا ينبغي لنا قراءة ما جاء في التصريحات الفيصلية من خلال المداخل التالية:
1. ترحيب وواضح ومسئول بالتحولات الطفيفة التي طرأت على السياسة الأميركية منذ وصول أوباما إلى السلطة، دون إغفال تلك التباينات الواضحة، على ضآلتها، بين كلينتون وأوباما من جهة، ودون التفريط في قضايا عربية كبرى، في صلب الصراع العربي - الإسرائيلي، ودافعت عنها المبادرة العربية للسلام التي تقودها السعودية منذ العام 2005، من جهة ثانية.
2. رد صريح على كل الدعوات التي طفت مؤخرا على سطح مشروعات السلام في الشرق الأوسط، والتي عكست محاولة غير مبررة لجلد الذات العربية من خلال تحميلها الطرف العربي المسئولية كاملة في استمرار الصراع العربي الإسرائيلي، والفشل في الوصول إلى أية حلول جذرية له، وبالقدر ذاته محاولة غير مدروسة حاولت تبرئة ساحة الذمة الإسرائيلية من أية مسئولية على هذا الصعيد، والأوهام التي حاول البعض الترويج لها في استعداد «إسرائيل»، وعدم رغبة العرب في القبول بمشروعات السلام التي وافقت عليها المواثيق الدولية بما فيها تلك المعمول بها في الأمم المتحدة.
3. حرص شديد، مدروس بعناية على تحاشي السلوك العربي السياسي المتهور الرافض للمشروعات الدولية، دون أن يطرح البديل العملي القابل للتطبيق والمقبول به في الأوساط العالمية غير المنحازة في الصراع من جهة، والتقدم بمشروع نال موافقة الأغلبية العربية، بما فيها الطرف الفلسطيني من جهة ثانية، والذي هو المبادرة العربية للسلام من جهة ثانية.
ولابد لنا هنا من التأكيد على أهمية الموقف السعودي، وفي هذه المرحلة بالذات من خلال الإشارة إلى النقاط التالية:
1. يأتي هذا الموقف في مرحلة مبكرة من مجيء الإدارة الأميركية الجديدة إلى السلطة، ومن ثم فأمام الرئيس الأميركي اليوم، إن هو أراد المشاركة في مشروعات السلام العادلة، وغير المتحيزة لـ»إسرائيل»، في الشرق الأوسط، فرصة حقيقية وفترة كافية لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه في هذا الصدد.
2. يطرح هذه المشروعات، أحد حلفاء أميركا الاستراتيجيين في المنطقة، والذي هو السعودية، ليس على الصعيد السياسي فحسب، وإنما على المستوى الاقتصادي أيضا. فالنفط السعودي، هو أهم مزود للطاقة في الولايات المتحدة، وتعود ملكية نسبة عالية من رؤوس الأموال الإسلامية المستثمرة في السوق الأميركية، إلى مؤسسات وشخصيات سعودية أو بمباركة السعودية، لما لها من حظوة في الدول الإسلامية.
3. تمتلك السعودية علاقات حسنة مع معظم الدول العربية، الأمر الذي أهلها لأن تمارس دورا قياديا في مؤسسات إقليمية مثل جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، عززته المساعدات الاقتصادية، والاستثمارات السعودية للعديد من دول المنطقة، ومن بينها دول معنية مباشرة بالصراع العربي الإسرائيلي مثل: لبنان، وسورية، ومصر.
همسة صادقة نسر بها في آذان وزير الخارجية السعودية، وهي أن القوى المتطرفة في صفوف المؤسسة الصهيونية، داخل «إسرائيل» وخارجها، ستكون، وهو أمر طبيعي، أكثر الجهات فهما للخطورة التي تحملها تصريحاتكم تلك، ولذا فليس من المستبعد، بل لربما من المتوقع أن تبادر تلك القوى إلى دفع «إسرائيل» لاتخاذ خطوة احترازية تستهدف «قصف» الحضور السعودي في الأوساط الدولية، وعلى وجه الخصوص في الولايات المتحدة، من أجل تقليم «الأظافر السعودية»، ووأد مبادراتها الداعية لسلام حقيقي، من المستحيل أن تقبل به، دع عنك أن تكون قادرة على أن تتعايش معه تلك القوى الصهيونية، التي لا يمكنها التنفس في أية بيئة مناسبة للسلام.
من هنا، فلربما آن الأوان أن تحاول السعودية أن توسع من تحالفاتها الدولية، كي لا تقتصر، في بعدها الاستراتيجي في الاعتماد كثيرا، كما هو حاصل الآن، على الولايات المتحدة فحسب، بل إن تشمل أيضا، دون التفريط بالعلاقات مع واشنطن، دولا وكتلا سايسية أخرى
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2522 - السبت 01 أغسطس 2009م الموافق 10 شعبان 1430هـ