التقرير الذي صدر في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) عن البنك الدولي وتناول اقتصادات دول العالم (الناتج المحلي) وتصنيف ترتيبها في جدول تنازلي يستحق التوقف لإعادة قراءة موازين القوى الدولية والتعرف على مصادر الثروة وتوزعها في العالم. ويكتسب التقرير (راجع صحيفة «الحياة» عدد أمس) هذه السنة أهمية خاصة لأنه الأول من نوعه بعد أزمة النقد العالمية وانهيار البورصات وأسواق المال وتبخر 50 تريليون من ثروات العالم في أسبوع. كذلك يحتل التقرير موقعه الاستثنائي في ظل رصد حركة التقدم أو التراجع في مراتب الدول وموقع الاقتصاد العربي في عصر التكتلات الإقليمية.
التقرير يعتمد لغة الأرقام ويقرأ القوة والضعف من ميزان الاقتصاد والناتج المحلي والمداخيل الفردية والنمو والتنمية والاستثمار على أساس المساحة والجغرافيا البشرية (تعداد السكان). وهذه اللغة مطلوبة أحيانا لتصحيح بعض الانفعالات الايديولوجية التي ترسم صورة غير دقيقة عن موازين القوة وصعود الأمم وهبوطها.
مثلا التقرير يؤكد أن الولايات المتحدة لاتزال تحتل المرتبة الأولى في التصنيف العالمي على رغم كل الكوارث التي ألحقها «تيار المحافظين الجدد» في عهد جورج بوش بموقع أميركا الدولي. فهذه الدولة حافظت على مركزها الأول (14.2 تريليون دولار) في ناتجها المحلي بينما جاءت 15 دولة من الاتحاد الأوروبي (دول منطقة اليورو فقط) في المرتبة الثانية (13.5 تريليون دولار).
أميركا إذا لاتزال الدولة الأولى اقتصاديا على رغم كل التحليلات والتوقعات التي رجحت نمو الاقتصاد الأوروبي مجتمعا ليحتل الموقع الأول. وهذا الأمر يشير إلى أن التحليلات تبالغ أحيانا وتتسرع في إطلاق الاستنتاجات الايديولوجية من دون مراجعة الملفات الرقمية.
احتفاظ أميركا بالمرتبة الأولى لا يعني أن اقتصادات الدول لم تتغير أو أن تصنيفها لم يتبدل. فهناك متحولات حصلت في أكثر من مكان وجهة وهي تؤشر فعلا إلى حصول تبدلات في المواقع. مثلا اليابان كدولة منفردة حافظت على المرتبة الثانية بعد أميركا (4.9 تريليون دولار) على رغم كل ما قيل عن جمود اقتصادها وتراجعه بعد تلك الأزمة التي عصفت بالأسواق الآسيوية (نمور آسيا) في تسعينات القرن الماضي.
حتى الآن لا تعديل على تراتب الدول. التغيير يبدأ بعد اليابان (الدولة الثانية) إذ قفزت الصين إلى المرتبة الثالثة في التصنيف العالمي (3.8 تريليون دولار) لتأتي قبل ألمانيا التي تراجعت إلى الموقع الرابع، ثم فرنسا الخامس، بريطانيا السادس، إيطاليا السابع.
الخريطة الاقتصادية الدولية لاتزال على حالها تقريبا من المرتبة الرابعة إلى السابعة. التغير يبدأ من الموقع الثامن إذ قفزت البرازيل لاحتلال هذه المرتبة المتقدمة في التصنيف العالمي لتتجاوز بذلك روسيا (الدولة التاسعة) وأسبانيا (العاشرة) وكندا (الحادية عشرة) والهند (الثانية عشرة) والمكسيك (الثالثة عشرة) واستراليا (الرابعة عشرة).
المتغيرات الحقيقية في الخريطة الدولية للاقتصاد العالمي تبدأ بعد الدول العشر الأولى إذ يزداد التنافس بين الدول النامية لاحتلال المواقع المتقدمة في لائحة الدول العشر الثانية. وهنا تبرز دول الهند والمكسيك واستراليا التي حققت قفزات غير مسبوقة لتضع بصماتها في مواقع متقدمة في الاقتصاد العالمي.
المفاجأة الكبرى تسجل عن حق لدول مجلس التعاون الخليجي التي نجحت في تحقيق قفزات اقتصادية وضعتها مجتمعة في موقع متقدم في الخريطة الدولية. دول الخليج الست اجتازت الكثير من المواقع واحتلت المرتبة الـ20 في التصنيف العالمي. ويرجح إذا استمرت على وتيرة نموها أن تتقدم في السنوات المقبلة لتأخذ موقع الـ18 وربما الـ16 في لائحة الدول الكبرى اقتصاديا.
المجموع العام لاقتصاد دول مجلس التعاون سجل 832 مليار دولار. وحصة المملكة العربية السعودية (نحو 25 مليون نسمة) من المجموع أساسية إذ احتلت الموقع الأول عربيا (468 مليار دولار) والمرتبة الـ23 في التصنيف العالمي. بينما إيران مثلا احتلت المرتبة الـ26 (386 مليارا) وهي تأتي بست درجات وراء مجموع اقتصاد دول مجلس التعاون.
الخليج والمحيط
هناك ثوابت ومتغيرات. والمتغيرات تكشف عن دلالات تؤشر إلى اختلاف لغة الأرقام عن الصواريخ الايديولوجية أو الكثافة السكانية. مصر مثلا كانت الأولى اقتصاديا وسكانيا في الخمسينات والستينات في القرن الماضي، وهي لاتزال الأعلى في التعداد السكاني لكنها اقتصاديا جاءت الرابعة عربيا (بعد السعودية والجزائر والإمارات) واحتلت الموقع 50 عالميا. اقتصاد دول المغرب العربي (ليبيا، تونس، الجزائر، والمغرب) جاء ثانيا بعد دول مجلس التعاون إذ سجل مجموع الناتج المحلي 400 مليار دولار. واحتل اقتصاد مصر والسودان (120 مليون نسمة) الموقع الثالث عربيا وسجل الناتج المحلي 220 مليار دولار.
المحصلة العامة تؤشر إلى أن الاقتصاد العربي يتحسن إذ سجل خطوات حثيثة متقدمة في السنوات الأخيرة على رغم الحروب والانقسامات والتجاذبات وغيرها من سلبيات وتجاوزات (الحريات وحقوق الإنسان) وتعطيل السياسة والمصالحة. فالاقتصاد العربي تخطى حدود 1600 مليار دولار ما يعني أنه أخذ يحتل مكانة متقدمة في الخريطة الدولية تضعه مجتمعا في مصاف لائحة الدول العشر الثانية بعد العشر الأول. إلا أن حدود التقدم الاقتصادي العربي في الناتج العام المحلي يتعرض لكوابح سياسية كبرى بسبب انتشار الفساد والفوضى والانقلابات العسكرية والاضطرابات الأهلية. الصومال مثلا خرج من التصنيف، كذلك موريتانيا وفلسطين (الضفة وغزة) بينما العراق (النموذج الأميركي الباهر) احتل موقع أسوأ دولة في العالم من ناحية ترتيبه الاقتصادي بسبب وجود حكومة كسرت الأرقام القياسية في الفساد والسرقة والنهب والسلب وتهريب الأموال وتفقير الشعب.
المراجعة العامة للاقتصاد العربي تؤكد أن دول مجلس التعاون يشكل اقتصادها مجتمعا نحو نصف الناتج العربي العام، واقتصاد دول المغرب العربي نحو ربع الناتج العربي العام. وما تبقى لا يتجاوز 400 مليار دولار تتقاسمه مصر والسودان وسورية ولبنان واليمن وغيرها من دول هامشية أو طرفية.
المسألة ليست في الايديولوجيا والشعارات والكلام العبثي عن الإنجازات وإنما في الأرقام. ولغة الأرقام تعيد رسم خريطة سياسية متخالفة مع الأقوال لأنها تستطيع تعديل التوازنات أو على الأقل تساهم في تدوير الزاويا ووضعها في إطار الجغرافيا الاقتصادية الصحيح. لبنان مثلا الذي يعاني من حروب واعتداءات وفوضى سياسية وأهلية ويتعرض دائما لضربات مدمرة من «إسرائيل» ولا يتجاوز تعداده السكاني الملايين الأربعة حقق اقتصاده بعض التقدم إذ بلغ الناتج المحلي نحو 29 مليارا (المرتبة 83 في التصنيف العالمي) بينما سورية (21 مليون نسمة) التي تمر بمرحلة استقرار سياسي وهدنة عسكرية دائمة مع «إسرائيل» سجل الناتج المحلي لاقتصادها 56 مليارا (المرتبة 65). وبالقياس (المفاضلة السكانية والجغرافية) بين الطرفين يحتل لبنان الموقع الأحسن إذ إن اقتصاده احتل مرتبة متقدمة على اليمن مثلا (23 مليون نسمة). فاليمن سجل اقتصاده 27 مليارا من الناتج المحلي (المرتبة 85 في التصنيف العالمي).
خريطة العالم الاقتصادية لاشك تتغير. والاقتصاد العربي (وتحديدا الخليجي) حقق خطوات تحسب له في إطار تفهم الصعوبات التي تواجه دوله بسبب سلسلة الحروب الدائمة في المنطقة. ومقارنة مع القوى النامية تعتبر دول مجلس التعاون في موقع الأفضل قياسا مع الماضي القريب. فالمجلس تأسس في مطلع الثمانينات من القرن الماضي لاعتبارات أمنية ولكنه نجح في تخطي الكثير من الحواجز والعقبات وهذه نقطة إيجابية توضع في ميزان الحسابات العامة. هناك الكثير من الثغرات وهي تتركز على ضعف نمو العملية السياسية مقارنة بالنمو المتسارع في البنية الاقتصادية. وهذا التفاوت بين السياسة والاقتصاد يشكل هوة في إطار التعادل ما يتطلب الانتباه لردم هذه الفجوة حتى لا تتحول إلى ثغرة تزعزع التوازن بين السكان والناتج المحلي الخليجي في المستقبل.
عموما يشكل التقرير الذي صدر الشهر الماضي عن البنك الدولي بشأن تصنيف اقتصادات دول العالم وتراتبها في العام 2008 مناسبة لإعادة قراءة السياسة بلغة الأرقام لا الايديولوجيا. فالايديولوجيا تزوير للواقع وغطاء تتخذه بعض الأنظمة للتهرب من المسئولية والواجبات. بينما الأرقام تقرأ المعادلة ضمن نمط يحترم الحد الأدنى من الوقائع التي تخضع لموازنة العقل ولا تنجرف وراء «الصواريخ البخارية» و»الشعارات العنترية». فمن يريد المشاركة في معالجة مشكلات العالم وأزماته عليه أن يعمل على تطوير لغة الاقتصاد الرقمية ويخفف من قنابله الصوتية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2522 - السبت 01 أغسطس 2009م الموافق 10 شعبان 1430هـ