ركبْت القطار عند بلوغي سن العشرين إلى محرقة أوشويتز. كنت وبفضل عشر سنوات في مخيم صيفي كان رواده من اليهود بشكل كامل تقريبا، في الجبال البيضاء بولاية نيوهامبشاير، الفتى العربي الوحيد على الأرجح الذي نشأ وفي قلبه رهبة من المحرقة. قمت بمبادرة شخصية بمشاهدة المكان بأم عيني، وهو مكان يعتبر وجوده حقيقة مطلقة عند البعض، لدرجة أن إنكاره يشكّل جنحة يعاقب عليها القانون في بعض الدول. وأكد لي هؤلاء الذين لا يؤمنون بوجوده أنه نسج من الخيال. هذا حوار يحصل عادة حول وجود الجنة، ولكن ما شاهدته كان الجحيم بعينه.
حدث ذلك في يوم شتاء ماطر كئيب. وصلت إلى برلين، ومنها إلى كراكاو، حيث استقليت سيارة أجرة إلى المعسكر. تجولت في أرجائه محاولا استيعاب ما لا يمكن فهمه. زرت في شتاء تلك السنة كذلك معسكرات تيريزن في تشيكوسلوفاكيا وداكاو في ألمانيا، محاولا فهم المستحيل. أذكر أنني تمنيت لو استطعت العودة إلى الأيام التي كان فيها المعسكر الذي راودته في طفولتي هو المعسكر اليهودي الوحيد الذي وطأته قدماي.
ركبت طائرة قبل ثلاثين سنة إلى معسكر روبن هود. كان والداي يرغبان أن أعمل على تحسين لغتي الإنجليزية. كانت أميركا هي المستقبل. أنشأت صداقات في المعسكر، وقرأت وكتبت وتأمَّلت. أصبحت متيّما بالأدب الروائي الخيالي والاحتمالات اللا نهائية الموجودة بين صفحات الكتب. تعلمت عن الطبيعة الازدواجية للروايات، وأن بعض الأمور التي نشأت معتقدا أنها حقيقة كانت زيفا، فقمت بردّ الجميل. كانت أكثر الدروس التي تعلمتها بروزا أهمية الأدراك الحسّي في تشكيل الآراء ووجهات النظر. وقمت فيما بعد بترسيخ تلك المعرفة من خلال دراستي وتدريبي كاختصاصي نفسي.
قابلت في العام 1996 الدكتور كوتي، اختصاصي البصر في مانهاتن، للمرة الأولى. عندما أخبرته أنني من الكويت، سألني بأسلوب بياني يهدف إلى مباشرة حوار إذا كنت أعرف أصل كلمة كوتي، مجيبا أنها تصغير لكلمة كويتي. يبدو أن طبيب العيون هذا يهودي كويتي من الجيل الرابع، مولود في نيويورك. يا له من عالم صغير. كان يمكن أن يكون، بل يجب أن يكون، طبيب عيوني في الكويت.
يسهل أن ننسى أن المكان الوحيد، خلال ألف سنة مضت، لأن يكون المرء يهوديا ويشعر بالأمن والسلامة هو بين العرب. لقد أخجل تاريخ الاضطهاد الرهيب لليهود في أوروبا والذي انتهى بالمحرقة، أخجل العالم وعَمِل على تسريع عملية الاعتراف بالحاجة لإيجاد ملاذ آمن للشعب اليهودي. إلا أن ما فاز به شعب سرعان ما أصبح خسارة لشعب آخر.
ليس هناك مجال للهروب من حقيقة أن إيجاد وطن للناجين من واحدة من أكثر مآسي التاريخ رهبة هو بحد ذاته مأساة جارية لسكان ذلك الوطن، تماما مثلما لا نستطيع الهروب من الحقيقة الرهيبة لهؤلاء الذين قضوا في عنابر الغازات السامة في معسكرات الاعتقال. هذه حقائق متبادلة، ولا يستطيع المرء قبول واحدة منها دون قبول الأخرى، فعمل ذلك يشكّل رياء أخلاقيا وفكريا، ويشكّل بكل صراحة أسوأ أنواع الأدب الروائي الخيالي.
يذهب أطفالي اليوم إلى معسكر روبن هود. آمل أن يكبروا وفي قلوبهم رهبة من المحرقة كما حصل معي. وآمل أن ينشأ زملاؤهم في المخيم وفي قلوبهم رهبة من أن يصحوا في يوم من الأيام ليجدوا أن مجموعة من الذين نجوا من مجزرة رهيبة يُسمح لها اليوم أن تحتل بيوتهم مستخدمة كتابا مقدسا كوثيقة ملكية.
يمكن للتغيير الحقيقي أن يتم من خلال تفاعلات من هذا النوع. قد يعود الجيل الخامس من عائلة الدكتور كوتي إلى الكويت لممارسة أعمالهم هناك. سوف أرّبي أطفالي بالتأكيد للترحيب باحتمالات كهذه.
إلا أن الأمر يحتاج لأكثر من جهود فردية ترتكز على تجارب ذات طابع يتّسم بالخصوصية لتحقيق تغيير ذي معنى وشأن. سوف يتطلب الأمر جهودا حثيثة من جانب الهيئات التربوية والترفيهية في أماكن جرت فيها مأسسة الإجحاف والتحامل، يتم فيها طرح الخيال بشكل روتيني على أنه حقيقي، والحقيقة على أنها خيال.
عندما قمت بابتكار سلسلة (الـ 99) المستوحاة من الثقافة الإسلامية، عملت جاهدا لضمان أن يأتي الأبطال من تسعة وتسعين بلدا، لمحاربة هذه التحيزات وذلك الإجحاف. كنت أظن أنه سيتوجب علي العمل وحيدا، ولكن تبيّن أنني كنت على خطأ.
لقد وحّدت (الـ 99) قواها مع رابطة العدالة الأميركية التابعة لـ «دي سي كومكس». من خلال العمل مع نظراء مثل سوبرمان وباتمان والمرأة العجيبة (وندروومان)، سيبذل أبطال (ألـ 99) جهودهم لتطبيق رسالة الرئيس أوباما الأخيرة في مجال التسامح الثقافي.
لا يجري تعريف (الـ 99) ورابطة العدالة الأميركية أبدا من خلال توجهاتهما الدينية، ولكن النماذج الأصلية التي ترتكز عليها هاتان الملكيتان الفكريتان واضحة جليّة، وسوف تقومان معا على الأرجح ببحث قضايا تتعلق بالثقة والتعددية الثقافية وكيف يرى الناس، الحقيقيون والخارقون، بعضهم بعضا. تخيّل الأمور الحسنة التي يمكن أن تنتج عن حوار صريح بين بطلة من أبطال (ألـ 99) تلبس المبرقعة، «باطنة المخفية»، ووندر وومن، الـ... غير المخفية كثيرا، من رابطة العدالة الأميركية.
إذا استطعنا إظهار كيف يتم تشكيل المدركات الحسيّة بشكل غير عادل أو متوازن، نستطيع تحقيق قفزات واسعة عظيمة، بحركة واحدة، نحو إعادة تشكيل هذه المدركات. وهل هناك من شخصيات أفضل لبحث قضايا كهذه من سوبرمان وباتمان اللذين قام بإيجادهما رجال يهود من نيويورك وكليفلاند في فترة تميزت بشدة اللا سامية، و(الـ 99) التي أوجدها مسلم في قمة فترة الرهاب الإسلامي؟
*ابتكر مجموعة (الـ 99) وهي مجموعة اشتهرت عالميّا من كبار الأبطال بحسب النماذج الإسلامية البارزة، وقد حصل المطوع على جائزة مؤسسة شواب لرجل السنة في الإبداع الاجتماعي في المنتدى الاقتصادي العالمي، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2521 - الجمعة 31 يوليو 2009م الموافق 08 شعبان 1430هـ