العدد 2232 - الأربعاء 15 أكتوبر 2008م الموافق 14 شوال 1429هـ

مذكرات عبدالرحمن...انتفاضة مارس 1965 وإعادة تنظيم حركة القوميين العرب

كان لانتفاضة مارس/آذار في البحرين انعكاساتها الكبيرة على الحركة السياسية والطلابية البحرينية في تلك الفترة.

فبالرغم من مشاركة جميع الأطراف السياسية في هذه الانتفاضة العمّالية ـ الشعبية التي مثلت أبرز نهوض شعبي بعد هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينيات، إلاّ أنّ العناصر البعثية التي لم يكن أحد ينكر دورها الكبير في الانتفاضة قد فضلت عدم الدخول في البازار السياسي، بينما دخلت حركة القوميين العرب، وجبهة التحرير الوطني في الصراع على التسمية وعلى التوقيت لاحقا ضمن الصراعات التي برزت بين الجبهة الشعبية وجبهة التحرير (هل هي في 5 مارس أم 9 مارس).

لم يتردد البعثيون في المشاركة في كلّ التظاهرات الطلابية والعمّالية والشعبية التي جرت طيلة تلك الفترة بصمت من دون أنْ يطلبوا شكرا أو ثوابا من القوى السياسية الأخرى، ومن دون أن يطلبوا الإشارة إلى دورهم في البيانات التي صدرت في تلك الفترة، وكان من الواضح أنّ حزب البعث العربي الاشتراكي يملك تنظيما لديه الكادر والقاعدة الحزبية، وقدم الكثير من المناضلين إلى السجون في تلك الفترة أبرزهم الأستاذ حسين قاسم الذي تعرّض للتعذيب البشع، كما كان لديهم الحضور الطلابي والعمّالي والنخبوي في الكثير من المواقع. وحيث إن الصمت يلف تاريخ الحزب، فإن من الواجب على أعضائه انصاف دوره وتسجيل الدور الكبير الذي قام به طيلة الفترة السابقة حتى لحظة التحوّل للعمل العلني حتى واجهة التجمّع القومي، او العمل الديمقراطي او سواهما من واجهات العمل الوطني والقومي في البحرين.

وعلى صعيد حركة القوميين العرب فقد وجدت في انتفاضة مارس 1965 الفرصة لإصدار سلسلة من الأسماء التنظيمية التي كان واضحا أنها واجهات لها (الطلبة والعمّال) حيث تضمن البيان الأول اسماء ست تنظيمات من بينها حركة القوميين العرب وجبهة التحرير الوطني، وكان واضحا أن الصراعات على المستوى القومي قد عكست نفسها على المستوى المحلي بين القوميين والشيوعيين، حيث أصرت الحركة أن تكون البيانات اللاحقة بمسمّى جبهة القوى القومية بينما أصّرت جبهة التحرير على أنْ تكون التسمية باسم جبهة القوى التقدّمية.أصرّت الاولى على تسمية جبهة القوى القومية للتأكيد على عروبة البحرين وما حملته الحركة في تلك الفترة من نزعة شوفينية معادية لكلّ مَنْ هو من أصول إيرانية معتبرة الصراع في/ وعلى البحرين على أنه صراع عربي إيراني، وبالتالي تعيب على جبهة التحرير عدم اهتمامها بالمسألة القومية وأن من مؤسسيها مَنْ كان في حزب توده أو تغلغل الجبهة وسط القطاعات الشعبية من هذه الأقليات. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كانت الحركة تتمثل تجربة نظيرتها في اليمن الجنوبي، بعد انطلاق الثورة المسلّحة في 14 اكتوبر/تشرين الأول 1963 بقيادة الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، حيث برز الصراع هناك شبيها بين الحركيين وسائر القوى السياسية (البعث والشيوعيين، كامتداد للصراع المشرقي بعد مجازر الموصل العام 1959 ضد القوميين ومجازر الحرس القومي ضد الشيوعيين 1963، وبعد فشل محادثات الوحدة الثلاثية وتصاعد الصراع في العراق وسورية بين القوميين ـ الناصريين من جهة والبعثيين من جهة ثانية، ونجاح حزب البعث في إقصاء الرموز الناصرية والقومية كافة عن السلطة) وأصرّت الحركة على تسمية الجبهة القومية وعلى دورها في العملية الثورية منعكسا في التسمية، بينما دفعت القيادة الناصرية الى تحالف سياسي آخر باسم جبهة التحرير بقيادة الأصنج والمكاوي, وأجبرت الجبهة القومية على الانخراط فيه في 13 يناير/كانون الثاني 1964، ولم تتردد المخابرات المصرية عن اعتقال بعض القيادات القومية التي رفضت الاندماج، لكن الأحداث كنست هذه التجربة حيث برهنت الجبهة القومية على ثقلها العسكري الكبير في ساحة الصراع، بالإضافة الى انحياز عدد كبير من العسكريين من جيش الجنوب إلى جانبها (وكان البعض يرى أن هذا ارتباطا بريطانيا او اختراقا بريطانيا للجبهة القومية جعلها قادرة على حسم الصراع بينها وبين جبهة التحرير في المعارك الشرسة التي دارت للاستيلاء على عدن وضواحيها في المنصورة والشيخ عثمان وكريتر وغيرها العام 1967، وبات الناصريون المعادون للجبهة القومية يغمزون من هذه القناة في حديثهم عن حقيقة الانتصار الذي حققته الجبهة القومية واستلامها السلطة بعد المفاوضات مع بريطانيا في الثلاثين من نوفمبر/تشرين الثاني 1967، حيث كان ذلك أول انتصار عربي تحققه قوى الثورة القومية بعد هزيمة يونيو/حزيران المدوّية مع «إسرائيل»، ولا يجب أن نستبعد المخطط البريطاني في الجنوب اليمني الشبيه بالمخطط الفرنسي في الجزائر عندما أوحت لرجالاتها الجزائريين في الجيش الفرنسي بالانحياز ـ في اللحظات الاخيرة لحرب التحرير وأثناء مفاوضات ايفان 1960ـ لجبهة التحرير الجزائرية؛ ليشكلوا القنبلة التي يمكن تفجيرها في اللحظة المناسبة، وحيث نجحت فرنسا في الجزائر، فإنّ بريطانيا فشلت في الجنوب اليمني؛ نظرا لحدة الصراع الإيديولوجي الذي ساد الجبهة القومية وقدرة اليسار على كسب المعركة ضد اليمين وضد مخلّفات بريطانيا، حيث قام وزير الدفاع (علي سالم البيض) في أول حكومة يمنية بقيادة قحطان الشعبي، في أوائل 1968، بطرد الضباط البريطانيين كافة وعددهم أكثر من 150 ضابطا في خطوة دراماتيكية دفع ثمنها وزير الدفاع نفسه لاحقا بإقصائه من الوزارة!).

باتت البيانات التي تصدر عن الانتفاضة في البحرين باسم الجبهة القومية، وباسم جبهة القوى التقدّمية وهما في الحقيقة حركة القوميين العرب وجبهة التحرير الوطني.. وامتدّت هذه الصراعات على الحركة الطلابية، من دون أنْ تؤثر كثيرا فيها حيث كانت القيادات الطلابية البحرينية في بيروت والقاهرة وبغداد والكويت بيد الحركة القومية، وأصبحت الروابط الطلابية في الخارج صوتا قويا للحركة السياسية وللانتفاضة.

وبالرغم من خطورة الصراع بين القوى الوطنية في إضعاف المقاومة الوطنية العنيفة أو السلمية، فقد كان واضحا أنّ ميزان القوى لصالح قوى الحماية البريطانية والأسرة الحاكمة، التي شنت سلسلة من الاعتقالات الواسعة التي طالت غالبية رموز الحركة القومية، ويمكن القول إنها قد وجهت ضربة كبيرة لها، بالإضافة الى الإشاعات الكثيرة التي تم تداولها عن اندساس عناصر مخابراتية في صفوف الحركة قامت بدور الدليل على مخابئ الأسلحة والتجمعات الحزبية، والمقرات السرية التي عادة ما يختبئ فيها المناضلون المطاردون.

**

وحيث كانت الساحة الطلابية ساحة إعداد الكادر الحزبي والسياسي للساحات العربية، فقد كان من الطبيعي أن ينظر إلى كلّ العناصر المتخرجة من بيروت أو غيرها على أنها ستلعب دورها القيادي في التنظيم الحزبي عندما تعود إلى ساحة الوطن.

وفي بيروت وجد الكثير من الطلبة والكادر الحزبي المتقدّم من ساحة الجزيرة العربية برمتها (بما فيها اليمن) وأسهم لاحقا في الخطوات التنظيمية اللاحقة، سواء في اليمن أو المملكة السعودية أو البحرين على ضوء التحوّلات العميقة التي جرت في الحركة القومية بعد هزيمة يونيو 1967، وشكلت الخلايا والرابطة الحزبية التي ضمت عددا مرموقا من اليمن والبحرين والسعودية نواة للعمل القادم والذي أسهم بدوره في العلاقات التاريخية بين ما افرزته الحركة القومية في هذه الساحات، بالاضافة الى ان رابطة طلبة البحرين ورابطة طلبة اليمن قد اتفقتا على استئجار مقر مشترك لهما في (شارع السادات بالحمراء ببيروت) عام 1965، لعب دوره في استضافة الكثير من القيادات الوطنية والقومية التقدمية، التي عبرت عن التوجهات اللاحقة لفرعي الحركة في هذين البلدين.

**

مع استلام شهادة التخرج في يونيو 1966 من الجامعة الأميركية، كلية الهندسة فرع الميكانيك، انتهت المرحلة الطلابية وبات الطريق مفتوحا لممارسة الحياة العملية، وبالرغم من أنّ طالب البعثة كان عليه أنْ يعود إلى البحرين للعمل مع الحكومة، إلا أن انتقال العائلة إلى قطر منذ العام 1961، أتاح فرصة التفتيش عن عمل هناك أو غيرها اذا أمكن. كانت المحاولة الأولى هي في الظهران، بالمملكة العربية السعودية.. ويبدو أن الحنين إلى سوق (الشريطية) قد قاد إلى أرامكو، فقلنا نجرّب الحظ من خلال أحد الأصدقاء الذي لم يتردد في تقديم ما يستطيع، إلا أن مدير التوظيف قد فاجئني بالملف الكبير الذي أخرجه لمعرفة السيرة الذاتية لي، ويبدو أنه من الجامعة الأميركية الحريصة على تقديم كلّ المعلومات عن طلبتها بما فيه نشاطاتهم السياسية وتوجّهاتهم الفكرية وأدق تفاصيل المعلومات عنهم، وبالتالي اعتذر عن توظيفي طالما أنّ هذا الملف يحمل كلّ هذه المعلومات (وعندما تحدّثت مع أحد الأصدقاء الذين كانوا معنا في الجامعة الأميركية من طلبة أرامكو، أكّد بأنّ الشركة تحرص على أنْ يكون لدى كل خريج من منطقة الخليج، في تلك الفترة، ملفه الخاص لديها)!!

بمحض الصدفة كان اللقاء الأوّل مع الدكتور حسين البحارنة. قال لي صاحبي هل تعرف إن الدكتور يشتغل مع أرامكو ومن المفيد التعرّف إليه، شربنا الشاي معه، ووجدنا أنه حديث العهد في الشركة ويصعب عليه بعد أن قال (الملف) كلمة الفصل أنْ يساعد في تشغيلي في ارامكو. أصرّ الوالد أنْ أعمل في قطر، خصوصا انني قد عملت في شركة شل قبل سنتين، وبالتالي يمكن مقابلة الشيخ خليفة والطلب منه توظيفي في الحكومة أو توصية للشركة. وعلى امتداد ثلاثة اشهر من الزيارات المتواصلة اسبوعيا الى ديوانه، كان الشيخ يؤكد عدم وجود وظائف شاغرة لمهندس ميكانيكي من الجامعة الاميركية في حكومة قطر او الشركات العاملة في البلاد، وقد فسره الوالد بتكبري وعدم تقبيلي جبهة الشيخ في السلام عليه، والاكتفاء بمصافحته باليد! بينما كان الموضوع أكثر تعقيدا من ذلك.. فالملفات على ما يبدو تدور، خصوصا أن نشاطي الحزبي في شركة شل في الاشهر الثمانية (1963 ـ 1964) لم يكن قليلا، ولم تكن تلك التحركات والملفات خافية على الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني الذي امسك بكافة مفاصل الوضع الإداري في قطر بعد اعتقال (العطية) الذي اسهم في حركة الهيئة العام 1963، في عهد الشيخ أحمد بن علي آل ثاني.

لم يكن مفرا من العودة الى البحرين واللقاء مع المرحوم أحمد العمران الذي كان أبا حقيقيا لجميع الطلبة المبتعثين، والاتصال بالمرحوم السيد شرف العلوي لإبلاغه بأنّ مهندسا بحرينيا سيأتي إليه لترتيب عمله في محطة الكهرباء في الجفير، حيث كنت المهندس البحريني الأوّل في تلك المحطة، وكان مديرها البريطاني (هنسن) ونائبه (لورد) ورئيس قسم الميكانيك (ميكنزي) ينظرون بتعالى الى هذا الجديد الذي اخترق سماءهم الصافية، وبالتالي لا بد من تطفيشه بكل الوسائل، باعتبار ان المحطة ملكا خاصا لهم لا يجب ان يستلمها غيرهم، مما وضع الكثير من الصعوبات والعراقيل، بل وعدم تسليم أية مسئوليات ضمن التخصص بحجّة قلّة الخبرة العملية مع الإقرار بوجود الكفاءة النظرية الكبيرة لدى خريج الجامعة والتي يفتقدها عامل فني عمل سنوات في سلاح البحرية البريطانية وانتقل؛ ليكون في صف المهندسين في المستعمرات أو شبه المستعمرات!

أين السكن؟

ذلك السؤال الذي تبادر الى الذهن، قبل جلب العائلة من قطر، فقد باع الوالد البيت في الحد، وحيث كان لدىّ قريب (الخال جمعة بن حسن الهاجري: الذي يعمل شرطيا في الداخلية ويقيم في (الفاملين ـ القلعة) ولديه بيت في الحد، فقد فضلت السكن فيه ودفع إيجار، وكان يمكن لدائرة الكهرباء أنْ تقدم علاوة مواصلات للمهندس، لكن المدير البريطاني منذ اللحظة الأولى كان يريد التعامل معه على أنه كبقية العمّال، وأن تبدأ المعاملة من المواصلات حيث عليه أنْ يأتي في الباص من الحد مع بقيّة العمّال حتى محطة الجفير (ولم يكن في الحد سوى هذا المهندس، وكانوا على استعداد لدفع أجر مضاعف للباص بدلا من دفع علاوة مواصلات! فالهدف ليس بريئا، بل نفسيّ)، وفي الوقت الذي كان هذا المهندس الاستعماري يرى في تلك السلوكيات إذلالا للمهندس المحلي، كان الملتزم بالحركة السياسية يرى فيها الفرصة الذهبية للقاء مع العمّال والمستخدمين طيلة الفترة التي ينتقل فيها مع العمّال من المحرّق إلى الجفير، للحديث عن هموم الوطن ومشاكل العمّال والتفتيش عن الوسائل التي يمكن من خلالها تنظيم حركة الاحتجاجات. وامتدّ الأمر الى عدم إعطاء المهندس غرفة خاصة بل مع الموظفين الإداريين، ثم تسليمه مسئولية الإشراف على الصباغين والبنائين وعمّال الصيانة! ويبدو أن هذه المدير العبقري لم يكتشف مدى الاستفادة التي حققها المهندس الملتزم من احتكاكه بالعمّال في سائر المواقع إلا بعد سنتين وكانت أبرز شكاويه ضد هذا المهندس أنّه شجّع العمّال على عدم احترامه إلى الدرجة التي باتوا يشربون القهوة خلال مروره أمامهم، أمّا نائب الرئيس فقد استدعى هذا المهندس مؤنبا له لعدم استخدامه كلمة (مستر) أثناء مروره عليه وأمام العمّال الذي لم يتردد أحد في لحظة انتعاش في حفلة اقيمت في منطقة الحالة بالمحرّق من تذكيري بتلك الحادثة مبديا اعجابه بموقفي الذي ازعج المستر لورد!

العدد 2232 - الأربعاء 15 أكتوبر 2008م الموافق 14 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً