من الديمقراطية والبرلمانية نصل إلى المواطنة، التي اختلفت الآراء حول نشأتها، فهناك من يرجعها إلى الحضارتين اليونانية والرومانية، حيث أشتق مصدرها اللغوي من كلمة مواطن (civis) ومواطنة (civitash) للدلالة على المفهوم «القانوني لوضع الفرد في أثينا القديمة وروما»، لكن د. هبة رؤوف عزة تعتبرها من أهم مفاهيم «الفكر الليبرالي منذ تبلوره في القرن السابع عشر ثم تطبيقه في الواقع الغربي في المجالين الاقتصادي والسياسي في القرنين التاليين». أما حيدر فيصل الجشعمي فهو يؤرخ لها منذ القرن التاسع عشر، ويقول إن المواطنة برزت كمفهوم «من خلال التناقضات التي مرت بها (أوروبا) على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي غيرت الكثير من مظاهر الحياة الأوروبية. ويرجع البعض، مثل هلال فخر الدين، فضل بلورة مفهوم المواطنة إلى الثورة الفرنسية 1789، عندما «قامت بتأصيل المواطنة الحديثة من خلال الفصل بين المؤمن (في إيجاد للانتماء الديني) والمواطن (في إيجاد للانتماء الوطني)، وهذه الحالة حدثت عبر مسار طويل ومعقد من الثورات القومية والديمقراطية والتطورات الفكرية والعلمية على مستوى العديد من الدول والحضارات».
وفي تاريخ الفكر السياسي الإسلامي يرجع بعض المفكرين الإسلاميين، من أمثال محمد سلام العواء تاريخ المواطنة، إلى يوم إعلان النبي محمد «صحيفة المدينة».
على أنه، وبغض النظر عن تاريخ تكونها كمفهوم، هناك اتفاق عام، وكما يلخصها محمد شخمان على أنها «نسبة إلى الوطن وهو مولد الإنسان والبلد الذي هو فيه، ويتسع معنى المواطنة ليتمثل التعلق بالبلد والانتماء إلى تراثه التاريخي ولغته وعاداته، وأنها في سياق حركة المجتمع وتحولاته، وفي صلب هذه الحركة تنسج العلاقات وتتبادل المنافع وتخلق الحاجات وتبرز الحقوق وتتجلى الواجبات والمسئوليات، ومن تفاعل كل هذه العناصر يتولد موروث مشترك من المبادئ والقيم والعادات والسلوكيات، يسهم في تشكيل شخصية المواطن ويمنحها خصائص تميزها عن غيرها. وبهذا يصبح الموروث المشترك حماية وأمانا للوطن والمواطن».
قضية، قد تبدو هامشية، لكنها تندرج في صلب محاولتنا لتمييز المواطنة عن كل ما يكتنفها من غموض، وهو ضرورة التمييز بين الهوية والمواطنة، فبينما ترتكز الأولى على أرضية إيديولوجية تميز بين الجماعات ذات الهويات المختلفة، تنطلق الثانية من عناصر جغرافية وسياسية توحد بين مختلف الهويات من حيث الحقوق التي يتمتعون بها، والواجبات التي ينبغي أن يتقيدوا بها تجاه بعضهم البعض.
من هنا تفترض المواطنة، بشكل مسلم ومطلق، ولاء من يريد أن يتمتع بمزاياها للجهة التي تهبها له، سلطة كانت أم مؤسسة، التي ينبغي عليها هي الأخرى كي تكسب ولاء من تهبهم تلك الصفة والتي هي «المواطنة»، أن تراعي حقوقهم وتصونها، كي تكسب ولاءهم الذي ينعكس في تأديتهم لواجباتهم، والتقيد بالقوانين والأنظمة التي تسنها تلك الجهة.
من هنا فعندما تتجسد المواطنة كسلوك اجتماعي/ سياسي من قبل أفراد المجتمع كافة، تصبح الديمقراطية هي الرئة التي تحتاجها المواطنة كي تتنفس، والولاء يتحول إلى البيئة النقية التي تمارس فيها تلك الرئة وظائفها الفيزيائية. وتتحول العناصر الثلاث: الديمقراطية والولاء والمواطنة إلى نظام سياسي/ اجتماعي متكامل تتعايش ضمن حدوده السياسية مختلف الطوائف والإثنيات، وتتصارع في نطاقه، وبشكل تكاملي مختلف الإيدلوجيات، أي تقف عند حدود الولاء للوطن المكتسب من حالة مواطنة صحية متطورة، كل الخلافات الأخرى، وتنصهر في بوتقتها كل الصراعات بغض النظر عن عمقها.
وطالما اتفقنا على أن المواطنة هي شكل راق من أشكال السلوك الإنساني، فمن الطبيعي أن يقودنا ذلك إلى أنها ليست حقا ذاتيا موروثا بقدر ما هي تجسيد لتربية تتولى القيام بها مؤسسات المجتمع كافة، كي تغرسها عميقا في نفوس المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الطبقية والفكرية والطائفية على حد سواء.
ولضمان تأهيل المجتمع كي يمتلك كل فرد من أفراده المواطنة التي يحتاجها ذلك النظام السياسي القائم، على مؤسسات ذلك النظام خلق البيئة التي توفر للمواطن ممارسة مواطنته في أرقى أشكالها من خلال، إقناع المواطن بأمنة، بل وضرورة، تقيده بالقوانين والأنظمة العادلة المعمول بها بما في ذلك احترام حقوق الآخرين، بعيدا كل البعد عن أي تعصب طائفي أو أي شكل من أشكال التعصب الأخرى.
ولكي نقرب فكرة المواطنة، في أرقى أشكالها إلى ذهن القارئ، يمكننا الاستعانة بنموذجها الأكثر سوءا وتشويها كما أقرته حكومة «إسرائيل» في جلستها المنعقدة في 19 يوليو/ تموز 2009، عندما أصرت على تمديد قانون المواطنة العنصري لسنة أخرى بناء على اقتراح وزير الداخلية الصهيوني إيلي يشاي، والذي يحظر على المواطن «العربي توحيد ولم شمل عائلات أحد شقيها من داخل الخط الأخضر والشق الاخر من الأراضي المحتلة العام 1967 أو من دول عربية تعتبرها «إسرائيل» دولة معادية، كما يمنع القانون أيضا «منح المواطنة لزوج مواطنة إسرائيلية (فلسطينية من الداخل) أو زوجة مواطن إسرائيلي (فلسطيني من الداخل) أو حتى تصريح لدخول الأراضي المحتلة العام 1948».
بهذا كله، نكتشف أن حدود المواطنة أكثر اتساعا من الطائفية وأكثر رحابة من القبلية، وأكثر قدرة على خلق مجتمع متحضر مبدع قابل للتطور بغض النظر عن التحديات التي تواجه أفراده المتمسكين بمواطنتهم أكثر من أي شيء آخر سواها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2520 - الخميس 30 يوليو 2009م الموافق 07 شعبان 1430هـ