العدد 2519 - الخميس 30 يوليو 2009م الموافق 08 شعبان 1430هـ

من وحي ذكرى عيد العرش المغربي

comments [at] alwasatnews.com

في ثلاثينيات القرن الماضي وتحديدا يوم 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1933 اهتدت الحركة الوطنية في المغرب، في إطار نضالها من أجل الحرية والاستقلال، إلى أسلوب مبتكر للتعبير عن تشبتها برموز السيادة الوطنية والتأكيد لسلطات الحمايتين الفرنسية والاسبانية على عمق الروابط الدينية والروحية والرمزية والتاريخية والسياسية بين الملك، باعتباره رمزا لوحدة الأمة، والشعب المغربي وهكذا كان الاحتفال لأول مرة بعيد تربع الملك على العرش.

ولقد جسد صاحب الجلالة الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، بحق نموذجا مثاليا للوطنية الصادقة والكفاح المستميت من أجل الاستقلال غير مبال بالصعاب التي لاقاها في سبيل ذلك. ويذكر التاريخ بفخر واعتزاز أن جلالته آثر سنة 1953 التضحية بعرشه والنفي خارج الوطن على أن يساوم على سيادة بلاده، فغادر المغرب مكرها ولسان حاله يقول: ربي النفي أحب إلي مما يدعونني إليه.

ومن جانبها، كانت الحركة الوطنية المغربية وفية لملكها ومخلصة له في أحلك الظروف وأصعبها، وجعلت على رأس قائمة مطالبها عودة السلطان إلى عرشه معززا مكرما، ورفضت بقوة كل محاولات الاحتلال الفرنسي الرامية إلى فصل مطلب الاستقلال عن مطلب عودة الملك من منفاه في مدغشقر. ولعل ذاكرة من عاش تلك الحقبة المجيدة من تاريخ المغرب تذكر جيدا ذاك الشعار الذي دأب المغاربة على ترديده: «الملك إلى عرشه والخائن إلى قبره».

استحضرت هذه المعاني النضالية لعيد العرش المجيد والشعب المغربي يحتفل هذه الأيام بالذكرى العاشرة لاعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين، وهي مناسبة لوصل الماضي بالحاضر والتطلع بعزم إلى المستقبل لإكمال المسيرة التي بدأها بطل التحرير صاحب الجلالة الملك محمد الخامس، خلد الله في الصالحات ذكره، ووريث سره باني المغرب الحديث وموحد البلاد صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه.

وسيرا على النهج ذاته، شهدت العشرية الأولى من حكم صاحب الجلالة الملك محمد السادس انطلاق مجموعة من الأوراش الطموحة في مختلف الميادين السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والدبلوماسية، تتكامل جميعها لتحقيق هدف واحد يتمثل في بناء مغرب ديمقراطي حداثي ومتقدم ومنفتح بإيجابية على انجازات عصره ومتشبث في الآن ذاته بأصالته الضاربة جذورها في أعماق التاريخ.


الإصلاح السياسي

لا تخطئ عين أي مراقب منصف وموضوعي للعشر سنوات الأولى من حكم صاحب الجلالة الملك محمد السادس ذلك الانفتاح السياسي الكبير الذي يعيش في ظله المغرب بفضل الإصلاحات السياسية الجريئة لجلالته التي ترمي لترسيخ دولة الحق والقانون، وإقرار المفهوم الجديد للسلطة، وإبلاء الاهتمام اللازم بالعنصر البشري الذي يعتبر الرافعة الأساسية لكل تنمية مستدامة.

وفي هذا السياق، تتعدد المحطات والأوراش التي سهر جلالة الملك شخصيا على بلورتها وتتبع مسار تنفيذها على أرض الواقع، لعل أهمها طي صفحة خروقات حقوق الإنسان التي عرفها المغرب في مرحلة معينة من تاريخه، وذلك من أجل المصالحة ورد الاعتبار لكل الذين تعرضوا لانتهاكات مست حقهم في العيش الآمن.

وهكذا كان إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة التي أسندت رئاستها وتسييرها إلى شخصيات معارضة سابقا ونشطاء في مجال حقوق الإنسان، واضطلعت بكل استقلالية وموضوعية بمهامها في الكشف عن الحقيقة وإثبات نوعية ومدى الانتهاكات لحقوق الإنسان وإجراء التحريات، وتلقي الإفادات، والاطلاع على الأرشيفات الرسمية، ومواصلة البحث بشأن حالات الاختفاء القسري التي لم يعرف مصيرها بعد والكشف عن مصير المختفين.

وتكلفت الهيئة كذلك بإيجاد الحلول الملائمة بالنسبة لمن ثبتت وفاتهم، والوقوف على مسئوليات أجهزة الدولة أو أي طرف آخر في الانتهاكات والوقائع موضوع التحريات وتضمين التقرير النهائي خلاصات الأبحاث والتحريات والتحاليل المجراة بشأن الانتهاكات وسياقاتها. وبالفعل فقد تضمن التقرير النهائي للهيئة توصيات أكدت صراحة على ضرورة ضمان عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب وتوطيد مسلسل الإصلاحات الجارية عبر القيام بمجموعة من الإصلاحات المؤسساتية ونهج إستراتيجية وطنية لمناهضة الإفلات من العقاب.

وأكدت توصيات الهيئة كذلك على ضرورة تجريم الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والإبادة والجرائم الأخرى ضد الإنسانية، والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو الحاطة بالكرامة أو المهينة، وكذا منع كل أشكال التمييز المحرمة دوليا وكل دعوة أو تحريض على العنصرية والكراهية والعنف، داعية في الوقت نفسه إلى وضع إستراتيجية وطنية متكاملة، مندمجة ومتعددة الأطراف في هذا المجال.

وحتى تتحقق هذه التوصيات على أرض الواقع بعد العمل الجبار الذي قامت به الهيئة خلال فترة تقصيها للحقائق، كلف صاحب الجلالة الملك محمد السادس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتفعيل توصياتها، ودعا كافة السلطات العمومية إلى مواصلة التعاون المثمر مع المجلس.

وقد لقيت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة الترحيب والإشادة على المستويين الوطني والدولي، وشكلت محط اهتمام العديد من الدول التي وجدت فيها تجربة للاحتذاء لما حققته من نتائج ملموسة وللتوصيات المهمة التي خلصت إليها.

وبذلك حققت الهيئة الأهداف التي رسمها لها جلالة الملك والتي تضمنها خطاب جلالته بمناسبة انتهاء مهمة الهيئة، حيث أكد أن المغرب أقدم «بكل شجاعة وحكمة وثبات، على استكمال التسوية المنصفة لماضي انتهاكات حقوق الإنسان»، مضيفا أنه «يتعين علينا جميعا، علاوة على حفظ هذه الحقبة في ذاكرة الأمة، باعتبارها جزءا من تاريخها، استخلاص الدروس اللازمة منها. وذلك بما يوفر الضمانات الكفيلة بتحصين بلادنا من تكرار ما جرى، واستدراك ما فات».


مدونة الأسرة

وإدراكا من جلالة الملك أن الصرح الديمقراطي الذي يراد تشييده في المغرب لن يستقيم ما لم تتأسس العلاقات داخل النواة الأولى للمجتمع أي الأسرة، على أسس سليمة وديمقراطية، فقد حرص جلالته على إصدار مدونة متقدمة ورائدة للأسرة قائمة ليس فقط على مبدأ مساواة الرجل والمرأة، ولكن بالأساس على ضمان حقوق الطفل، والحفاظ على تماسك العائلة، وصيانة هويتها الوطنية الأصيلة.

وقد أضفى جلالة الملك على مدونة الأسرة بعدا آخر تمثل في إبراز صورة الإسلام السمحة وتنفيتها مما لحقها من تشويه وتطرف، وكذا التأكيد على قدرة العقل الإسلامي على الانسجام مع الحداثة. وفي هذا المعنى قال صاحب الجلالة إن «التزامنا الثابت بالقيم المؤسسة لهذا القانون الذي يدخل سجل تاريخ المغرب ليس فقط باعتباره لبنة جوهرية في بناء مجتمعنا الديمقراطي الحداثي وإنما أيضا لأننا جسدنا به التكامل بين المرجعية الإسلامية والكونية القائمتين على مبادىء الحرية والمساواة والأنصاف والتضامن».


قضية الصحراء

وانسجاما مع النهج الديمقراطي الذي ارتضاه صاحب الجلالة في معالجة القضايا الداخلية وبروح توافقية ايجابية بادر صاحب الجلالة إلى طرح مبادرة دبلوماسية شجاعة لإنهاء النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، تقضي بتخويل الأقاليم الجنوبية للمملكة حكما ذاتيا، ضمن سيادة المملكة المغربية ووحدتها الوطنية والترابية.

وتكمن أهمية هذه المبادرة في كونها صيغت بشكل توافقي وتشاوري إن على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فقد حرص جلالة الملك قبل طرح المبادرة على أن استشارة مختلف الأحزاب السياسية وسماع تصوراتها حول مقترح الحكم الذاتي، كما أشرك سكان الأقاليم الجنوبية حين قام بتنصيب المجلس الملكي الاستشاري للشئون الصحراوية، بتركيبة جديدة ومسئوليات موسعة، وكلفه بأن يرفع إليه تصوره بشأن مشروع الحكم الذاتي، وأن يقترح مختلف المبادرات الكفيلة بتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه المنطقة.

أما على الصعيد الخارجي وقبل طرح المبادرة رسميا على منظمة الأمم المتحدة، فقد زارت وفود رسمية مغربية عواصم عدة دول شقيقة وصديقة، من ضمنها مملكة البحرين، لشرح الخطوط العريضة لمبادرة الحكم الذاتي وسماع رأي هذه الدول.

إن إقدام المغرب على اقتراح حكم ذاتي لأقاليمنا الجنوبية جاء استجابة لنداءات مجلس الأمن الداعية إلى تجاوز المأزق التي وصلت إليه قضية الصحراء المغربية، وفي مسعى صادق لإيجاد حل لا غالب فيه ولا مغلوب، بل الانتصار الحقيقي سيكون لشعوب المغرب العربي التواقة إلى اندماج حقيقي بوصفه خيار لا محيد عنه وفقا لمنطق التاريخ ورفعا لتحديات المستقبل. كما أن الحل المقترح من قبل المغرب يراعي أمن واستقرار ورخاء شعوب حوض المتوسط، وكذا بلدان الساحل الإفريقي، وتحصين هذه المنطقة الحساسة، من الوقوع في متاهة الإرهاب والبلقنة، التي لن يستطيع أحد أن يكون بمنأى عن مخاطرها الوخيمة، وفتنها الكامنة والمتربصة.

وإن ما يبعث على الاطمئنان أن المبادرة المغربية لاقت استحسانا وتجاوبا من لدن العديد من الدول والهيئات الفاعلة في المنتظم الدولي، التي باتت مقتنعة بمصداقية الموقف المغربي وتوازنه، في نهج حل سياسي تفاوضي ونهائي لهذه القضية. وتظل يد المغرب ممدودة لجيرانه ولجميع الأطراف المعنية من أجل طي هذا الملف والتوجه بعزم نحو بناء تحرير المستقبل المشترك مع جيراننا.


التنمية الاقتصادية والاجتماعية

«للنهوض بالمسلسل الإصلاحي والأوراش الواعدة المفتوحة فيه، فإنه يتعين علينا أن نصارح أنفسنا، وبكل شجاعة ومسئولية، بأن المواطنة الحقيقية، ستبقى ناقصة وصورية، وهشة وغير مكتملة، ما لم يتم توطيدها بمضمون اقتصادي واجتماعي، وتدعيمها بحمولة ثقافية، وتحصينها بروح أخلاقية». هذه الكلمات لصاحب الجلالة تلخص فلسفته في مجال التنمية وضرورة تكامل أبعادها السياسية والاقتصادية ولاجتماعية والثقافية.

وفق هذا المنظور، شهد المغرب خلال العشرية الأخيرة انطلاق عدة مشاريع هيكلية همت التجهيزات الأساسية من توسيع لشبكة الطرق السيارة والسكك الحديدية والموانئ والمطارات وتحسين ظروف ومناخ الاستثمار المنتج، علاوة على ترسيخ ثقافة التضامن، وتعزيز دور المجتمع المدني.

ومن أهم ما حرص على إنجازه صاحب الجلالة وأولاه عناية خاصة هو فك العزلة عن العالم القروي سواء عبر شبكة من الطرق أو ربطها بشبكة التيار الكهربائي الوطنية، ضمن منظور تنموي شامل لهذا الجزء الغالي من الوطن. كما يقوم صاحب الجلالة بزيارات ميدانية منتظمة لمختلف مناطق المملكة، خاصة تلك التي لم تنل نصيبا كافيا من التنمية والتي توصف بالمهمشة، حتى تستفيد هي كذلك من مشاريع تأهيل البنية التحتية لتكون قادرة على الانخراط في المجهود التنموي العام التي تعرفه المملكة. ونظرا لأهمية العنصر البشري في التنمية، أطلق جلالة الملك المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بعمق استراتيجي، وبعد جهوي مندمج، وطابع تضامني، لمحاربة العجز الاجتماعي، والتفاوت المجالي التي تعرفه مناطق مختلفة من المغرب. وإضافة إلى المجهود التي تقوم به أجهزة الدولة، تم حث الطبقة السياسية والقوى الحية للأمة ومنظمات المجتمع المدني للانخراط في هذا الورش الوطني الهام وتجسيده في برامج ميدانية ملموسة.

إقرأ أيضا لـ ""

العدد 2519 - الخميس 30 يوليو 2009م الموافق 08 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً