(أحلام، ضحكات، زهور، ورد، المسك، شمس، الحب، أماني، نشوان، الربيع...)
إن المتأمل في الحقلين المتضادين يلحظ هيمنة المعجم السلبي في مختلف قصائد الديوان. ولا يعدو الإيجابي منه أن يكون سوى بعض النجوم في ظلمة حالكة ويأس يلونان القصيدة أو هي «أحلام معطلة» ومجهضة فيصبح المعجم الإيجابي كوة أمل وعالم منشود مفقود تسعى إليه الشاعرة، ولا يكون. فتبنيه بالكلمات. إنه عالم لغوي معجمي ثلجي يذيبه لهيب الواقع والألم المفروض الموجود. إن هيمنة المعجم السلبي يحول الديوان إلى نحيب وتأوه وتضور بدءا ومنتهى. بالمأساة ينفتح وبها يختم وينغلق. ويكون العنوان زبدة هذه المعاناة حد الإفناء والتغييب بالقتل.
أول قصيدة في الديوان (أحلام معطلة) تبدأ بـ: «وتأوهتْ/ ما بين دمعك والنهاية شرفتان/ وتضورت/ واليأس...» ص9. وآخر قصيدة في الديوان (ربما نلتقي) تصبح حلما آخر يجهض: «ثم تؤوب بخفي حنين ودمع تكسر بين الفضاءات أو عند آخر شيء جميل.» ص 94
ولأنه بضدها تعرف الأشياء، يصبح المعجم، بتقابله وتناقضه، معبرا عن الخصوبة والحركية والصراع. فمن القطبين الضدين يكون الماء وتكون حياة النص بآلامه وآماله وبالضعف والقوة وبالاستسلام والتحدي.
إلى جانب القطبين المعجميين المتضادين سلبا وإيجابا، يحفل الديوان بمعاجم أخرى لا تخرج عن الضدين. فيتحول إلى فسيفساء من المعاجم مختلفة المشارب. أو هي لآلئ مختلفة تصنع منها الشاعرة عقدا فريدا. الديوان ملتقى معجم متنوع يعبر عن شخصيات أو عواطف أو أفعال أو صفات أو أماكن منها: الأسطوري/ التاريخي/ الواقعي/ الخمري/ الطبيعي/ الديني/ السياسي...
هذا التداخل يحيلنا على مفهوم التناص. فإذا الديوان «امتصاص لوفرة من النصوص»:
المعجم الديني: من خلال شخصيات أو ألفاظ وتعابير قرآنية مثل (طقوس، يتوب، الخلد، الجنة، الأملاك، صلوات، صلاة، تخشع، قنوت، الرب، الناسكينا، قديس، ملاك، طاهر، الفضيلة، شهيد، الله، المنابر، محراب، مساجد، تراتيل، زمزم...)
الشخصيات: (عيسى بن مريم، يسوع، يوسف...)
القصص الديني:( الذئب، زليخة، يوسف، السجن، الذئب، القميص الملطخ بالغلاء...)
«وزليخة العصر الحديث
تنازلت عن عشقها
والسجن ما فتىء المآب
وليوسف المحكوم في سوح القضية تهمتان
والذئب جوع كافر
وقميصه الكذب الملطخ بالغلاء
(...)
وإليك سبع سنابل خضراء
تأكلها العجاف
يا أيها الصديق يوسف
مسنا الضر
افطم الرغبات عن شبق الذئاب
أعصر بخمر البرلمان «ص 73»
تعابير قرآنية: «بأي ذنب قتلت، أهز إليك بجذع، يعوذ برب الفلق، هيت لك، حبل من مسد»
المعجم الطبيعي: «الربيع، الشتاء، الخريف، صبار، الورد، نسرين، سنابل، البرد، المسك، الفراشات، الفجر، عنب، اللوز، الرمان، التين، عنقود، رطب، الزعفران، شمس، الليل، عتمة، غيم»
المعجم الخمري: «سكارى، خمرة، قنينة، الكأس، ثملات، نشوان، كأس، خمر...»
المعجم العاطفي: «دمع، حبيبي، إيمان، ضحكات، جنون، تهوى، الحب، عناق، شوق، أماني، أحلام، سئمت، اشتاق، واله، صب، عشق، قلب، قبلة الأم...»
المعجم الموسيقى: «ندندن، إيقاع، تراتيل، لحوني، ألحان»
المعجم الأدبي: «حبر، الشعر، قافية، أشعار، حكايات، قصائد، شعر نزار، شهرزاد، مستفعلن، القصيدة، دمنة، كليلةن شهرزاد، شهريار»
يصبح الديوان بهذه المعاجم ملتقى فنون تآلفت وزهور مختلفة منحت عسلا من خلال مفهوم التناص الذي هو تفاعل بين نصوص مختلفة، لتصنع نصا واحدا هو ديوان (بأي ذنب قتلت؟) وقد أصبح كيمياء لغوية.
ينفتح الديوان ببداية ليست بداية من خلال واو الاستئناف في أول قصيدة «وتأوهتْ». مما يعبر عن تواصل. ففعل التأوه المنسوب لضمير الغياب (هي)، انفعال لفعل سابق لعله فعل الوأد والقتل المنسوب لها أيضا في العنوان (بأي ذنب قتلت؟)
يتواتر ضمير المتكلم في النص في علاقته بضمائر أخرى، فإذا القصيدة شبكة متداخلة من الضمائر لكنها تمر جميعا عبر الذات/ المتكلمة من خلالها نكنشف هويتها وعواطفها عشقا وأمالا وتحديا وألما، وندرك رؤاها ومواقفها ورؤيتها للعالم ومن خلالها نتبين شيكة علاقاتها مع الآخر مفردا وجمعا، تأنيثا وتذكيرا، سلبا وإيجابا. وكذلك علاقتها بالأشياء والأزمنة فالضمائر متنوعة ومتداخلة: مخاطبة وموضوع خطاب بأشكال مختلفة، حضورا وغيابا، مفردا وجمعا (فهي تخاطب الغائب (هو) قل ما تشاء سيدي) وتتحدث عنه وقد تخاطب الجمع (اعذروني/ سامحوني/ لملموني) وتخاطب الأنثى وتتحدث عنها.
المستوى البلاغي:
الإنشاء والخبر:
يتراوح النص شأن كل كلام بين الإنشاء والخبر
الخبر: إخبار عن الذات وعلاقتها بالآخر فاعلا أو مفعولا وسرد لأحداث ووصف للذات والمكان والأشياء.
الإنشاء: يتناسب مع المناخ الانفعالي المهيمن في مختلف القصائد بدءا من العنوان» من خلال الإستفهام الإنكاري» بأي ذنب قتلت؟
جمل إنشائية مشحونة بالحيرة والتردد والدهشة حضور لافت للاستفهام خاصة فيعبر عن حيرة استبدت بكيان الشاعرة، إذ به ينفتح الديوان في قصيدة (أحلام معطلة)
كما يحضر الإنشاء من خلال النداء المعبر عن التفجع «يا حرقة في القلب/ يا لهذا الوجع»
الصور التشبيهية والاستعارية والكنائية باعتبارها معدن الشعر وكيمياء من خلالها يتم الجمع بين عنصرين متباعدين تركيبة سحرية، صنعها فكر الشاعرة ووجدانها وبهما عجنته.
جمع لتباعد يولد غرابة، تولد دهشة وجمالا وطرافة كما عبر عن ذلك عبدالقاهر الجرجاني بقوله: «التباعد بين الشيئين كلما كان أشد، كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب».
جمال صنعه خروج الشاعرة عن مألوف السبيل والطريق المعبد المعروف. فيكون الماء ويكون النص عبر قدرة الشاعرة على تلمس تلك الآصرة لتشكل منها صورة حية فتنصهر العناصر وتلتقي المحسوسات بالمجردة لتعطي عسلا أو كلاما معسولا وتكتسب الكلمات، وقد تزاوجت، طعما جديدا لم يكن وكأننا ندرك أشكالها وألوانها وأصواتها ومذاقها لأول مرة. بها ترقص اللغة وترتقي من مجرد الإبلاغ إلى البلاغة والجمال وتؤسس بدورها إيقاعا جديدا في الشعر الحديث يوصل النص إلى تخوم الرمز ويحوله إلى نص مفتوح.
إن الصور لحمة النص وسداته تسهم في بنائه وتفكيكه. وهي أداة فنية تضفي على القصيدة أجواء مدهشة تتأتى من الاقتران بين الحسي/ الذهني، الحسي/ الحسي، الذهني/ الذهني. فتنصهر أطراف التشبيه المتباعدة وتتوحد.
صور تتوق من خلالها الشاعرة إلى تجاوز الطوق عبر كوة جمالية من خلال أنسنة الظواهر الطبيعية والجمادات، كي تغدو مرايا دلالية تعكس رؤى الشاعرة تجاه الحياة والكون بتوظيف رموز الطبيعة والمهاد التاريخي والديني والأسطوري، لتصنع شفرات دلالية، كما تكشفه هذه الأمثلة:
«وبعض قريحتي ثكلى
وفي أعلى الخريطة سوء فهم
هل ثمة شعر يسكنني؟
ماذا لو أنّ الحبر تناثر مشدوها
أو سار بعكس التيار؟»
« لآمال النجوم، تنثني دررا وتمطر على
كفيك ألحانا، ونسرينا وشعرا» ص 14
غرور الورد
« ورغم الجفاف تماوج حبري البليل
وأينع قفر الدفاتر» ص 25
أنياب المتاهات» ص 33
تشبيه بليغ
« أنا ماء الصبر
دمعة الحبر
لهمة الشوق
واحة في العمر
ونخيل الشعر أمي» ص 29
« أنا حرف غامض
يعجن بالتين وبالليمون
وبالفلفل والهم الدرازي
ومن ماء لقاح
ونخيل الشعر أمي
« الليل عتمة سابح والسرج غيم
وأنا المسافر والمتاهة للعذاب
وحزمت أمتعتي
ولا فجر يدق ولا شروق» ص 71
« والذئب جوع كافر
وقميصه الكذب الملطخ بالغلاء؟
يأ أيها الصديق يوسف
مسنا الضر
افطم الرغبات عن شبق الذئاب
اعصر بخمر البرلمان» ص 73
« وأضأت الصبح خمرا لشموعي
وأذبتُ الحرف للوصف» ص 36
يا لهذا الوجع الموشوم في خاصرة
النخلة» ص 53
« ويخيط مغزل جرحك المكلوم
أثواب القبيلة» ص 60
الدلالة :
الشاعرة أنثى تهدي الديوان إلى أنثى وتتحدث عن أنثى وتخاطب أنثى وتناجيها أحيانا،
تبدو الأنثى في النص ضعيفة ذليلة وإن أوهمت أو توهمت أنها متحدية أحيانا.
تلوح الأنثى من العنوان مقتولة وتلوح في القصيدة من خلال شهرزاد الاسم الأسطوري الأدبي من ألف ليلة وليلة. إنّ شهرزاد لا تذكر دون شهريار المستبد وقد روضته بالأدب فأنقذت نفسها وبنات جنسها من شهوته لتعلن شهرزاد العقل بدل الجسد. فبحكمتها وعقلها، عقلت شهواته وكبحتها لترسم مبدءا قوامه أن الأدب يساوي حياة بالحكايات وقد خدرته حتى روضته مدة ثلاث سنوات.
حضرت شهزراد في قسم يضم أغلب قصائد الديوان: خمس عشرة قصيدة 15 قصيدة فاتحة الديوان له دلالة شاعرة أنثى تتحدث عن أنثى متمردة مغامرة متحدية بالعقل، بسلطة الخطاب بقوة المنطق مواجهة منطق القوة الذي مثله شهريار.
حولت الشاعرة شهريار من مبدأ اللذة بالجسد ثم القتل إلى الحب وحولت شهرزاد من أدب القص/ الحكايات إلى الشعر وتحولت من الذكاء والعقل والفطنة إلى «حورية بلهاء» ضعيفة أما م سيدها شهريار تستجديه تستعطفه:
«أجيء أسكبُ في يديك قصائدي، هلا
ارتويت...؟؟
إني وقفت بباب قصرك سيدي، حورية
بلهاء... كانت كل أمنيتي انتشال الحزن،» ص 14
استعملت الشاعرة الأسطورة رمزا محورا لتعبر عن معاناة الأنثى الموؤودة المطحونة المستضعقة.
هذا الضعف الأنثوي يهيمن في مختلف القصائد تقريبا، حتى وإن حاولت الأنثى أن تكون قوية ومتحدية، لكن سرعان ما تعود إلى ضعفها كما في قصيدة «لا غباء بعد اليوم» تبدأ القصيدة ضعفا ثم قوة ثم تعود انسكارا
« قل ما تشاء سيدي
وانطق بما تشاء،
ما زلت رغم ثورتي
ورغم عمر مثقل بالبؤس والشقاء،
ما زلت في قرارتي
ساذجة بلهاء،
(...)
ما أقبح الهراء!
سئمت يا أكذوبتي
سئمت من فرط شراب زائف النبيذ
(...)
وقد أتيت سيدي
أرجوك أن تلهو كما تشاء
وتقتل الحلم كما تشاء
أرجوك ـ لطفا سيدي ـ
أرجوك لو تترك لي ذرة كبرياء،،،، « ص 18/ 19/ 20
العدد 2519 - الخميس 30 يوليو 2009م الموافق 08 شعبان 1430هـ