العدد 2519 - الخميس 30 يوليو 2009م الموافق 08 شعبان 1430هـ

تطور صناعة السفن في البحرين والخليج العربي

ناقشنا في الحلقة السابقة تطور آلات ركوب البحر وبقي علينا تطور صناعة السفن في البحرين والخليج العربي بصورة عامة. ما كان يميز السفن في منطقة الخليج العربي أنه منذ بداية تصنيع السفن لم يستخدم بها مسامير من النحاس أو الحديد، بل إن ألواحها كانت تخاط بالحبال التي كانت تصنع إما من ليف النخيل أو القنبار أي قشرة ثمرة جوز الهند، وقد استخدمت هذه الطريقة منذ الألف الثالث قبل الميلاد إلى ما بعد القرن الثالث عشر الميلادي، وحتى بعد أن استخدمت المسامير الحديدية بقيت خياطة السفن حتى فترات متأخرة من القرن التاسع عشر.


تاريخ طريقة خياطة السفن

لا نمتلك أي دليل مادي على طريقة صناعة السفن في فترات ما قبل التاريخ، فلم يتم العثور على لقى أثرية تدل على طريقة بناء السفن، على الرغم من العثور على نماذج لسفن صغيرة في الكويت يعود تاريخها للألف الخامس قبل الميلاد إلا أن هذه اللقى تفيد بأن السفن كانت تصنع في الخليج، لكنها لا تعطينا فكرة عن كيفية بناء السفن، لكننا نرجح أن السفن كانت تصنع بطريقة خياطة الألواح اعتمادا على أن هذه الطريقة هي أقدم طريقة عرفت عبر التاريخ كما أثبتت الكشوفات الأركيولوجية منها سفينة خوفو التي اكتشفت في مصر، والتي تحتوي على أجزاء مخاطة بالحبال، كذلك في تركيا وأوروبا عثر على سفن بها أجزاء مخاطة، وكذلك بسبب أنه لم يوثق في الخليج العربي أي نوع آخر من أنواع السفن غير السفن المخيطة وذلك منذ القرن الأول الميلادي.


كيفية خياطة ألواح السفينة

إن بناء السفن باستخدام الحبال يحتاج إلى أن يعمل العمال على شكل أزواج، بمعني أن يكون أحدهم خارج السفينة ويقابله آخر من داخل السفينة، وكل من الرجلين يلتقط الحبل من خلال ثقب ويرده بدوره إلى زميله من خلال الثقب التالي، ويستخدم كل من الرجلين يديه وقدميه في سبيل استكمال ذلك العمل الشاق، ويقوم الرجال بعد ذلك بشد الحبال بقوة حتى يحشر الحبل الرئيسي بين القطع الخشبية، ثم يتم بعد ذلك إغلاق الثقوب بأوتاد خشبية صغيرة خفيفة. وتخضع الألواح قبل تثبيتها على بعضها وخياطتها بالحبال إلى عدة اختبارات يتم من خلالها التأكد من مطابقة وجهي اللوحين أحدهما للآخر مطابقة تامة. ومن الضروري من وجهه نظر صناع الحبال أن يتم غمس الحبال التي خيطت بها ألواح السفينة في الزيت كل أربعة أشهر، وذلك حتى تحتفظ السفينة بكيانها سليما لمدة تتراوح بين 60 إلى 100 عام، وكذلك يتم دهان الجسم الخارجي للسفينة بخليط من الجير والدهن الخاص المستخرج من لية الخروف وذلك للحماية من ديدان البحر التي تهاجم جسم السفينة وتأكله وذلك قبل إنزالها إلى البحر.


جلجامش وأقدم وثيقة تشرح صناعة السفن في الخليج

تم ترجمة ملحمة جلجامش إلى العديد من اللغات من قبل العديد من الكتاب، واستخدمت في الترجمة مترادفات مختلفة وربما كانت بعض المترادفات غير مناسبة وموقعها في الجملة، فهي مترتبة على فهم المترجم للجملة بصورة عامة، وعلى هذا الأساس قام بيدرسون في العام 2004م بتخصيص أطروحته في ترجمة جزء من اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش، وهو الجزء الذي تناول صناعة السفينة من قبل جلجامش، وقد قام بيدرسون باختيار أفضل المترادفات التي تجعل من الجملة مترابطة ومنطقية كما سنرى لاحقا. إن ما يميز بيدرسون أنه على دراية كافية بطرق صناعة السفن في الخليج العربي، وقد زار البحرين في التسعينيات من القرن المنصرم واطلع على طرق صناعة السفن التقليدية بتفاصيلها، وبذلك أصبحت القراءة الأولية للوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش بمثابة قراءة وثيقة قديمة توثق طريقة صناعة السفن في تلك الحقبة القديمة لو لا بعض الألفاظ المضللة، والتي نتجت بعدم إلمام المترجم بصناعة السفن القديمة. وهنا سنتتبع في هذا الجزء من اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش تفاصيل بناء السفينة في تلك الحقبة.

أوامر الآلهة ببناء السفينة ووصف السفينة

20 - فنقل (إيا) حديثهم إلى كوخ القصب:

21 - كوخ القصب، يا كوخ القصب، جدار يا جدار.

22 - أنصت يا كوخ القصب، وتفكر يا جدار.

23 - رجل شوربياك، يا ابن أوبارا - توتو.

24 - قوض بيتك وابن سفينة،

25 - اترك مملكتك، وأنقذ حياتك،

26 - اهجر متاعك، وأنقذ نفسك،

27 - احمل في السفينة بذرة كل مخلوق حي.

28 - والسفينة التي أنت بانيها،

29 - ستأتي وفق قياس مضبوط،

30 - طولها وعرضها يجب أن يتناسبا.

31 - ثم غطها، كما هي المياه السفلى.

الجزء الأول (الأسطر 20 -31) تتضمن أوامر الآلهة لأوتنابشتيم ليقوم ببناء السفينة لينقذ الناس من الطوفان، ويلاحظ فيها أمر أن يهدم أوتنابشتيم بيته المصنوع من القصب قبل أن يصنع السفينة، وهنا تراود للبعض أن السفينة صنعت من القصب، ومنهم من استخدم هذه المعلومة وزعم أن سفينة نبي الله نوح عليه السلام كانت مصنوعة من القصب. إلا أننا سنرى لاحقا أنها صنعت من الخشب واستخدم فيها القصب.

أما بالنسبة لأطوال السفينة فالبعض ترجم السطر رقم 30 «فيتساوى طولها وعرضها» وبذلك أصبحت أطوال السفينة متساوية وشكل السفينة مكعب، وهذا أمر غير طبيعي فلم يتم العثور على رسم لسفينة مكعبة الشكل تعود لنفس تلك الحقبة أو ما بعدها، والمنطقي استخدام مترادفة أخرى لنفس اللفظة وهي كلمة «متناسبة» أو «متسقة» وبذلك يصبح المعنى أن أطوال السفينة بنيت بنسب معينة.

تحضير أدوات البناء

48 - وما أن لاحت تباشير الصباح

49 - حتى تجمع الناس حولي.

50 - عمال الأخشاب حملوا...

51 - عمال القصب حملوا...

52 - ... الشباب...

53 - البيوت ...

54 - جلب الأطفال لي القار،

55 - وجلب لي الكبار كل ما يلزم.

يلاحظ أن الأدوات التي ذكرت ملحمة جلجامش هي ذاتها الأدوات المستخدمة في تلك الحقبة كما دلت عليها الكشوف الأثرية، وهي الخشب والقار، ويذكر هنا بالإضافة لهما القصب، وهذا يجعلنا نتساءل عن دور القصب في صناعة السفن قديما. يرجح بيدرسون أن هذه إشارة واضحة إلى أن السفن كانت تخاط بالحبال وذلك اعتمادا على وصف سفن البصرة - هرمز في القرن السادس عشر الميلادي والتي كان يوضع بين ألواحها قصب أو قش ثم يربط عليه، لاسيما وجود ترجمات مختلفة للسطر 51 من مثل «عامل القصب حمل صخرته المسطحة» و أيضا «عامل القصب حمل صخرته»، فيرى بيدرسون أن القصب سيدق بالحجر ويوضع بين ألواح السفينة ويربط عليه بالحبال.

بناء قشرة السفينة

56 - في اليوم الخامس أنهيت هيكلها.

57 - كانت مساحة سطحها إيكو واحدا وارتفاع جوانبها مئة وعشرون ذراعا

58 - وجزءها العلوي أصبحت حافته بارتفاع متناسب مع المئة والعشرين ذراعا.

59 - أنهيت شكلها الخارجي وأكملته.

في الماضي كانت هناك طريقتان لبناء السفن، إما أن يبنى هيكل السفينة بأكمله أي أن يحدد شكلها وتقاسيمها أولا ومن ثم توضع الألواح التي تكون جسد السفينة وهذه تسمى طريقة الهيكل أولا، أما الطريقة الثانية وتسمى القشرة أولا فتتميز بصنع الأجزاء الأساسية من الهيكل دون تقاسيم ثم تخاط الألواح مع بعضها على هذا الهيكل الأساسي، ومن ثم تبدأ عملية تقسيم السفينة من الداخل. يستنتج بيدرسون من وصف بناء السفينة أن الطريقة التي استخدمت في البناء هي طريقة القشرة أولا، وهي الطريقة ذاتها التي سادت في الخليج العربي منذ القدم، ويرجح أجيوس (2008م) أن استمرار طريقة القشرة أولا راجع لسبب ربط الألواح بطريقة الخياطة بالحبال.


تقسيم السفينة من الداخل

60 - ستة طوابق صنعت فيها.

61 - (وبذا) قسمتها إلى سبعة (أجزاء)

62 - وقسمت الأرضيات إلى تسعة

هذه السطور توضح كيفية تقسيم السفينة من الداخل بعد أن انتهى من صنع القشرة.


إحكام الثغور لمنع تسرب الماء

63 - وطرقت فيها أوتاد وقف تسرب الماء.

المسامير الشجرية أو الأوتاد الخشبية لم تكن غير معروفة في حضارة بين النهرين، وعليه ليس من الغريب أن تستخدم تلك الأوتاد لسد الثغور التي خيط فيها الخيط، فليس من الغريب إذن أن يشير هذا السطر لهذا المعنى، وقد ترجمه عدة من المترجمين بهذا المعنى وآخرون ترجموه بمعنى آخر، ولكن المتتبع لطرق بناء السفن في الخليج منذ حقبة قبل الإسلام (سنناقشه في الحلقة القادمة) يرى أنه من المنطق أن يترجم هذا السطر بهذا المعنى. ويلاحظ أن وجود الأوتاد لسد الثغور يرجح أيضا أن ألواح السفينة قد ربطت فيما بينها بالحبال لا بطريقة أخرى.


إكمال إحكام ثغور السفينة

64 - زودتها بالمجاديف وخزنت فيها المؤن

65 - سكبت في الفرن ثلاث وزنات من القار

66 - وثلاث وزنات من الإسفلت

67 - ثلاث وزنات من الزيت آتى بها حملة السلال

68 - واحدة استهلكها التزييت

69 - واثنتان قام ملاح السفينة بخزنهما

استخدم القار منذ آلاف السنين لطلاء السفن، وذلك لمنع تسرب الماء وكذلك حمايتها من دود البحر وغيره من الكائنات التي تلصق بالسفينة، وقد استبدل القار بعد ذلك بخليط من الجبس والدهن الحيواني. يلاحظ أيضا ذكر الزيت هنا، البعض رجح أن ثمة طقوسا مرتبطة بالزيت لها علاقة باحتفال بناء السفينة، لكن لا يوجد ما يعزز ذلك، وهنا اقترح البعض الآخر أن للزيت استخداما معينا له علاقة بإحكام سد ثغور السفينة، فحتى عهد قريب كان يستخدم الزيت لغمس الحبال التي خيطت به السفينة لكي يطيل في عمره الافتراضي.


طقوس الاحتفال باكتمال السفينة

70 - ذبحت للناس عجولا

71 - ورحت أنحر الخراف كل يوم

72 - عصيرا، وخمرا أحمر، وزيتا، وخمرا أبيض

73 - بذلت للصناع فشربوا كما من ماء نهر

74 - احتلفوا كما في عيد رأس السنة

75 - (.. ..) الدهون، غمست يدي

76 - (في اليوم السابع) أكملت السفينة

لا يختلف هذا المنظر عما يحدث حتى عهد قريب في طقوس بناء السفن، حتى أنه في البحرين وحتى بداية القرن العشرين كان يُصنع تمثال في مقدمة السفينة ثم يتم إلباس هذا التمثال جلد ماعز.


إنزال السفينة في الماء

77 - (إنزالها في الماء) كان صعبا.

78 - قاع السفينة كان يتحرك للأمام والخلف، فوق وتحت.

79 - (حتى غاص في الماء ) ثلثاها.

هذا يعني أن السفينة كانت تبنى في منطقة قريبة من الشاطئ ثم يتم دفعها للنزول في الماء تماما كما كان يحدث في العصور الحديثة.

العدد 2519 - الخميس 30 يوليو 2009م الموافق 08 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً