لقد كانت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 رهيبة من دون أي شك. كل شيء في هذه الأحداث كان استثنائيّا وصادما من طريقة التنفيذ إلى المواقع المستهدفة (برجي مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون)، إلى عدد الضحايا الأبرياء الذين سقطوا في هذه الهجمات، إلى العواقب المرعبة التي حوّلت الدولة العظمى في العالم إلى قوة عدوانية شرسة أعلنت الحرب الشاملة على كائن شبحي أطلقت عليه اسم «الإرهاب»، وسرعان ما شنّت، باسم هذه الحرب، حربين مدمرتين، الأولى كانت انتقامية في أفغانستان، والأخرى كانت احترازية واستباقية في العراق.
هناك تحليلات وتفسيرات وفرضيات جمّة تناولت هذه الأحداث وأسبابها، هناك بالطبع فرضية الباحث الفرنسي تيري ميسان التي تشكك في هذه الهجمات التي لم تكن سوى «خديعة مرعبة». ومن جهة أخرى لم يكن الباحث الفرنسي المتخصص في شئون الإسلام والشرق الأوسط، جيل كيبل يصدّق هذه الفرضية، إلا أنه، فيما يبدو، لا يؤمن بالطابع الاستثنائي المطلق لهذه الهجمات. والدليل على هذا أنه يضع هجمات نيويورك في سياق المقارنة مع هجمات إرهابية أخرى. أن تضع حدثا ما في سياق المقارنة مع أحداث أخرى يعني أن تنزع عنه الطابع الاستثنائي المطلق والمتفرد. ربما كان هذا الحدث هائلا إلا أنه ليس «الحدث»، بألف ولام الاستغراق، الذي يتعالى على بقية الأحداث. أما الهجمات التي يضعها جيل كيبل موضع المقارنة مع أحداث 11 سبتمبر فهي تفجيرات لندن في 7 يوليو/ تموز 2005 التي استهدفت شبكة المواصلات، وتسببت في مقتل 52 ضحية من الركاب وإصابة أكثر من 700 راكب. ووجه المقارنة هنا لا ينصب على عدد الضحايا أو تبعات الهجمات، بل على حجم الأذى الداخلي والمعنوي الذي تسببت فيه هذه الهجمات في كلا البلدين. وبحسب جيل كيبل فإن هجمات لندن تسببت في أذى للمجتمع البريطاني يفوق ذلك الأذى الذي تسببت فيه أحداث 11 سبتمبر داخل المجتمع الأميركي؛ والسبب، كما يقول، أن مهاجمي الولايات المتحدة كانوا أجانب، فيما كان المتورطون في هجمات لندن من المسلمين البريطانيين الذين ولدوا في بريطانيا ونشأوا فيها كمجتمع متعدد الثقافات.
ومن خلال هذه المقارنة يمكننا أن نستنتج أن منفذي هجمات 11 سبتمبر كانوا إرهابيين وقُساة ومتطرفين...إلخ أما المتورطون في هجمات لندن 2005 فإنهم يستحقون كل هذه الأوصاف إضافة إلى نكران الجميل وضعف الانتماء الوطني.
جاء ذلك في مقالة بعنوان «الرد الأوروبي على ظاهرة لندنستان»، ونشرت في 22 أغسطس/ آب 2005 أي بعد هجمات لندن بستة أسابيع. والمقالة عبارة عن مقاربة سياسية أراد جيل كيبل من خلالها تأكيد فشل نموذج التعددية الثقافية في أوروبا. فبريطانيا التي كانت توصف بأنها الدولة الأوروبية المناصرة للتعددية الثقافية، ها هي تدفع ثمن هذه المناصرة.
لقد شجّعت بريطانيا التعددية الثقافية، وتجلى هذا التشجيع في «مباهج الطعام متعدد الثقافات، والأدب، والموسيقى، والرقص، والفنون»، كما تموّل الدولة بعض المدارس الدينية، حيث توجد إلى جنب المدارس المسيحية مدارس لليهود وأخرى للهندوس والسيخ، وفي أواخر العام 1997 وافقت الحكومة على تمويل مدارس خاصة بالمسلمين.
وفي يناير/ كانون الثاني 1998 شكّلت «أمانة رنيميد» Trust Runnymede لجنة كُلفت برسم مستقبل بريطانيا بوصفها دولة متعددة الأعراق، وقد رأس اللجنة اللورد بيخو باريخ، وهو بروفيسور بريطاني من أصل هندي ويعد من أهم المدافعين عن التعددية الثقافية في بريطانيا، وقد وضعت اللجنة تقريرها الذي صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2000، وحظي بترحيب الحكومة ومجلس اللوردات والنواب، كما حظي بانتقادات واسعة في الأوساط البريطانية المحافظة. وفي مقدمة التقرير يؤكد بيخو باريخ مجموعة من المبادئ من بينها أن «المواطنين هم أفراد، وفي الوقت ذاته هم أعضاء في جماعات دينية أو إثنية أو ثقافية أو مناطقية، وأن بريطانيا هي جماعة من المواطنين ومجموعة من الجماعات community of communities، وهي مجتمع ليبرالي ومتعدد الثقافات في الوقت ذاته، وهي تحتاج إلى تسوية بعض المطالب المتعارضة أحيانا». بل يطالب التقرير المملكة المتحدة بأن «تعلن، وبصورة رسمية، أنها دولة متعددة الثقافات».
ما معنى أن تكون الدولة عبارة عن «مجموعة من الجماعات؟»، وما المقصود بالإعلان الرسمي عن بريطانيا كدولة متعددة الثقافات؟ يمكن أن ينصرف الذهن إلى أن المقصود هو أن على الدولة أن ترعى التنوع وتحترم حق الأفراد في الانتماء إلى الجماعة التي يختارونها. غير أن هذا الحق قد يقود إلى تعميق انتماء الفرد إلى الجماعة على حساب الانتماء إلى الدولة. وهذا ما يأخذه جيل كيبل وآخرون على بريطانيا وسياساتها المتعددة الثقافات التي سمحت بنمو إحساس قوي بقيمة الجماعة بين الأقليات والجاليات. وقد عبّر هذا الإحساس عن نفسه بين المسلمين البريطانيين من خلال نمو ظاهرة التطرف الديني في لندن أو ما اصطلح بعض الباحثين على تسميتها بظاهرة «لندنستان»، وهذه الظاهرة هي التي تسببت في هجمات لندن 2005. ويمكن توضيح مقصد كيبل بهذا التسلسل: 1- بريطانيا تتبنى سياسات التعددية الثقافية التي تقوم على التسامح المفرط مع الأقليات، 2- التسامح المفرط زرع بذور العنف الإرهابي والتطرف الديني بين المسلمين، 3- التطرف الديني يشن هجمات لندن في صيف 2005.
هذا هو التسلسل الذي يقوم عليه تحليل جيل كيبل، حيث «التطرف الإسلامي» هو نتيجة حتمية لسياسات التعددية الثقافية التي تبنتها بريطانيا. وتأكيدا لهذه النتيجة يقوم كيبل بالمقارنة بين مصير بريطانيا ومصير فرنسا. فالهجمات الإرهابية ضربت بريطانيا وهي الدولة التي شجعت التعددية الثقافية، في حين بقيت فرنسا في مأمن من هذه الهجمات وهي الدولة العلمانية، بل العلمانية الراديكالية التي شكّلت «لجنة ستازي» التي كُلّفت مهمة إعادة التعريف بـ «الميثاق العلماني»، وأوصت بمنع الرموز الدينية في المدارس، ونُفذت هذه النصيحة بقوة القانون في العام 2004!
والمحصلة النهائية من مقال جيل كيبل هي أن «نموذج التعددية الثقافية البريطاني يتعرض لأزمة». والغريب أن مارك روشيه نشر في صحيفة «لوموند» الفرنسية في 19 أغسطس/ آب 2005، مقالات ينتقد فيها نموذج التعددية الثقافية البريطانية، ووضع لمقالته هذا العنوان: «نموذج التعددية البريطانية يتعرض لأزمة». وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2006 نشرت صحيفة «لوموند دبلوماتك»، في طبعتها الإنجليزية، مقالة مطولة كتبتها ويندي كريستياناسن تحت عنوان «التعددية البريطانية تترنّح». هكذا وكأن ثمة مؤامرة فرنسية لضرب نموذج التعددية الثقافية البريطاني!
يشار إلى أن هذا النموذج أثار الكثير من الجدل والنقد قبل تفجيرات 7/7 وبعدها، إلا أن الجدل بعد التفجيرات تركز على السؤال عن ذنب التعددية الثقافية وعلاقتها الآثمة المزعومة بالإرهاب وبالتفجيرات وبشرور أخرى. وهو ما سيكون موضوع تحليلنا في الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2230 - الإثنين 13 أكتوبر 2008م الموافق 12 شوال 1429هـ