ثلاثة تطورات لافتة في سياسة الولايات المتحدة الخارجية ظهرت مجتمعة في أسبوع واحد فيما يتعلق بمواقفها من ملفات حساسة في منطقة شرق آسيا وجنوب غربها.
التطور الأول. توقيع الرئيس الأميركي جورج بوش على اتفاق التعاون النووي بين الولايات المتحدة والهند. فالاتفاق جاء بعد ثلاث سنوات من المفاوضات لينهي الحظر الدولي المفروض على نيودلهي منذ 34 سنة ردا على التجارب النووية التي اختبرتها الهند في العام 1974. وقضى الاتفاق بأن تتكفل الولايات المتحدة ببيع الهند مفاعلات ووقودا نوويا للاستخدام المدني، كذلك نقل تكنولوجيا متطورة إليها مقابل أن تفتح نيودلهي بعض منشآتها النووية أمام فرق التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
التطور الثاني. شطب الولايات المتحدة اسم كوريا الشمالية من قائمة «محور الشر» والدول التي تتهمها بدعم الإرهاب بعد التوصل إلى اتفاق بشأن التحقق من تفكيك المنشآت النووية. ورحبت بيونع يانغ بقرار واشنطن مؤكدة أنها ستعاود استئناف عملية تفكيك برنامجها النووي والسماح لفرق التفتيش الدولية بمواصلها عملها الإشرافي على المنشآت.
التطور الثالث. تأكيد وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس استعداد الولايات المتحدة عقد مصالحة مع حركة «طالبان» مشترطا أن تكون الخطوة مرتبطة بإجراء أفغانستان محادثات سلام مع «طالبان» لإنهاء حال العنف الذي اتسع نطاقه بعد سبع سنوات على الاحتلال. وجاء تصريح الوزير الأميركي لينهي ذاك الجدل الذي نشأ بين لندن وواشنطن بعد الكلام الذي أطلقه أحد قادة سلاح الجو البريطاني مارك كارلتون سميث واعترافه ضمنا بفشل الحرب على «طالبان». فالمسئول العسكري أكد «ان القوات الأجنبية عاجزة عن تحقيق نصر حاسم». وهو ما عاد وأشار إليه قائد الجيش البريطاني السير جوك سيتروب حين أكد أن لا نقطة نهاية مرتقبة للمهمة العسكرية الدولية في أفغانستان.
التطورات الثلاثة مهمة للغاية في حال أخذ في الاعتبار ذاك السلوك المتعجرف الذي اعتمدته إدارة البيت الأبيض في إدارة الملفات الثلاثة خلال السنوات الماضية. فالهند مثلا طالبت بضمانات ومساعدات عينية مقابل تنازلها عن سرية مشروعها النووي ولكن واشنطن رفضت التجاوب إلى أن وافقت في الأسابيع الأخيرة من عهد بوش. وكوريا الشمالية التي اتخذت قرار تجميد مشروعها النووي مقابل وعود أميركية أبدت استعدادها لرفع الحصار عنها ودعم اقتصادها ومساعدتها تجاريا واستثماريا، ولكن واشنطن ترددت ثم وافقت ثم تراجعت إلى أن قررت المضي في الاتفاق الذي جرى التفاوض بشأنه في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون. أما أفغانستان فإن إدارة بوش تعتبرها تقليديا ملجأ الإرهاب ومنها انطلقت شرارة الحرب الدولية وبسببها اضطرت واشنطن للرد عسكريا على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لذلك تعاملت بسلبية مع التصريحات البريطانية التي اعترفت بالعجز العسكري والفشل في احتواء العنف وطالبت بالتفاوض مع «طالبان» والتفاهم معها لضبط الاستقرار في البلاد وصيانة أمن الدولة وقوات الاحتلال.
هذه التطورات الدراماتيكية ليست عادية إذا وضعت في إطار استراتيجية التقويض العسكرية ومشروع تغيير الخرائط وتبديل الأنظمة والإصرار على تحقيق نصر حاسم على «الإرهاب» وعدم التراجع عن سياسة الهجوم والحصار والتطويق والمطاردة مهما كانت كلفتها البشرية أو النقدية. فالتطورات مهمة بالقياس إلى المرحلة السابقة ولكنها جاءت بسرعة وبالتتابع في فترة انتقالية يستعد خلالها طاقم البيت الأبيض للرحيل مهما كانت نتائج الانتخابات الرئاسية في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
توقيت الخطوات الثلاث مسألة لافتة لأنه جاء ليضعف الزخم المعنوي الذي حصلت عليه حملة المترشح الديمقراطي باراك أوباما بسبب تأخر إدارة بوش في حسم مواقفها من الملفات الثلاثة. لذلك سارعت حملة أوباما إلى تأييد الخطوات معتبرة أنها محاولة متأخرة لدعم المترشح الجمهوري جون ماكين. كذلك رحبت مختلف الجهات الرسمية بالخطوات ولكنها ميزت بين الموقف التقليدي من الهند وتلك السياسة السلبية من كوريا الشمالية و «طالبان».
إلا أن التوقيت لا يتصل فقط بالحملة الانتخابية واقتراب موعد اختيار الرئيس البديل وإنما يرتبط أيضا بتلك الأزمة النقدية الهائلة التي ضربت أسواق المال والبورصات وزعزعت الثقة بالاقتصاد الأميركي. فالضغط الدولي الذي ظهر على أكثر من صعيد ضد السياسة المالية التي تديرها واشنطن أملى عليها المسارعة في تقديم تنازلات لكسب الشارع وتخفيف الانتقادات ومساعدة ماكين على تحسين صورته المرتبطة معنويا بسمعة بوش وموقع الولايات المتحدة العالمي.
الصين وباكستان
التطورات الثلاثة لن تمر من دون ردود فعل وتداعيات إقليمية وربما قد تثير مخاوف من دول الجوار في المناطق الثلاث. فالموقف الأميركي المستحدث من الهند يرفع من نسبة قلق باكستان ومخاوفها المتصلة بملفها النووي (المدني والعسكري) ومشكلة كشمير وترسيم الحدود مع جارها الكبير. كذلك الموقف الأميركي المستجد من التفاوض مع «طالبان» واحتمال عزل باكستان عن لعب دورها الإقليمي في معالجة ملف «الإرهاب» واحتمال امتداده من كابول إلى إسلام آباد.
باكستان طالبت واشنطن معاملتها بالمثل بشأن الاتفاق بين الولايات المتحدة والهند على الملف النووي. ومخاوف إسلام آباد بهذا الصدد مشروعة لأنها أبدت مرارا قلقها من تلك السياسة الأميركية المزدوجة على الصعيدين: الأول، الملف النووي وعدم تفهم واشنطن لحاجة إسلام آباد إليه وكونه يشكل قوة ردع نفسية تلجم نيودلهي وتحد من طموحاتها الإقليمية. الثاني، ملف «الإرهاب» وخصوصية العلاقات الباكستانية - البشتونية بسبب توزع انتشار القبيلة على الحدود المشتركة مع أفغانستان.
باكستان تبدو متخوفة من سياسة أميركية تستهدف عزلها عن محيطها الأفغاني وسحب ورقة «طالبان» من التداول بذريعة أن الإرهاب مصدره من الحدود المشتركة التي تستخدمها «طالبان» قاعدة بشرية للتحرك العسكري ضد قوات الاحتلال الدولية. وباكستان أيضا قلقة من أن تشكل الخطوة الدبلوماسية الأميركية مع نيودلهي بداية ضغط على إسلام آباد ومعاقبتها بشأن ملفها النووي بذريعة أنه يحتاج إلى حماية دولية وقد يتعرض للسقوط في شبكة «القاعدة» ومنظمات «الإرهاب».
مخاوف باكستان من الجانبين الهندي والأفغاني تشبه قلق اليابان من رفع اسم كوريا الشمالية من قائمة الدول الداعمة للإرهاب. طوكيو رحبت بحذر بالخطوة الأميركية وأبدت ملاحظات إقليمية بشأنها وتخوفت من أن تكون بداية تغيير في أولويات الولايات المتحدة نظرا للدور الذي لعبته الصين في مساعدة واشنطن على إقناع كوريا الشمالية في تفكيك مشروعها النووي.
الخطوات الثلاث التي اتخذتها الولايات المتحدة في شرق آسيا وجنوب غربها لافتة جدا لأنها تتجاوز في حساباتها الداخلية الانتخابات الرئاسية وتتطلع نحو رسم خريطة طريق لتحالفات إقليمية قد تظهر على سطح السياسة الأميركية الدولية قبل خروج بوش من البيت الأبيض. فالولايات المتحدة الآن تحتاج إلى الصين بصفتها تشكل تلك القوة الاقتصادية الصاعدة وتمتلك احتياجات نقدية هائلة قد تساعدها في انتشالها من أزمة الأسواق المالية (قروض، سندات خزينة، ترويج المنتوجات الأميركية، توسيع مجالات الاستثمار). كذلك تلعب الصين دور الصديق الضاغط على الطرفين الكوري الشمالي (تشجيعه للتوافق مع مصالح كوريا الجنوبية) وباكستان لكونها الحليف التقليدي والداعم لإسلام آباد في معاركها الحدودية مع الهند. والصين في هذا الإطار الجغرافي - السياسي تستطيع أن تلعب دورها الخاص في مجالها الحيوي سواء في ضبط التوتر في شرق آسيا أو في إقناع حليفها الباكستاني على تقبل المتغيرات في جنوب غربي آسيا.
لاشك في أن التطورات الثلاثة التي قرر بوش اتخاذها ستكون لها انعكاساتها وتداعياتها في الأسابيع الأخيرة من عهده. فاليابان قلقة من نمو دور الصين الإقليمي وتطور علاقاتها مع أميركا في مجال شرق آسيا الجغرافي. وروسيا التي تعتبر تقليديا من حلفاء الهند لن تكون مرتاحة لتلك الخطوات الأميركية باتجاه نيودلهي. وباكستان متخوفة من خسارة الغطاء الصيني في وقت انحازت واشنطن إلى الهند وتحاول توريط إسلام آباد في معركة حدودية مع «طالبان» الأفغانية حتى تتخذها ذريعة لمحاصرة برنامجها النووي.
كل هذه الصور المحطمة يمكن رؤيتها في إطار سياسة أميركية اعتمدت استراتيجية الهجوم في السنوات السبع الماضية وبدأت الآن اتباع تكتيك الدفاع في سياق متغيرات إقليمية قد تؤدي إلى تبديل أولويات واشنطن وتحالفاتها التقليدية سواء على مستوى تطوير علاقاتها مع الصين في الشرق أو على مستوى تراجع علاقاتها مع باكستان في جنوب غربي آسيا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2230 - الإثنين 13 أكتوبر 2008م الموافق 12 شوال 1429هـ