أكتب هذا المقال من الولايات المتحدة حيث أقوم بزيارة عمل للعاصمة (واشنطن). وقد سنحت لي الزيارة متابعة من قرب لما يثار في المؤتمر السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وقد أنهى المؤتمر أعماله يوم أمس (الاثنين) وسط مخاوف من عدم السيطرة على الأزمة نظرا إلى عدم اكتمال خيوط القضية برمتها. الجديد في الأمر هو إعلان إدارة الرئيس جورج بوش عن تأميم أو شراء حصص في بعض البنوك الوطنية، الأمر الذي يتعارض مع مبدأ عدم تدخل الحكومة في الاقتصاد.
باختصار، يكمن السبب الجوهري للأزمة المالية الأخيرة والتي لم تنتهِ فصولها بعد إلى قيام مؤسسات وبنوك استثمارية أميركية بتقديم قروض لأفراد لا يتمتعون بملاءة مالية حسنة، لكن لديهم الاستعداد لدفع نسب فوائد عالية وتحمل رسوم إدارية مكلفة. بالمقابل، قدم الزبائن مساكنهم على شكل رهون عقارية مقابل القروض الممنوحة. وبدورها، قامت المؤسسات المالية المقدمة للقروض بتوريق (إصدار سندات مقابل القروض العقارية) وبيعها على المستثمرين المحليين والدوليين لغرض مضاعفة العائد. كما قامت بعض الجهات المالكة لهذه السندات برهنها لدى جهات أخرى من أجل الحصول على تسهيلات مصرفية وهنا يكمن سر تورط عدة جهات عند حدوث المشكلة. ومن هنا عرفت الأزمة بأزمة الرهن العقاري.
العقار فجر الأزمة
ظهرت المشكلة للسطح للمرة الأولى في صيف العام 2007 بعد أن تبين عدم قدرة نسبة غير قليلة من المقترضين بتسديد الديون المرتبة عليهم (رأس مال بالاضافة إلى خدمة الدين). وكرد فعل بادرت المؤسسات المالية المقدمة للقروض الأصلية ببيع الرهون العقارية التي بحوزتها لغرض استعادة كل أموالها أو جانب منها.
وأدت عمليات البيع إلى حدوث انخفاض في قيم العقارات نظرا إلى استعداد المؤسسات بيع العقارات بأقل من الأسعار السائدة في السوق لضمان سرعة إنهاء المعاملات. وتطلب الأمر طرد الملاك ممن تنطبق عليهم الشروط من منازلهم بقوة القانون مشكلا بذلك أزمة اجتماعية مهددة السلم الأهلي، بل إن عملية طرد الملاك من بيوتهم تأخذ فترة غير قصيرة في الولايات المتحدة بسبب الإجراءات المطولة المتبعة في المحاكم، لكن خلاف ما عليه الحال عندنا، فإن قرار المحكمة يصبح نافذا حين اتخاذه بغض النظر عن الظروف المحيطة بالقضية.
تورط الكبار
وساهم انتشار أخبار الأزمة في مختلف وسائل الإعلام إلى حدوث عمليات بيع لأسهم بعض المؤسسات المالية المتورطة في أزمة الرهن العقاري، ما أدى إلى تخفيض قيم أصولها. وعليه، حدث تراجع في مجال آخر أي أسواق المال التي تعد بدورها مرآة لواقع وآفاق الاقتصاد.
وما زاد من عمق المعضلة تورط بعض المؤسسات المالية العملاقة في الأزمة وفي مقدمتها شركة (ليمان براذرز) والتي تعد بدورها رابع أكبر بنك استثماري عقاري في أميركا فضلا عن شركتي «فاني ماي» و «فريدي ماك» اللتين كانتا تمتلكان نصف القروض العقارية في الولايات المتحدة حتى وقت قريب إضافة إلى شركة (أي جي إم) أكبر شركة عاملة في مجال التأمين في الولايات المتحدة (والتي تعتبر بدورها راعية قمصان فريق مانشستر يونايتد الانجليزي).
خطة الإنقاذ
وقد وافق مجلس النواب الأميركي على خطة الإنقاذ بكلفة مالية قدرها 700 مليار دولار بتاريخ 3 أكتوبر/ تشرين الأول بعد أن كان قد رفض الخطة الأصلية، وتطلب الأمر تضمين بعض التعديلات على الخطة مثل تعزيز الضمانات التي تقدمها الجهات الفيدرالية للودائع من 100 ألف دولار إلى 250 ألف دولار للحساب الواحد. وتركز الخطة على قيام الحكومة بشراء الأصول المتعثرة من المؤسسات المتضررة بقيمتها الأصلية حفاظا على أسعارها وبالتالي المساهمة في وضع حد للأزمة. وعليه، أصبحت الحكومة الفيدرالية هي من تمتلك وثائق الرهون العقارية. ومن المنتظر أن تعمل المؤسسات الاتحادية في الولايات المتحدة على إعادة جدولة الديون المترتبة على الأفراد غير القادرين على السداد، لكن ومن وراء الستار. كما يشمل برنامج الإنقاذ عقد جلسات اجتماع في الكونغرس بشأن أسباب حصول كبار التنفيذيين في بعض المؤسسات المالية على رواتب وعطايا خيالية على رغم الأداء المخيب لمؤسساتهم.
واللافت في هذا الجانب ما ذكره رئيس ماليزيا السابق مهاتير محمد على مدونته، أنه تعرض لانتقادات لاذعة عندما اتخذ خطوات مشابهة لمعالجة الأزمة المالية التي عصفت بشرق آسيا ومنها ماليزيا في التسعينيات بدعوى عدم استخدام أموال عامة لحل مشكلات تسببت فيها مؤسسات مالية. ويلاحظ هنا قيام الولايات المتحدة رائدة الفكر الرأسمالي بالتدخل الحكومي للحد من تداعيات الأزمة. وربما لم يكن أمام إدارة الرئيس جورج بوش من خيار سوى توظيف أموال دافعي الضرائب لإنقاذ الموقف خوفا من حدوث المزيد من التدهور وبالتالي ارتفاع كلفة المعالجة.
عندما تعطس أميركا
صدق من قال إنه إذا عطست أميركا فإن أوروبا تصام بالزكام، بل ربما يكون من الصواب الزعم بأنه إذا عطست أميركا فإن العدوى تنتقل للعالم بأسره. وربما يعود سر هذه الخاصية إلى قوة الاقتصاد الأميركي فضلا عن أمور مثل سرعة انتشار الأخبار الصادرة من الولايات المتحدة. ويبلغ حجم الناتج المحلي الأميركي نحو 14 ألف مليار دولار مقابل أقل من 5 آلاف مليار دولار حجم الاقتصاد الياباني والذي يعد بدوره ثاني أكبر اقتصاد في العالم. تعد عمليات البيع والشراء في الولايات المتحدة الأسهل والأسرع في العالم بسبب ضخامة حجم السوق واستعداد المؤسسات المالية لتقديم القروض ورغبة الناس في الاقتراض والعيش في بحبوحة.
قبل فترة سألت أحد المصرفيين عن سر إصرار المصرف الاستثماري الذي يعمل لديه بالاستثمار في السوق الأميركية دون الأسواق الأخرى، فقال في رده بأن السر يكمن في سهولة القيام بعملية الشراء والبيع في الاقتصاد الأميركي، مؤكدا عنصر القدرة على البيع بشكل يسير، وأن الصفة لا تنطبق بالضرورة على كل الأسواق بما في ذلك اليابان وأوروبا.
إقرأ أيضا لـ "جاسم حسين"العدد 2230 - الإثنين 13 أكتوبر 2008م الموافق 12 شوال 1429هـ