إذا ما أردتَ يوما أنْ تتحدّث عن ذاك الكم الوافر من الفرص التاريخية المهدرة في بحر من الحماقات السياسية والاستراتيجية، والعقد الماضوية المتقمّصة، فتكون شاهدا على مجريات منطقة «فراغ القوة الاستراتيجية» وهو التعبير الشائع من المفكّر اللبناني جورج قرم بشأن وصف الحالة التاريخية المنطقة الأشبه بالمراعي دون راعٍ تجاه الأقطاب الدولية والإقليمية، فبإمكانك حينها أنْ تسجّل نهاية من تلك التصريحات الحادة الصادرة عن الفريق ضاحي خلفان قائد شرطة دبي، والتي نُشرت في صحيفة «الشرق الأوسط» وقد هدد من خلالها إيران بزرع ألف خلية نائمة إذا ما حرّكت إيران خلاياها النائمة في الخليج، وطالب بدراسة شق قناة مائية من رأس الخيمة إلى بحر العرب استعاضة عن مضيق هرمز حيث أشار إلى المشروع الأخير بصفته مشروع الراحل الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم الذي سبق أن اقترحه كرد على تهديدات الزعيم الإيراني الراحل الخميني باستهداف ناقلات النفط! ولكن ما المشكل والمأزوم في تصريحات خلفان النارية؟!
أليس من حقه كمواطن أنْ يُدافع عن وطنه ردا على تلك العنتريات الإيرانية الفارغة والمعهودة التي دأبت تاريخيا في التعامل مع دول الخليج العربية كما لو أنّها فناؤها الخلفي «الخليج الفارسي في مرمى نيران الحرس الثوري» و«إغراق ناقلات النفط والسفن العابرة للمضيق» وغيرها؟!
لعلّ أزمة هذه التصريحات وقبلها التصريحات الإيرانية هي جزء من الأزمة العربية - الإيرانية وهي أزمة سخية جدا بتوتراتها الاندفاعية وهواجسها الملحمية المتفجّرة إلى درجة أنّها لم تبخل أبدا في ترك الميدان ساحة مفتوحة لمختلف المسئولين وغير المسئولين بمختلف درجاتهم ومناصبهم ومستوياتهم الوظيفية «عسكر، رجال أمن، مسئولون حكوميون، رجال دين، صحافيون، مشعوذون ..الخ» وذلك بين كلا الجانبين من ضفتي البحيرة الأميركية العظمى «الخليج العربي / الفارسي»، سواء حينما تهجّم موظف في وكالة الأنباء الإيرانية بأحط المستويات على الشيخ القرضاوي، أو حينما تجرأ مسئول إيراني رفيع على أنْ ينسب في تصريحاته الفاشية البحرين كمحافظة لإيران، وفي المقابل هناك نائب برلماني بحريني مُثير للجدل عُرف بتواضع مستواه المعرفي والعملي أخذ يفتي في «فقه المطامع والمطامح الإيرانية»، واليوم يُهدد الفريق ضاحي خلفان قائد شرطة دبي ويتوعدها كما لو أنّ إيران هي عصابة من المهربين وطغمة من مروّجي المخدرات وزمرة غوغائية وليست جارة كبرى رغم عجرفة ورعونة مسئوليها إلاّ أنها تتطلب استحضار الكثير من الحسابات المعقدة والسيناريوهات الاستراتيجية الدراماتيكية التي تؤثر على مصير المنطقة،ومثل تلك التصريحات الأخيرة كغيرها وإنْ قبلت كرأي شخصي في ذاته إلاّ أنها لا تتناسب في هجوميتها لو أرفقت مع منصب الفريق خلفان الأمني الداخلي لا الدفاعي والردعي وهي وإنْ عبّرت عن حق مشروع وشفت الغليل إلا أن لها العديد من آثارها المدمرة على كلا الجانبين إذا ما اتجها إلى إيقاظ الخلايا العبثية النائمة بدلا من المصالح التاريخية والدائمة بين الجانبين كليهما في الحفاظ على استقرار المنطقة، وهي أمور رغم معقوليتها إلاّ أنها ستتسبب في حريق شامل يأتي على كامل المنطقة إذا ما عجزت الأطراف عن تحمّل مسئولياتها!
هل تكفي تصريحات خلفان بما قبلها وما بعدها لتأطير حجم ذاك الانفلات والانفلاش التي تتميز به هذه الأزمة المصيرية؟!
هل ستحل الأزمة وتنتفى السقطات والتطورات المريعة تلك إذا ما أصبح كلّ شيعي مستهدفا وكل عربي وسني إيراني مستهدفا أيضا على الوتيرة ذاتها بحكم العقلية التوتاليتارية الأمنية المهيمنة ساعة الحروب والأزمات المقوضة لمضاجع الأمن القومي؟!
هذه الأزمة لا يمكن أنْ تحل لصالح جانب دون الجانب الآخر، فإنْ تم التسليم بحق إيران في برنامج طاقة نووية سلمي أو حتى دفاعي فهذا لابدّ أن يخوّل في النهاية تهديد أمن واستقرار دول الضفة العربية الخليجية المجاورة والتعامل معها كــ «فناء داخلي»، فهل يعقل أنْ تصف إيران على لسان علي لاريجاني مجمل العروض الأوروبية الاقتصادية والتكنولوجية المقدّمة لإيران بأنها «حلويات لا ترقى إلى مشروع إيران وحلمها القومي» في حين أنها تتنكر لحق دول الخليج العربية في رفض حلوى «السوهان» و»الكز» الاستثمارية المقدّمة لها في خطاب نجاد في القمة الخليجية الماضية بمقابل السكوت عن حقوقها الأصيلة والضمنية في السيادة (الجزر الإماراتية ) وفي الأمن والاستقرار والاعتبار!
وعلى الوزن ذاته لا تحل هذه الأزمة بحرمان إيران من حقها المشروع وفي أنْ تكون قوّة إقليمية معتبرة وقائمة بذاتها في مقابل ضمان اطمئنان دول الخليج والدول العربية المتراخية على بعضها والمستقوية بالأساطيل الأميركية، فإنْ كان من سوء حظ العرب والإيرانيين أنّ مثل هذه المرحلة الخطيرة والمصيرية قد أتت في عهد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الذي لطالما عرف برؤاه المسيانية والخلاصية وبمواقفه الدوغمائية والأيديولوجية الرعناء والمتشددة التي أضرت ببلاده وقدّمت أفضل الهدايا لـ «إسرائيل» بشهادة مرشد الثورة خامنئي قبل شهادة رئيس الموساد، وهي تصريحات رغم كثافتها النارية وجرأتها الفاقعة تثبت شرعا أنها لا تتوازن مع شحنات الفستق الإيراني المصدرة إلى تل أبيب!
كما يبدو من سوء الحظ أنّ موازين القوى السياسية الإيرانية التي تصب بشكل شبه مطلق وتاريخي لصالح التيار المحافظ ولأنصار الرئيس أحمدي نجاد من جماعة «المحافظين الجدد» الإيرانية يبدو أنه من الصعب عليها أْن تواكب تغيرا جذريا يوازي حتمية وحساسية الوضع الراهن خصوصا، فالأخير وجماعته قد استطاعوا تثبيت عرى علاقاتهم الوثيقة مع مختلف الأقطاب النافذة في بيت الحكم الإيراني بدءا من خامنئي وحتى جنتي، ولكن هل من سوء حظ أنظمة الغنيمة العربية وعروش البؤس الراهن أنْ تبسط إيران، أو «إمبراطورية الشطرنج» كما يحلو لبعض المحللين السياسيين الأميركيين تسميتها، نفوذها الإقليمي في المنطقة في الوقت الذي تخلت فيه تلك الأنظمة عن العراق شلوا شلوا وفي هيئة المتآمر الكائد؟! أميركا صنعت من الوليمة العراقية برجرا نفطيا وإيران أعدت «جلو كباب» قومجي، والعرب لم يحصدوا غير الشعر والعظام والرماد، فهل ما صرّح به وزير الخارجية المصري أبو الغيط عن أوان «تعميق» العلاقات مع العراق قد أتى في وقته بعدما غابت المصلحة الإقليمية العربية غيابا داكنا من الميدان العراقي واعتنقت الحماقات الاستراتيجية الأميركية وتحملت أوزارها مرات عديدة، أم أنه من المناسب لو أنه صرّح بــ«فات الأوان»؟!
ومتى ستستبدل الخلايا النائمة بالمصالح الدائمة؟! أبعد خروج المهدي المنتظر من غيبته أم بعد خروج القوّات الأميركية ومغادرة أفقها الاستراتيجي لغيبة خليجنا؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2229 - الأحد 12 أكتوبر 2008م الموافق 11 شوال 1429هـ