هناك موجات من المصالحات اللبنانية بدأت منذ توقيع «تفاهمات الدوحة» التي نصت على توافقات تنهي أزمة الفراغ في رئاسة الجمهورية وتعيد التوازن الوطني إلى الحكومة وتفعل نشاط مجلس النواب وتصدر قانون الانتخابات قبل اقتراب موعدها في ربيع 2009. كل هذه الخطوات اتخذت وجرى تنفيذها منذ مايو/ أيار الماضي وهي لاتزال تتواصل على مختلف الأصعدة العربية والدولية بقصد المساعدة على احتواء التشنجات الطائفية والمذهبية والمناطقية وتداعياتها الأهلية والعنفية والأمنية.
حتى الآن يبدو مشهد المصالحات هو الأقوى وخصوصا حين أخذت الموجات تتجه إلى غلق أبواب الفتنة وإقفال ملفات تعود في غالبيتها إلى فترة الحروب الأهلية - الإقليمية التي اكتسحت الساحة اللبنانية منذ العام 1975 إلى العام 1990.
المصالحات الداخلية التي عقدت في أكثر من مكان كشفت عن وجود انقسامات أهلية متنوعة في ألوانها وأشكالها. فهناك توترات مناطقية. وهناك خلافات في داخل الطائفة نفسها. وهناك توجهات غير متوافقة سياسيا بين المذاهب والطوائف. فالانقسامات متنوعة في عناصرها وأسبابها وموادها الأولية القابلة للاشتعال في حال توافر العوامل المطلوبة للانفجار.
الاختلافات اللبنانية لا تقتصر على تلك القائمة بين طائفة وطائفة أو بين مذهب ومذهب أو بين منطقة ومنطقة. فهذه الخلافات موجودة تقليديا وهي نتاج تركيبة الكيان السياسي وآليات إنتاجه للسلطة ولا يمكن تجاوزها من دون التوصل إلى عقلية تسووية (تاريخية) تتقبل فكرة الدولة وما تعنيه من موقع يلعب دوره الدستوري في توليد الشخصية الوطنية الجامعة. وبما أن الطوائف والمذاهب والمناطق لم تتوصل بعد إلى هذا الطور المتقدم من القناعات السياسية ستبقى بلاد الأرز في حال من الاضطراب الأهلي والفوضى الأمنية لعوامل داخلية وجغرافية وجوارية.
الخلافات اللبنانية المتولدة عن طبيعة النظام وأطيافه وتكويناته الديموغرافية وتضاريسه السكانية تعتبر من ثوابت صيغة قررت أن لبنان يتميز عن غيره ومحيطه بهذا النوع من الدستور الذي يعتمد نظام المحاصصة بين الطوائف والمذاهب والمناطق.
المشكلة لا تقتصر على ثوابت الصيغة ونظام المحاصصة وإنما في تفرعاتها الأهلية الممتدة إلى داخل الطوائف والمناطق والمذاهب نفسها. فهناك خلافات شيعية - شيعية، وسنية - سنية، ودرزية - درزية، ومارونية - مارونية (مسيحية - مسيحية). وهذه الخلافات متفاوتة نسبيا بين الفرقاء والأطياف والتكوينات ولكنها في المجموع العام موجودة في كل المحافظات والاقضية، ولا يخرج عن قانونها المشترك إلا تلك المجموعات المذهبية والاقوامية الصغيرة التي لا تتمتع بموقع خاص كتلك الجماعات القوية والقادرة على التأثير في المزاج الشعبي والتوازن الوطني.
الطائفة الشيعية مثلا تعاني من انقسامات داخلية (الانتشار في أقضية الجنوب والبقاع الأوسط والشمالي وضاحية بيروت الجنوبية) تتحكم بها مجموعة آليات تعود إلى خصوصية المرجعيات واختلافاتها الفقهية المعطوفة على تنوع الزعامات الأسرية التقليدية ما شجع على تأسيس مواقع قوى تتنافس على القيادات المحلية الموصولة ايديولوجيا بين تيار لبناني يغلب مفهوم الدولة على كل الانتماءات والولاءات الأخرى وبين تيار عروبي وآخر إسلامي يضع المحيط الجواري العربي أو الإقليمي فوق لبنان ودولته.
هذا المزاج الشيعي - الشيعي العام موجود في كل الطوائف اللبنانية ولكنه يختلف عنها في خصوصيته. فالخلافات في الطائفة السنية موجودة بقوة ولكنها تخضع في تركيبتها إلى توازنات المرحلة وامتداداتها الجوارية والإقليمية. وتأثير المحيط العربي - الإسلامي على السنة في لبنان ليس جديدا ولكنه يتغير سياسيا بين محطة زمنية وأخرى ويتبدل بحسب ظروف المرحلة. ففي الحقبة الناصرية (مشروع الرئيس جمال عبدالناصر الوحدوي) لعبت مصر دورها السياسي في تشكيل تيارات عروبية وقومية عطلت نمو اتجاهات إسلامية (حركة الإخوان) بسبب تضاربها أو تعارضها مع برنامج عبدالناصر وأولوياته. وحين رحل الرئيس المصري وتراجع موقع القاهرة العروبي ودورها في تشكيل الهيئة السياسية لمراكز قوى الطائفة السنية أخذت التيارات الإسلامية تشهد خطوات متقدمة في النمو واختراق الأحياء السنية في المدن والمناطق منذ سبعينات القرن الماضي. وهذا التبدل المحدود في الأمزجة السياسية لم يعطل دور البيوت (العائلات) السنية وموقعها في ضبط الشارع لمصلحة زعامات محلية محكومة بآليات الصراع على السلطة (رئاسة الوزراء، مناصب وزارية ونيابية) وهيئاتها المدينية (بيروت، طرابلس، صيدا).
طوائف ومناطق وأحياء
انقسام الطائفة السنية في لبنان شديد التعقيد والتداخل نظرا لتلك المتغيرات الإقليمية والعواصف الدولية التي زعزعت مواقع الدول العربية المركزية وهمشت نسبيا دورها في التوازن القومي العام. وهذا الانقسام نجد ما يماثله وسط الطائفة الدرزية ولكنه يختلف في أمزجته السياسية وطبيعته التكوينية بسبب الظروف الخاصة لهذه الفرقة المسلمة الصغيرة نسبيا في لبنان والضعيفة في امتداداتها الجوارية (الجغرافية) والإقليمية. وبحكم هذا التركيب المختلف تنوعت خلافات الدروز بين تيار إسلامي وآخر عروبي وبين توجهات لبنانية تتحكم بها نزعة الولاء للقيادات التقليدية المحلية والزعامات التاريخية المتوارثة. ضعف الدروز الإقليمي فرض على الطائفة الانطواء إلى الداخل والبحث عن بدائل سياسية محلية تتوزع على الأقضية اللبنانية (الجبلية) أو الطرفية (البقاع الغربي).
الانقسامات السياسية والولائية في الطوائف المسلمة ليست فريدة في نوعها وإنما هناك ما يماثلها في الطوائف المسيحية. فالموارنة مثلا طائفة كاثوليكية تتمتع باستقلال كياني نسبي وتنتمي كنسيا إلى الفاتيكان (عاصمة الكاثوليكية في العالم) وإقليميا إلى الكرسي البطريركي الانطاكي في الشرق (المشرق العربي). والأرثوذكس طائفة رومية بيزنطية أصيبت بالضعف الإقليمي بعد تقسيم بلاد الشام وتفكيك كنيسة الروم إلى مراكز قوى منشطرة أو موزعة على الكيانات السياسية في دائرة المشرق العربي. والحال نفسه يمكن ملاحظته في كنيسة الأرمن الأرثوذكس التي واجهت صعوبات سياسية بعد انقلاب جمعية «الاتحاد والترقي» على السلطان العثماني وتشريد الأقليات وطردها من تركيا (العلمانية الأتاتوركية) في مطلع القرن الماضي.
التشابه في الانقسامات بين الطوائف المسلمة والمسيحية لا يعني تطابق قوانين الاختلافات. فالتطابق غير موجود نسبيا بسبب اختلاف الثقافات والطقوس والتراتب الهرمي في الكنائس وصلتها بالتقاليد الغربية (الأوروبية). وهذا الاختلاف النسبي في التكوين الداخلي للطوائف لا يعني أن المسيحيين سياسيا غرباء عن المتغيرات الإقليمية وتأثير الامتدادات الجوارية على مزاجها العام وصلته بالتحولات الدولية وموازين القوى التي تضغط على المنطقة أحيانا وتعصف بها أحيانا أخرى.
كل الطوائف والمذاهب في الوعاء اللبناني. وبسبب خصوصية هذا الوعاء تشكلت ثقافة ذاتية أعطت حيوية لكل المجموعات الأهلية معطوفة على استقلالية نسبية حتى عن تلك الامتدادات المتشابهة في المحيطين العربي والإسلامي. فالشيعة في بلاد الأرز لهم خصوصية «لبنانية»، كذلك السنة والدروز والمجموعات المسيحية (موارنة، كاثوليك، أرثوذكس، سريان، أرمن) لهم خصوصيات تختلف في أنماطها السلوكية عن الطوائف والمذاهب المشابهة عقائديا في المنطقة العربية ومحيطها الإسلامي - الدولي.
هذا التنوع الطائفي المضاف إلى التعدد الثقافي والخصوصيات الداخلية والانقسامات المناطقية والأهلية، أعطى نكهة لتلك المصالحات الثنائية في إطار الطوائف والمذاهب وبين المناطق والاقضية. فالمصالحات مختلطة تشبه كثيرا تركيبة الكيان السياسي وتداخل تضاريسه الطبيعية بتضاريسه السكانية. وهذا الاختلاط النسبي في التكوينات والأطياف والثقافات والزعامات أسس تلك المعطيات المحلية للاختلافات. فهناك محاولة لمصالحة رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع مع رئيس «تنظيم المردة» سليمان فرنجية وهي في طبيعتها سياسية ولكنها تتضمن تفصيلات خلافية بشراوية (قضاء بشري) وزغرتاوية (قضاء زغرتا) متراكمة ومتوارثة عن صراعات محلية وعائلية تقليدية بين القضاءين المارونيين في الشمال اللبناني. وهناك مصالحة جرت في الجبل (الشوف، عاليه، والمتن الجنوبي) بين رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس «الحزب الديمقراطي» طلال أرسلان لترميم التصدع السياسي بين الزعامتين الدرزيتين ولكنها أيضا تتضمن تفصيلات خلافية متوارثة عن الخلافات العصبية بين الجنبلاطية واليزبكية وفشل المصاهرة بينهما (والدة جنبلاط أرسلانية ووالدة أرسلان جنبلاطية). وهناك مصالحات جرت في الأحياء السنية بين زعامة آل الحريري العصرية والحداثية ومجموع البيوتات (العائلات القديمة) وتلك القوى السياسية المتمثلة بنمو تيارات ايديولوجية غير موالية لمراكز القوى التي تتألف منها الزعامات التقليدية أو الحديثة (الجديدة) في العاصمة والمدن والمناطق السنية (صيدا، طرابلس، إقليم الخروب، عكار، والبقاع الغربي).
كل هذه التلاوين تكشف عن تنويعات المصالحات اللبنانية التي ظهرت على الشاشة السياسية بعد أن تطورت الانقسامات الأهلية إلى درجة سجلت الطوائف محاولات اقتحام طائفية (طائفة ضد طائفة) ومناطقية (منطقة ضد أخرى) ما رفع من درجة التوتر الأمني في الأحياء الشعبية ورسم خطوط تماس ساخنة زعزعت التوازن والتواصل والتعايش في الأمكنة المختلطة.
موجات المصالحات بدأت بعد «تفاهمات الدوحة» ويرجح أن تتواصل فولكوريا حتى اقتراب موعد الانتخابات النيابية في الربيع المقبل. وبانقضاء تلك الفترة يمكن أن تطرأ الكثير من التعديلات ليس في لبنان وحده وإنما في الجوار والمحيط
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2227 - الجمعة 10 أكتوبر 2008م الموافق 09 شوال 1429هـ