ونحن على أعتاب دور الانعقاد الثالث بعد أن قضى النواب إجازة طويلة، وبعودتهم مجددا إلى مقاعدهم النيابية وتحركاتهم، يجدر بنا أن نسجل بعض الملاحظات ندونها على شكل تأملات في واقع التجربة البرلمانية الماضية، لنستشرف حينها مستقبل العمل البرلماني في البحرين والذي عادة لا يبشر بأي خير بحسب المقدمات الحالية والخطوات السلحفائية التي لا نرى غيرها ولا نتوقع سواها لكون الأفق لايزال في أدنى مستوياته لدى البعض إلى جانب توازنات هنا وهناك تحاول أن تلقي بثقلها على المعادلة البرلمانية لتكتمل حينها الصورة الشكلية لمستقبل الديمقراطية البرلمانية في بحريننا الغالية.
يستطيع المتأمل في تجربة البحرين الديمقراطية أن يلاحظ تيارين رئيسيين يتجاذبان أطراف هذه التجربة، ويحاول كل منهما تحويرها وفق قناعاته.
يتمثل التيار الأول في الجهاز الإداري المحافظ الذي يهيمن على كل مفاصل الدولة وأجهزتها الإدارية والمالية، ويمتلك قدرات هائلة في الحراك السياسي، والاجتماعي، والإعلامي، والاقتصادي، والمالي. وهو من البدء لا يؤمن بالديمقراطية، ولا يراها حقّا من حقوق المواطن، لكنه مجبر على مجاراة النغمات الدولية التي تطالب بتحقيق الديمقراطية، والمشاركة الاجتماعية في اتخاذ القرار، ومجبر على الاستجابة للمطالب الشعبية بتحقيق نوع من الديمقراطية.
أما التيار الثاني فيتمثل في القوى الوطنية والشعبية بقياداتها الإسلامية والوطنية، التي ظلت عبر سنوات من تاريخها الطويل تحلم بالديمقراطية، وتطالب بها، وتراها حقّا من الحقوق العامة للمواطن. وتحملت في ذلك الكثير من الاعتقال، والقتل، والتهجير، وانتهاك الحرمات، والتعسف، والتمييز، والتشهير، لكنها بقيت مصرة على تحقيق حلمها، وقد استطاعت أن تجعل من مطلبها في تحقيق الديمقراطية القضية الوطنية الأولى، ومفتاح الحل لكل المشكلات والقضايا الوطنية الأخرى. وتمكنت من انتزاع اعتراف التيار المحافظ في الدولة بهذا الحق، والاستجابة لصوتها الذي ظل عاليا ابان تسعينيات القرن الماضي.
وإذ أجبر التيار المحافظ على الاستجابة الشعبية التي كانت ترى في البرلمان الحل لمشكلاتها وقضاياها، تعمَّد تفريغ التجربة من محتواها، وجعلها كسيحة، عرجاء، مشوهة، لا تستطيع القيام بدورها والوفاء بالتزاماتها.
وكانت حجة هذا التيار المحافظ في ذلك هو أن الديمقراطية تحتاج إلى التدرج، ولا يمكن السماح بالانفلات في تجربة ديمقراطية تجاري تجارب الدول الديمقراطية المتطورة، لأن الأوضاع المتغيرة في المنطقة، وظروفها، لا تسمح بذلك، ولأن الخبرة والممارسة الشعبية غير ناضجتين في هذا المجال.
وبمرارة قاسية، عبَّر التيار الوطني والشعبي عن سخطه لوقوف التيار المحافظ في سبيل تحقيق حلمه الوطني في تحقيق الديمقراطية، وقاطع أول دورة انتخابات في العام 2002 بذريعة أنها ديمقراطية شكلية، مشوهة، لا ترقى إلى مستوى الطموح، ولا تعدو أن تكون ديكورا يزين النظام السياسي ويلمعه. ثم شارك فيها في الدورة الثانية العام 2006، بذريعة أنه يمكن المساعدة في إنقاذ التجربة من المتسلقين الذين سارعوا إلى المشاركة فيها ناصبين من أنفسهم ممثلين للشعب، ولا يعدو طموحهم تحقيق مصالحهم الخاصة. ولكن هذا التيار المشارك وجد نفسه في مجموعة من المزالق والمستنقعات العفنة التي لا يمكن تجاوزها بسلام.
وأول مستنقع خطير واجهه التيار الوطني والشعبي تمثل في مستنقع الطائفية الذي وزع الدوائر الانتخابية على أساس طائفي يفرز إفرازا طائفيّا لصالح التيار المحافظ، وقسم المواطنين إلى شيعة وسنة، وجعل السنة يتكتلون ضمن طائفتهم ويفكرون في حدود مصالحها، كما أوحى للشيعة بوجوب التكتل ضمن طائفتهم والتفكير فقط في مصالحهم الضيقة. وخاض كثير من دعاة الوطنية والإصلاح في هذا المستنقع، وظنوا أن الخير فيه، فما وجدوا فيه إلا الشر المستطير الذي يكاد أن يحرق البلاد بما فيها ومن فيها.
والأغرب أن كثيرا من النكرات والشخصيات المجهولة، أو المشبوهة، التي لم يكن لها وجود في حركة الإصلاح، أو بالأحرى كانت مضادة ومقاومة للحركة الإصلاحية، بدأت تظهر على السطح لتتسنم زمام القيادة في هذا المستنقع، وتبرز مشاكسة عنيدة في أطروحاتها الطائفية والفئوية، مذيعة لنواياها السنوية في تقسيم أبناء الوطن، داعية إلى تعزيز واقع سيئ، وهي مدعومة من التيار المحافظ الذي وفر لها كل إمكانات البروز، وخصوصا في مجال ترسيخ الطائفية والحفاظ على المصالح الطائفية والفئوية الضيقة.
أما المستنقع الآخر الذي أسس له التيار المحافظ الموجود في سلطة اتخاذ القرار، فهو المستنقع الأخطر، فتمثل في تحريف المهمات النيابية وهذا ما أشار إليه أحد النواب عندما سجل يومياته ونشرتها في أحد المقالات السابقة بعنوان: «يوميات أحد النواب»، وتغليب الدور الخدمي فيها، وإشاعة هذه الثقافة بين جمهور الناخبين. فالنائب يجب أن يكون واسطة للحصول على الوظيفة، والترقي فيها، ويجب أن يبادر لحل مشكلات المواطنين اليومية التي تجابههم مع الجهاز التنفيذي للدولة، ويجب أن يتصدى لفقرهم، وفاقتهم، وعوزهم الذي وضعوا فيه.
وإضافة إلى ذلك، استطاع التيار المحافظ أن يخلق لنواب المعارضة نوعا جديدا من المشكلات المتعلقة بدوائرهم الانتخابية، وتمثل ذلك في حرمان تلك المناطق من الخدمات الحيوية، وخلق نوع من الصراع على الخدمة الإسكانية المتمثلة في امتدادات القرى، وأبرز مثال لذلك مشروع إسكان النويدرات الذي كان مخصصا لأهالي قرية النويدرات والعكر والمعامير وسند، وفجأة يراد تحويله إلى دائرة انتخابية، بل وإلى فئة محددة من هذه الدائرة، بتجاهل أبناء القرى الذي أقيم المشروع من أجلهم.
وللمهتمين برجاء متابعة السلسلة القادمة من المقالات التي تحلل الكثير من أبعاد التجربة النيابية والغرض والاستفادة من التجربة والعمل على إنجاح ما تبقى منها
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 2227 - الجمعة 10 أكتوبر 2008م الموافق 09 شوال 1429هـ