في غمرة التَّداعيات العالمية والتطورات المتسارعة في المنطقة، تبرز إلى الواجهة تصريحات رئيس وزراء العدو الإسرائيلي الداعية إلى انسحاب «إسرائيل» من الجولان ومن بعض الأحياء التي يقطنها العرب في القدس المحتلة، وأنه يتعيّن على «إسرائيل» التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، وأنه أخطأ عندما كان يعتقد في السنوات الأخيرة أنّه يمكن لـ «إسرائيل» فرض سيطرتها على كل أنحاء القدس، وأنه لا يمكن تحقيق السلام مع سورية من دون الانسحاب من هضبة الجولان.
إننا في الوقت الذي نعتبر أن هذه التصريحات تُظهر حجم المأزق الإسرائيلي، وتمثل ردّا على من يزعم أن الانتفاضة لم تحقق إنجازات تذكر، إلا أنّنا نرى أنّه لا قيمة عملية لهذه التصريحات، لأنها لا تمثل أية استراتيجية إسرائيلية في حلّ المشكلة الفلسطينية، وخصوصا أن «أولمرت» لم يتحدث عن الانسحاب الكامل إلى ما وراء خطوط الرابع من يونيو/ حزيران، وإزالة المستوطنات والجدار العنصري، مما لا يمكن للفلسطينيين في مواقع السلطة أن يقبلوه، لأنهم لا يستطيعون إقناع الشعب بذلك، هذا إضافة إلى أن الوسط الصهيوني يعارض مثل هذه الطروحات.
ومن جهة أخرى، فإننا نتصور أن هذه التصريحات تسلّط الضوء على صلابة الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضته، في خط المواجهة والإصرار على تحقيق أهدافه الشرعية، بما يؤدي بالعدوّ إلى اليأس من أية حال استقرار لوجوده في فلسطين، ما يفرض على الجميع في فلسطين الاستمرار في الصمود الحركي المقاوم الفاعل، والبحث عن أساس الوحدة السياسية من خلال وحدة الموقف، لأن الخلاف المستحكم بين السلطة والمقاومة سيُضعف الموقف السياسي والجهادي في خط التحرير، ويبقي حديث السلطة الفلسطينية عن الثوابت الفلسطينية مجرد شعار لا واقعية له، لأنه يؤدي إلى إشغال الواقع الفلسطيني السياسي بالخلافات، بعيدا عن مسألة الدفاع عن الثوابت الأساسية، ولاسيما أن المجتمع اليهودي لايزال يؤكد أهدافه الاستراتيجية الساعية إلى منع الشعب الفلسطيني من الحصول على حقوقه الشرعية، وخصوصا مع الخداع الأميركي المتواصل للشعب الفلسطيني في قضية السلام، والحديث عن الدَّولتين مما لم توضع له أية آلية واقعية حقيقية، حتى في مشروع خريطة الطريق من خلال اللجنة الرباعية التي لا تملك أية فاعلية، بفعل الضغط الأميركي والرفض الصهيوني، مع المزيد من الاسترخاء العربي في مسألة الضغط الفعلي على كيان العدوّ والإدارة الأميركية، لأنهم يتحركون في خطوطها المتنوعة في إطار اللعبة السياسية الخاضعة لما يسمّى «محور الاعتدال العربي» الذي فرضته أميركا لتعميق الصداقة مع «إسرائيل»، بالمستوى الذي يتحوّل فيه الموقف العربي إلى التنسيق مع الدولة اليهودية في إضاعة القضية الفلسطينية في متاهات التنازلات، وصولا إلى فرض حلّ ضعيف ومشوّه لا يحقق للشعب الفلسطيني أدنى الطموحات، إضافة إلى توفير مناخات سياسية وأمنية تهديدية ضد إيران، امتثالا لـ «إسرائيل» التي ربما تفكر في التحرك عسكريّا لقصف بعض المواقع النووية في إيران بالتنسيق مع أميركا، ما قد يدمّر الأمن العربي إذا دخل في مفاعيل الحرب، لأنّ هؤلاء لا يملكون القدرة على رفض ما تريده أميركا الإسرائيلية و»إسرائيل» الأميركية، من إضعاف للعالم العربي اقتصاديّا وسياسيّا وأمنيّا، كما حدث في تعاونهما مع الدول الغربية في الحرب العراقية - الإيرانية وفي حرب الكويت، ما أدى إلى تدمير الاقتصاد الإيراني والعربي، وإيجاد الظروف الاستراتيجية لتأسيس القواعد العسكرية الأميركية في الخليج بحجة الدفاع عنه أمام عدوان الطاغية في العراق، وأمام الخطر الإيراني المزعوم.
الإدارة الأميركية: كارثة اقتصادية تضرب الأسواق العالمية
أما في المشهد الأميركي، فإنّ الكارثة الاقتصادية التي حلّت بالاقتصاد الأميركي، ومنعت رئيس الإدارة الأميركية من تحقيق مشروعه الإنقاذي الأول، من خلال الصفعة القوية بإسقاط خطته البالغة 700 مليار دولار من خلال مجلس النواب، على رغم مناشدته لهم ووصفه المشروع بأنه ضروري من أجل «الحيلولة دون انتشار أزمة نظامنا المالي في اقتصادنا»، كما قال، ما اضطره إلى ادخال تعديلات عليه... إنّ ذلك يشير إلى الفساد الاقتصادي الذي تختزنه المصارف الأميركية والشركات الأميركية الاحتكارية، ما يترك تأثيره في الاقتصاد العالمي على مستوى تهاوي الأسهم حتى في الأسواق الأوروبية والذي امتدّ إلى الأسواق العربية. هذا إضافة إلى تفاقم الأزمة الائتمانية، ما أحدث خسارة مالية على مستوى كارثي، ولاسيما في أوساط العالم العربي الذي يضع أكثر أرصدته في المصارف الأميركية كاستثمارات متحركة يلعب بها اللاعبون في حالات التخطيط للهبوط في حركة الأسهم، وفي لعبة الاستثمارات لحساب التخطيط اليهودي المسيطر على أكثر المواقع الاقتصادية في أميركا، الأمر الذي لا بد للعرب من أن يدرسوه لإيجاد السبل التي تحفظ لهم استقرارهم الاقتصادي وثرواتهم المالية.
إن هناك أكثر من وسيلة لإيجاد نوعٍ من الإستراتيجية الثابتة لبناء اقتصاد عربي قوي يستطيع أن يفعل الكثير في اقتصاد العالم بدلا من أن يكون منفعلا به. ومن اللافت أن بعض المسئولين العرب يبادرون إلى التبرع بتقديم عشرات المليارات لإنقاذ الاقتصاد الأميركي، بدلا من حلّ المشاكل المعقّدة في الواقع الاقتصادي الكارثي لشعوب العالم العربي، وذلك بدءا بتصنيع الموارد العربية، والتخطيط لسياسة الإنتاج بدلا من سياسة الاستهلاك التي تأكل ثرواتنا في حركة أسواق العولمة، وتستغل حاجاتنا لصنع المزيد من الأزمات المالية في العالم العربي.
لبنان: اهتزازات أمنيَّة محلية ودولية
أما لبنان، فقد عاش الاهتزاز الأمني من جديد في الاعتداء على الحافلة التي تقل عناصر من الجيش اللبناني، في ظروف خفيّة معقّدة وخلفيات غامضة تختلف التحليلات والتفسيرات بشأنها، بين رابط لها بالعبث بالمصالحات السياسية، ورابط لها بالمنظمات المتطرفة أو بمسألة مخيم نهر البارد، ما يدل على أن هناك خشية من امتداد هذا الاهتزاز إلى مناطق أخرى، والاستمرار في الاعتداء على الجيش الذي يمثل قوة الردع للاختلال الأمني في البلد.
ومن الطَّريف أن أميركا التي تشدد على دعم مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية، وتنادي بضرورة إخضاع الأسلحة في لبنان لسيطرة الجيش، لم تقم بأية مبادرة لتسليح الجيش اللبناني والقوى الأمنية الأخرى بالسلاح المتطوّر الذي يستطيع من خلاله أن يواجه قوى العدوان الداخلي والخارجي، لأنّ «إسرائيل» لا توافق على ذلك، كما صرّح بذلك مسئول أميركي قائلا: «إننا لا يمكن أن نقدّم للجيش اللبناني أي سلاح متطوّر، لأنّ (إسرائيل) حليفتنا»، وهذا ما نلاحظه في الدول الأوروبية الأخرى التي لا تسمح بتطوير القدرات العسكرية اللبنانية كأية دولة قادرة على الدفاع عن نفسها ضد العدوان، ولعل مكمن الخلل في لبنان، أن الشعب أصبح مسلحا بالسلاح الفردي، وأن الأحزاب والمنظمات تملك السلاح الثقيل، وأن سوق الأسلحة يلاقي رواجا دائما في مستوياته السياسية والتجارية، ولاسيما أن أكثر من محور عربي أو دولي يتعامل بهذه الطريقة، الأمر الذي يجعل الجميع يخشون من أن تتحرك الاهتزازات الأمنية من منطقة إلى أخرى، وخصوصا في ظل التعقيدات السياسية والانتخابية القادمة، وتداخل الحسابات الإقليمية والدولية والعربية على الساحة اللبنانية.
وفي هذا الجو، نلاحظ أن المنطقة العربية تهتز بفعل الأوضاع الأمنية التفجيرية، كما حدث في سورية والعراق والصومال، ولابد لنا من مراقبة هذه الأوضاع بدقة ووعي، لأن النار عندما تندلع في أي موقع في المنطقة، فإن شراراتها ستصل إلى لبنان الذي تشتعل فيه النيران بفعل الخلافات العربية والاختراقات الأمنية المتعددة.
لذلك، علينا أن نتحرك في خطوط المسئولية الواعية بالعيون المفتوحة، والعقل المنفتح على الآفاق الواسعة، والخطوات المتحركة نحو الوحدة الوطنية والسلام الأهلي والتعايش في خط المواطنة.
وأخيرا، لقد سمعنا كلاما عاقلا وحكيما من مرجعيات وقيادات إسلامية على أبواب عيد الفطر السعيد، بعض هذا الكلام صدر عن مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، الذي رفض فيه طريقة السجال الدائرة حاليّا بين السنّة والشيعة، داعيا علماء المسلمين إلى الاحتكام إلى الكتاب والسنّة، والى أن يكون جهدهم متجها إلى إصلاح الأخطاء، لا إلى بيان الأخطاء من كل جانب، والبعض الآخر من هذا الكلام سمعناه من شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، الذي دعا إلى نبذ الخلافات السنية - الشيعية، مؤكِّدا أن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لإضعاف أعداء الأمة الإسلامية، قائلا: «إننا أمة إسلامية واحدة، سنيّة أو شيعية، كلنا ندين بدين واحد، ولا يوجد أي خلافات جوهرية بيننا، وإن قوة المسلمين هي في توحّدهم بجميع مذاهبهم، حتى تستعيد الأمة الإسلامية مكانتها المستحقة بين الأمم».
إننا نرحب بهذا الكلام المسئول العاقل والحكيم، وندعو علماء المسلمين ومراجعهم إلى تحمّل مسئولياتهم في توحيد الصفوف ورصّها، بالدعوة إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، ونبذ الخلافات، والاعتصام بحبل الله المتين، وخصوصا في هذه المراحل الصعبة التي يتعرّض فيها الإسلام لأبشع حملات التشويه، ويتعرّض فيها المسلمون لكل ألوان الظلم والوحشية والإرهاب
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2226 - الخميس 09 أكتوبر 2008م الموافق 08 شوال 1429هـ