نعود اليوم مرة أخرى إلى مناقشة بل فضح المواقف الصامتة والسياسات المتواطئة، تجاه ارتكاب «إسرائيل» جرائم حرب، ضد الشعب الفلسطيني، من دون مساءلة أو محاكمة، بحكم الحماية الأميركية الأوروبية المتوافرة لها...
قلنا في المقال الماضي «متى تحاكم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب؟» عن التقرير الدولي الذي أقره المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع إلى الأمم المتحدة، قبل أيام قليلة، وأدان فيه «إسرائيل» بارتكاب جريمة حرب ضد الفلسطينيين في بيت حانون، إنه قد جاء للعرب هدية ثمينة على طبق من ذهب، وسألنا هل نستطيع أن نستغل هذا التقرير الدولي، لتقديم «إسرائيل» إلى محاكمة دولية، وهل نتحرك في الوقت المناسب، وما هو دور الحكومات والمنظمات العربية المسئولة... أم إن الإهمال سيسود لأن الإرادة غائبة؟!
وقد سعدتُّ بعدد من الرسائل الجادة تعليقا وتشجيعا على ضرورة إثارة فتح هذا الملف، وقد اخترت رسالة، بل هي دراسة قانونية مختصرة بها مقترحات محددة، أعدها القاضي السابق بالمحكمة الدولية لجرائم الحرب فؤاد عبدالمنعم رياض، صاحب الرأي الصائب والخبرة الدولية في هذا المجال، يقول فيها، عزيزي... تعبيرا عن عميق تقديري لما جاء في مقالكم السابق، أرى من واجبي موافاتكم ببعض الأمور المتصلة على النحو الآتي:
أعدت لجنة تقصي الحقائق الدولية عن قصف «إسرائيل» بيت حانون في قطاع غزة برئاسة الأسقف ديزموند توتو تقريرا يدين القوات الإسرائيلية بارتكاب جرائم حرب، كما اتهمت اللجنة الحكومة الإسرائيلية بعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لملاحقة المسئولين عن هذه الجرائم، كما تقضي بذلك قواعد القانون الجنائي الدولي، وقد تبنى المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع إلى الأمم المتحدة هذا التقرير في 25 سبتمبر/ أيلول 2008 بغالبية ساحقة، ويثور السؤال حينئذ عن الخطوة التالية التي يتعين اتخاذها والتي دعا إليها مقالك المنشور في 24 سبتمبر 2008 «متى تحاكم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب؟».
ولاشك أن تقرير الأسقف توتو الذي تبناه المجلس الدولي لحقوق الإنسان يدفع نحو اللجوء إلى القضاء الجنائي الدولي، والواقع أن هذه المسيرة كان يجب أن تبدأ من أمد ليس بقريب كما حدث بالنسبة إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في يوغسلافيا السابقة وفي رواندا في مطلع التسعينات، والتي حدت بالأمم المتحدة إلى تأسيس محاكم جنائية دولية، لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب، وغني عن البيان أن الجرائم التي تم ارتكابها في الأراضي المحتلة منذ إنشاء دولة «إسرائيل» لا تقل بشاعة وانتهاكا للقانون الدولي الإنساني والمواثيق الدولية، عن نظيراتها التي أدت إلى إنشاء هذه المحاكم الجنائية الدولية، كما تشهد بذلك منظمات حقوق الإنسان الدولية، كمنظمة الصليب الأحمر، ومنظمة العفو الدولي، ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان، والكثير من المؤسسات الدولية الأخرى، بل إن هذه الجرائم كانت من الوحشية بحيث دفعت وزير العدل الإسرائيلي تومي ليبيد إلى أن يعلن عقب المذابح المرتكبة في جنين ورفح في مايو/ أيار 2004 أن هذه المذابح تذكره بالهولوكوست الذي تعرضت له جدته، على يد النازيين بألمانيا.
نعم لقد جاء تقرير المجلس الدَّولي لحقوق الإنسان ليؤكد أن المذابح المرتكبة في بيت حانون ترقى إلى جريمة حرب، وليؤكد مسئولية القادة الإسرائيليين عما يرتكب بالأراضي المحتلة على رغم إنكار «إسرائيل» كل ذلك، وهذا التقرير هو تدعيم للرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية بلاهاي في 9 يوليو/ تموز 2004 بشأن الجدار العازل، والذي حرصت فيه المحكمة على الكشف عن الانتهاكات الكثيرة المرتكبة من جانب «إسرائيل» بالأراضي المحتلة، مطالبة إياها بالالتزام بأحكام القانون الدولي الإنساني والمواثيق الدولية باعتبارها عضوا في الجماعة الدولية.
وفي ضوء هذه المعطيات والأدلة القاطعة لاشك أن الوقت قد حان للتحرك الحاسم واتخاذ الخطوات اللازمة لرفع الأمر إلى القضاء الدولي، بالنسبة إلى مذابح بيت حانون، بل وبالنسبة إلى غيرها من جرائم «إسرائيل» بالأراضي المحتلة، ولا يخلو الأمر في هذا المقام من سبيلين، أولهما الاختصاص القضائي العالمي الذي سبق أن قررته اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب سنة 1949، وأعملته الكثير من الدول مثل: ألمانيا، بلجيكا، إسبانيا، انجلترا وغيرها، وهو المبدأ الذي يعطي الحق لأية دولة محاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية أمام محاكمها الوطنية أيا تكن جنسية مرتكبي الجرائم وأيّا تكن جنسية الضحايا أو محل وقوع الجريمة، وقد أدى ذلك فعلا إلى إقامة دعاوى ضد الكثير من قادة «إسرائيل» أمام محاكم هذه الدول، ويجدر عدم الاستهانة بهذا المبدأ الذي يزداد انتشارا يوما بعد يوم، على رغم ما تتعرض له الدول التي تطبقه من ضغوط سياسية، والبحث عن مدى إمكان اللجوء إلى القضاء الوطني لدى أي من الدول التي أعملت هذا المبدأ فعلا.
أما السبيل الثاني وقد حان وقت سلوكه كذلك فهو اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، وتختص هذه المحكمة بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة الإبادة الجماعية طالما كانت هذه الجرائم قد ارتكبت بعد دخول اتفاقية روما لإنشاء هذه المحكمة حيز التنفيذ العام 2002 ويشترط أن تكون تلك الجرائم قد ارتكبت في إقليم دول منضمة إلى هذه الاتفاقية أو من أحد مواطني دولة عضو في هذه الاتفاقية أو أن تتم إحالة الأمر إلى المدعي العام للمحكمة من جانب مجلس الأمن.
وإذا كانت «إسرائيل» قد امتنعت عن الانضمام إلى الاتفاقية المنشئة لهذه المحكمة، كما امتنعت عن ذلك غالبية الدول العربية، فإن السبيل الوحيد الذي يمكن طرقه هو مطالبة مجلس الأمن بإبلاغ المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بهذه الجرائم على النحو الذي تم بالنسبة إلى رئيس دولة السودان.
ولا يخفى أن هذا السبيل تحيطه بعض المخاطر إذ يخشى لجوء بعض الدول إلى حق الفيتو، إذا رفع الأمر إلى مجلس الأمن للمطالبة بطرح انتهاكات بيت حانون إلى المحكمة الجنائية الدولية، غير أن في وجود الأدلة الدامغة المتمثلة في قرار المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع إلى الأمم المتحدة، باعتبار قصف «إسرائيل» للمدنيين في بيت حانون في قطاع غزة خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 جريمة حرب، فضلا عن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بلاهاي، الذي أدان جرائم دولة «إسرائيل» بالأراضي المحتلة، بالإضافة إلى التقارير الكثيرة للمؤسسات الدولية، فيه كل ما يسوغ اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في حال فشل مجلس الأمن في اتخاذ قرار بسبب الفيتو، وذلك إعمالا للمبدأ المعروف باسم الاتحاد من أجل السلام، وهو المبدأ الذي سبق أعماله بمناسبة النزاع الكوري وكذلك بمناسبة الاعتداء الثلاثي على مصر العام 1956.
ومن ثم يتعين على الدول العربية السعي بشتى الطرق إلى تهيئة المناخ بالجمعية العامة للأمم المتحدة، فضلا عن مجلس الأمن، تمهيدا لإحالة جريمة الحرب في بيت حانون إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بل إحالة جميع الجرائم المرتكبة بالأراضي المحتلة منذ ممارسة المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها في العام 2002، وهي جرائم ثابتة بالكثير من الأدلة.
وللأسف الشديد على رغم عقلانية رأي فؤاد رياض وحجته القانونية، فإن اللعبة السياسية تظل هي الحاكمة، سواء كانت بالحماية الأميركية الأوروبية لـ «إسرائيل»، أو كانت بسبب التواطؤ والتساهل العربي وفقدان الإرادة المستقلة لمواجهة جرائم الحرب الإسرائيلية...
هذه هي مأساتنا... غياب الإرادة وتهاوي القرار السياسي، حتى وان جاءتنا الهدية على طبق من ذهب
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 2224 - الثلثاء 07 أكتوبر 2008م الموافق 06 شوال 1429هـ