قطع رئيس الحكومة المستقيل إيهود أولمرت الشك باليقين حين أوضح خلال زيارته إلى موسكو أن دعوته الأخيرة نحو الانسحاب والتفاوض والتصالح التي هبطت عليه فجأة هي مجرد «آراء شخصية» وأفكاره الخاصة لا تلزم زعيمة حزب «كاديما» تسيبي ليفني المكلفة بتأليف الحكومة الجديدة أن تعتمدها سياسة رسمية خلال فترة حكمها.
توضيح أولمرت جاء ردا على كلام نطقت به ليفني حين ذكرت أن الحديث عن السلام سابق لأوانه، وان المنطقة غير جاهزة نفسيا لتقبل الأفكار المعتدلة. وليفني التي أحرجتها تصريحات أولمرت بشأن تبخر حلم «إسرائيل الكبرى» ودعوته إلى «التكيف» مع المتغيرات التي تتناسب مع حجم دولته وموقعها وإمكاناتها، أرادت من خلال ردها أن تؤكد استقلالها عن رؤية رئيس حكومة سيغيب عن المسرح السياسي في حال نجحت في تشكيل وزارتها. فالتكليف الذي مضى عليه مدة أخذ يواجه اعتراضات وصعوبات بسبب تلك الشروط التي وضعتها مجموعات حزبية تحتاجها ليفني لتغطية النسبة المطلوبة برلمانيا لانتزاع الثقة.
أمام ليفني فرصة تقل عن ثلاثة أسابيع لاستكمال مشاوراتها وإذا فشلت في مهمتها تصبح الدعوة إلى انتخابات مبكرة هي المرشحة... ما يعطي أولمرت فرصة إضافية لتصريف الأعمال في الفترة الضائعة.
الوقت الضائع الذي يطمح إليه أولمرت فائق الأهمية في ظروفه الاستثنائية لأنه يتصادف مع إجراء الانتخابات الأميركية ويكشف للرأي العام الإسرائيلي الأوراق الإقليمية التي ستعتمدها الإدارة الجديدة خلال السنوات الأربع المقبلة. إلا أن تصريف الأعمال في وقت ضائع ومرحلة انتقالية يتطلب من تل أبيب تحديد خطواتها بشأن ما يقال عن تراجع المفاوضات مع الجانب الفلسطيني وتجمدها مؤقتا مع الجانب السوري.
الغموض خطير جدا لكونه يفتح الآفاق السياسية أمام مزايدات حزبية إسرائيلية تميل في معظمها نحو التشنج والتطرف وصولا إلى التهديد بعدوان تدميري شامل على لبنان. والكلام الذي صدر حديثا عن مسئول عسكري كبير في هيئة الأركان ونشرته صحيفة «هآرتيس» تجاوز في تطرفه كل التوقعات إذ هدد بتحطيم الدولة وتقويضها وتجويف العمران كما حصل للضاحية الجنوبية في بيروت إبان عدوان صيف 2006.
كلام المسئول العسكري الإسرائيلي الكبير ضد لبنان (الدولة والمقاومة) جاء في سياق الرد غير المباشر على اعترافات أولمرت بالضعف وعدم قدرة تل أبيب على الاستمرار في مشروع ايديولوجي وهمي (حلم) يفتقد إلى عناصر واقعية لتنفيذه. والرد العسكري على مسئول سياسي يصرف الأعمال في فترة انتقالية يشير إلى أن طبيعة الكيان الإسرائيلي لاتزال تخضع لقانون القوة ولا تقيم ذاك الاعتبار لمنطق الحق والعدالة. وتعليق ليفني شكل إضافة ترجح منطق القوة على قانون العدالة ما يعني انها أعطت إشارة بعيدة تؤكد انحيازها لسياسة هيئة أركان الجيش وتهديداته بذريعة أن المنطقة ليست جاهزة للسلام والأفكار المعتدلة.
آراء أولمرت إذا شخصية وليست ملزمة وهي لا تعكس رأي الدولة ولا سياسة ليفني ورئاسة أركان الجيش. وهذه التوضيحات التي جاءت في سياقات مختلفة ترسم خريطة طريق تدل على أن تل أبيب تخطط لضربة عسكرية انتقامية تساوي عشرة اضعاف تلك التي أنزلتها بهذا البلد الصغير في العام 2006. ولكن الضربة المخطط لها تنتظر ذريعة لتنفيذها وهي أيضا تحتاج إلى مبرر قانوني يعطيها فرصة للهجوم تحت سقف دولي - إقليمي لا يمتلك أدوات الضغط الكافية للتعطيل والمنع.
خطة العدوان موجودة كما صرح بذلك المسئول العسكري الإسرائيلي وهي تنتظر ذاك الخطأ للتنفيذ مضافا إليه تلك الشروط الموضوعية الدولية والإقليمية القادرة على تقبل تداعيات الضربة الانتقامية. وهذا التهديد بالتدمير والتقويض الشامل جاء أيضا ليقطع الشك باليقين وليؤكد مجددا أن «إسرائيل» لم تتغير وهي لا تتقبل مجرد الكلام عن هزيمتها أو خسارتها أو فشلها في أي مجابهة عسكرية... لأن هذا الكلام حتى لو جرى اطلاقه للاستهلاك الإعلامي يؤثر نفسيا في هيبتها ويضعفها أمام جيرانها من دول عربية قريبة أو بعيدة. فالوعيد تعتبره القيادة الإسرائيلية ضرورة عسكرية حتى لا يتوغل الضعف في شرايين الدولة ويصبح من المسلمات كما حاول أولمرت المستقيل أن يذهب في رؤيته عن ضياع «الحلم».
حلم الرد
«إسرائيل» تحلم الآن بالرد والانتقام وهذا ليس سرا عسكريا لكون تصريحات المسئولين أشارت في أكثر من مناسبة إلى أنها أصبحت جاهزة وانها باتت مستعدة للهجوم ونصحت لبنان (دولة ومقاومة) بعدم التورط في التجربة لأنها ستكون قاسية جدا ولن توفر ما هو مطلوب أو موجود في الساحة.
الكلام الإسرائيلي عن «حرب الدمار الشامل» ليس جديدا لكونه يشكل أساس عقيدة الدولة العسكريتارية ونظرية التفوق على المحيط. وتجديد الكلام ضد لبنان جاء بمناسبة وقوع حوادث 7 مايو/ أيار الماضي. فالهجمات المؤسفة التي جرت في بيروت والشمال والجبل والبقاع أعطت ذريعة لتل أبيب وشجعتها على كشف خطتها المقبلة تحت غطاء أن لبنان تحول إلى حكومة يديرها حزب الله في الخفاء، وان إيران أصبحت تسيطر على هذا البلد العربي.
الذريعة الايديولوجية كما يبدو أصبحت جاهزة وهي تتطلب ذاك المبرر السياسي للبدء في خطة التحطيم والتدمير والتقويض تحت ستار أن لبنان «محافظة إيرانية» يخضع لتوجيهات «ولاية الفقيه» في طهران. وهذه المعطيات المفترضة تعتبرها تل أبيب كافية لسحق كل ما هو موجود في هذا البلد بغض النظر عن هويته السياسية والمناطقية والطائفية والمذهبية. إنها حرب تجويف بلاد الأرز من كل مقومات الدولة وستكون، كما تدعي تل أبيب، ضريبتها مضاعفة لتعويض تلك الاستثناءات التي اضطرت إلى استبعادها في عدوان 2006 بسبب الضغوط الدولية عليها. الآن كما ترى تل أبيب سقطت المحرمات والممنوعات والحواجز والعقبات وبات بإمكانها أن تضرب حيث تريد أن تضرب من دون رادع قانوني دولي يحذر من استهداف المدنيين في المدن والأحياء والقرى.
نظريا تبدو تل أبيب أنها اتخذت قرار الحرب على لبنان. ولكنها تنتظر تلك اللحظة التي تعتبرها ضرورية لتنفيذ خطة التقويض (التجويف). وهذا الأمر يحتاج إلى توقيت مناسب للهجوم يتكفل بتغطية «الدمار الشامل» إعلاميا حتى لا يلقى الموضوع تلك الاعتراضات التي قد تصدر عن العواصم العربية والغربية.
الذريعة التي بدأت تل أبيب تروج لها إعلاميا تحتاج إلى قراءة تدقق بصحة معلوماتها. فالكلام عن سيطرة حزب الله على الدولة اللبنانية غير صحيح وهو في مجموعه مختلق لكون الحزب شريكا في الحكومة وبالحدود الطائفية والمذهبية التي تسمح بها صيغة المحاصصة المعتمدة رسميا في الدستور. أما الجانب الآخر المتصل بالمبرر السياسي فإنه يتطلب مراجعة لأهداف ذاك العدوان الذي اقترفته تل أبيب في صيف 2006 على القرى والمدن والأحياء والمؤسسات والشركات والهيئات والمستشفيات والمدارس والجسور والطرقات والمطارات والموانئ والمحطات والمستودعات والمخازن وغيرها من مناطق آهلة بالسكان الآمنين. فهذه الهياكل التي تحطمت وتقوضت لبنانية ومدنية وتابعة للدولة أو للقطاع الخاص وتعود ملكيتها للناس ولا علاقة لإيران أو حزب الله بها من قريب أو بعيد. «إسرائيل» مثلا أحرقت قرى الشريط الحدودي ودمرت 278 مدرسة وقطعت أوصال 76 جسرا وحطمت 350 مؤسسة وقوضت 120 ألف وحدة سكنية وقتلت 1280 لبنانيا... وكل هذا «الدمار الشامل» لا صلة له بالقطاعات العسكرية. فالأهداف التي قوضتها الطائرات (9 آلاف غارة) والصواريخ (مئة ألف صاروخ) والمدفعية (مليون قذيفة) انحصرت في القطاعات المدنية والسكانية ولم تتعرض المواقع العسكرية للضرب إلا في حالات بسيطة وجزئية في الأيام الأولى للعدوان.
تهديد تل أبيب بأن خطة عدوانها الجديد لن توفر الأهداف المدنية يمكن إدراجه ضمن أوراق «البلاغات الكاذبة» التي تزور المعلومات للظهور أمام العالم بأن «إسرائيل» ضحية وهي بريئة من كل ما اقترفته من دمار شامل بحق الدولة والقطاعات المدنية الخاصة وسكان القرى وأحياء المدن. فالكلام إذا يطلق للتهويل والتخويف باعتبار أن «إسرائيل» سبق لها ومارست سياسة «الدمار الشامل» لكون تلك السياسة تعتبر جزءا من عقيدتها العسكرية. وهذا الأمر يمكن إثباته بالوقائع خلال تاريخها منذ تأسيس الكيان الصهيوني حتى العدوان الأخير على لبنان.
إلا أن التهويل الكلامي ليس لفظيا، فالقيادة الإسرائيلية مقتنعة به وهو يشكل أساس خطة العدوان الجديد. ولهذا السبب لابد من التعامل معه بجدية باعتبار أن تل أبيب بدأت تتعاطى مع لبنان بوصفه يشكل عقدة نفسية لابد من التخلص منها للخروج من «غرفة العناية الفائقة» وتلك الأعراض المرضية التي عبر عنها أولمرت المستقيل في تصريحاته ما دفع ليفني إلى نكرانها وهيئة الأركان إلى نفيها من خلال إشهار خطة حرب باتت جاهزة وتنتظر ذريعة للتنفيذ
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2224 - الثلثاء 07 أكتوبر 2008م الموافق 06 شوال 1429هـ