بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي المستقيل إيهود أولمرت زيارة كانت مقررة سلفا إلى موسكو. الزيارة عمليا شكلية فهي تأتي في الوقت الضائع ويقوم بها رئيس «حكومة تصريف أعمال» متهم بالغش والفساد والرشوة والإخفاق. ومع ذلك يمكن قراءة تفصيلاتها من جوانب أخرى تتصل بالمتغيرات الموضعية التي عصفت بمنطقة القوقاز وضلوع المخابرات الإسرائيلية في تأهيل القوات الجورجية وتزويدها بالمعلومات والأسلحة لاستفزاز روسيا وتوريطها في معركة مفتعلة في حديقتها الخلفية ومجالها الحيوي. وأهمية الزيارة تكمن في هذه النقطة لكون الطرف المتهم ينتمي إلى أجهزة رسمية كان يشرف أولمرت رمزيا على إدارتها أو توجيهها خلال فترة توليه الحكم.
النقطة الثانية المهمة في الزيارة أنها جاءت بعد تصريحات أطلقها أولمرت في اللحظات الأخيرة من حياته السياسية أشار فيها إلى فشل حلم «إسرائيل الكبرى» داعيا إلى التسوية العادلة وضرورة الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة وتطبيق القرارت الدولية وتطبيع العلاقات مع دول الجوار.
كلام أولمرت المتأخر عن موعده، أثار الكثير من التكهنات وتلك الدوافع التي أملت عليه الخروج بهذه الرؤية بعد أن عاش حياته السياسية في معسكر «الصقور» وبذل المستحيل لتغيير هوية القدس العربية وطرد سكانها وتوسيع وحداتها السكنية وبناء جدار الفصل العنصري والتهرب من الالتزامات الدولية وخريطة الطريق والمراوغة الأيديولوجية في تعامله مع الفريق الفلسطيني المفاوض.
لا تعرف حتى الآن تلك الأسباب التي حركت مثل تلك المشاعر في الوقت الضائع وخلال فترة «تصريف الأعمال» وهي مدة انتقالية لا قيمة لها في صنع السياسة الإسرائيلية. ولكن أولمرت يمكن أن يستغلها خلال زيارته الوداعية إلى موسكو وربما يوظفها لتحسين تلك العلاقة الثنائية مع روسيا التي شهدت اضطرابات أقلقت تل أبيب وأحرجتها في ظروف يمرّ خلالها حليفها الاستراتيجي في أزمات متتالية. والتصريحات التي تفوّه بها أولمرت قبل أسبوع من زيارته للكرملين يمكن أن تساعده على تغطية بعض تلك الفضائح التي ظهرت ميدانيا في جورجيا وكشفت بالملموس مدى ضعف «إسرائيل» وعدم قدرتها على لعب دور أكبر من حجمها في دائرة ما يسمى «الشرق الأوسط الجديد».
هذه «الدولة» تضخم موقعها في تسعينات القرن الماضي حين بالغت في قوتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي وخروج دول آسيا الوسطى عن دائرة نفوذ الكرملين ونهوض جمهوريات قوقازية على ضفاف البحر الأسود وإسلامية في محيط بحر قزوين. آنذاك ظهرت نظريات كثيرة في الولايات المتحدة تتحدث عن توسع الحجم الجغرافي للشرق الأوسط وامتداده السكاني والاستراتيجي وبدأت تلك النظريات توزع الإرشادات السياسية للإدارة الأميركية تنصحها بالاعتماد على «إسرائيل» لغزو تلك المناطق التي انفكت عن موسكو والتحقت بدائرة «الشرق الأوسط الكبير والجديد». وترافقت تلك الآراء مع نمو مشروعات استراتيجية تطالب بإعادة هيكلة الخرائط معتمدة على تحالفات سياسية تستطيع تشكيل مراكز قوى تفتح المجال الجغرافي للنفوذ الأميركي. وجاءت حرب الخليج الثانية (1991) لتعطي تلك التحليلات الاستشراقية صدقية ميدانية بعد أن انتقلت واشنطن من سياسة الاعتماد على الوكلاء الإقليميين إلى خطة عملية تقودها مباشرة.
تحولات ومتغيرات
حرب الخليج الثانية أعادت ترسيم الاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط الكبير» حين أخذت واشنطن تنتقل مباشرة إلى المنطقة لتبدأ سياسة التموضع العسكري (قواعد ثابتة) والتدخل الميداني من دون اتكال على قوى إقليمية. وبسبب هذه المتغيرات الجيوسياسية تراجع موقع «إسرائيل» الإقليمي في جانبه العسكري وتحسن نشاطها في جانبه السياسي (أنشطة موازية لنمو النفوذ الأميركي).
خلال هذه الفترة التي امتدت من العام 1990 إلى نهاية العدوان على لبنان في صيف 2006 مرّت حكومات تل أبيب في مرحلة ازدهار وارتياح واطمئنان وارتخاء لكون مهمتها التاريخية تراجعت بعد أن سحب «الأصيل» تلك الوكالة الأمنية (العسكرية) منها واستبدلها بمهمات أخرى تتصل بالاستخبار والمعلومات وفتح الأسواق للبضائع الأميركية المصنّعة في «إسرائيل».
الآن دخلت تلك الفترة في حال من «الفوضى البناءة» بعد أن أخذ مشروع «الشرق الأوسط الكبير» يشهد اختلالات أمنية بسبب نمو قوى إقليمية اعتراضية وعودة موسكو إلى مجالها الحيوي لتلعب دور القوة القادرة على كسر التوازن في جغرافيتها السياسية. ومعركة جورجيا التي كشفت الأوراق وساهمت في إنتاج موازين قوى في دائرة القوقاز كانت إشارة واضحة على وجود بدايات تحول في المعادلة لا تستطيع دولة صغيرة أن تقوم بصدها أو منعها من التمدد والتقدم. فالجغرافيا واسعة والتضاريس السكانية متنوعة وهي تتطلب قوى عظمى لإدارتها. و«إسرائيل» في هذا المجال ضعيفة ولا تستطيع أن تبالغ في قوتها وتقوم بمهمات كبيرة تحاكي تلك المواصفات التي تنافست المعاهد الاستراتيجية في الولايات المتحدة في إنتاجها وبيعها وتكليف تل أبيب بترتيبها أو تنفيذها.
«الشرق الأوسط» كبير فعلا وأكبر من إمكانات دولة صغيرة تعتمد على الرعاية الدولية والدعم الأميركي اليومي لتغطية حاجاتها ومتطلباتها المعيشية والنقدية والاقتصادية والعسكرية (التسليح بأحدث الأجهزة المتطورة). دولة من هذا النوع لا تقوى على القيام بمهمات خطيرة تحتاج إلى قوى عظمى لتأمين نفقاتها وحمايتها من المتغيرات السياسية والديموغرافية.
زيارة أولمرت في الوقت الضائع إلى موسكو يمكن وضعها في سياق بدء ظهور مؤشرات عن تحولات استراتيجية أخذت ترتسم معالمها في دائرة «الشرق الأوسط الكبير» ومجال روسيا الحيوي. فهذا الشرق القريب غربا من أوروبا والبحر المتوسط والممتد شمالا إلى القوقاز والمترامي الأطراف باتجاه باكستان وصعودا إلى كازاخستان ونزولا نحو القرن الإفريقي لا يمكن في حال من الأحوال أن تتحكم فيه «دولة» تقوم بمهمات ترويجية لحليف بدأ يدخل بدوره في فترة غيبوبة وعدم توازن.
«إسرائيل» لاشك استفادت كثيرا من تحطم الاتحاد السوفياتي وانهياره، وتقويض العراق، وتكسير سلطة ياسرعرفات وتوزيعها على حكومتين، ونشر القواعد والأساطيل الأميركية برا وبحرا في دائرة «الشرق الأوسط الكبير». إلا أن وظائف تلك التحولات المتسارعة التي ضغطت على المنطقة منذ العام 1990 أخذت تفقد حيويتها وفعاليتها وبدأت تشهد انقلابات مضادة ظهرت معالمها الأولية في المشهد الجورجي وانفضاح دور «إسرائيل» في اللعب بالنار وطموحها إلى القيام بمهمات خطرة لا تقوى على تحمل نتائجها أو دفع كلفة تداعياتها.
اعتراف أولمرت في مرحلة «تصريف الأعمال» بتراجع الأحلام ودعوته إلى الانسحاب والتسوية مع دول الجوار يعكس فعلا ذاك الشعور بنمو قلق يرفع من درجة المخاوف، تدل على إحساس بعدم قدرة «الدولة» على الاستمرار خارج الجغرافيا والزمن والديموغرافيا. ودعوة أولمرت إلى التفاهم مع المحيط قبل أسبوع من ذهابه إلى الكرملين للاعتذار عن خطأ جورجيا، هي بداية تفكير متأخر في ضرورة الحاجة إلى «التكيف» مع المتغيرات وعدم المبالغة في تقدير الحجم والقوة تجنبا لتكرار التورط في مهمات تحتاج إلى دولة مختلفة للقيام بها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2223 - الإثنين 06 أكتوبر 2008م الموافق 05 شوال 1429هـ