العدد 2222 - الأحد 05 أكتوبر 2008م الموافق 04 شوال 1429هـ

الكتابة... الصُدفة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

كل كتابة تتحرّى الحضور، وتصرّ عليه، هي في صميم النبوءة. كل كتابة تتلمّس لفت الانتباه إليها، بعيدا عن قيمتها الحقيقية، هي في الصميم من الغفلة. كل كتابة تصر على أنها المركز من التجربة، هي في الأكيد من الهامش.

بعض من الكتابة صدفة، بدليل أنها تختفي بعد أن تنال نصيبها من صدفة الأضواء، ولكنها في النهاية ستحتل مكانها اللائق بها: العتمة، والأمكنة الرطبة!

ثمة كتَّاب يُفرغون عُقَدهم فيما يكتبون، وأحيانا لا يخفون نيّاتهم في الانتقام من كل ذي حس. نقرأ لهم فلا نقف سوى على نماذج من الموتورين، ونماذج ممن أمعنوا في فشلهم، وبات عليهم أن يهدموا جميع المعابد على رؤوس حتى العابرين في الطريق إليها.

بعض من الكتابة ذهَب. ذهَب يحيل شقاء وحرمان الأمكنة إلى عز يمكن رؤيته من على بعد 1000 عام من المحاولة. بعض الكتابة ذهَبٌ محض، وبروح هي في الذروة من إشعاعها وبريقها. بعض الكتابة كنز يحوي كل نفائس الأرض، وأجمل ما في ذلك الكنز أن الطمع فيه حسنة مأجور صاحبها أضعافا مضاعفة.

بعض من الكتابة مقابر موحشة. مقابر من دون فاتحات، ومن دون باقات ورد، ومن دون زيارات، ومن دون شموع. كتابة تذكِّر بالأجل، وبالنزْع الأخير من الحياة؛ بل ما بعد ذلك النزْع. كتابة دمها محتبس في عروقها، وحسها ما دون حس صخرة أو رصيف. كتابة تقودك قوْدا إلى تمثّل الموت في صورته الحرجة.

بعض من الكتابة يعيدك إلى طفولتك. يعيدك إلى براءة نادرة، في زمن متورط في خلاعته ولؤمه، فيما كتابة أخرى تعيدك إلى النقيض تماما.

كُتُبُ «الفاليوم»

الكتب التي تقرأها في محاولة منك للنوم - وتنجح في ذلك - لا تختلف كثيرا عن أقراص أُعدّتْ لهذا الغرض، تظل كُتُبَ «فاليوم»، فيما الكتب التي تقرأها وأنت تكاد أن تنام، وتدفعك إلى اليقظة والصحو، هي منبّهات نادرةٌ وصحيّة، لا تأثيرات جانبية لها!

الشعوب التي تقرأ لتنام، تنحاز إلى الكتب السخيفة والمملّة والتافهة، بما يتناسب مع واقعها، فيما الشعوب التي تقرأ لتصحو، تحرص على اقتناء وقراءة كتب لها صفة الصحو، لها صفة أول الوقت... بكارته، وعذوبته، تحرص على أن تظل يقظة حتى وهي تدخل في مساحة طبيعتها البشرية: النوم. وهنا يكمن الفارق بين شعوب تقرأ لتنام، وبين أخرى تشعر برغبة في النوم، فتقرأ ما يخرِّب رغبتها تلك... تقرأ ما ينبِّهها ويمنحها يقظة استثنائية.

أمة عربية جلّ إنتاجها من الكتب يكاد يحيل كل صحوة إلى نوم... كل يقظة إلى غيبوبة. أمة عربية تنتج ما يحيلك على الإدمان... إدمان النوم، بدل أن تحيلك على إدمان اليقظة. ولهذا لا يلام كُتّاب حين يتندَّرون على ما أنتجته القراءة العربية طوال أكثر من 4 عقود من حال انهزامية، وتسويف، وانحياز ظاهر إلى الجاهز من المنجز، واستعداد للذهاب إلى الاستهلاك حتى آخر الشوط، فيما يُطنب كتَّاب آخرون في توصيف «فكر الصحوة!» وانبعاث جيل جديد سيأخذ على عاتقه تعميق «فكر النهضة!»، وواقع الأمر يشير الى «نوم بالجملة!» بدءا بالمشروعات والبرامج الثقافية التي تبعث على التثاؤب، مرورا بصيحة «العواصم الثقافية» التي لا تختلف كثيرا عن أي حفل «استقبال»، يكاد يكون الأطول في التاريخ البشري

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 2222 - الأحد 05 أكتوبر 2008م الموافق 04 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً