استهل الرئيس الأميركي باراك أوباما حديثه الموجه، اللقاء الذي تم مؤخرا في واشنطن بين كبار القادة الصينيين والأميركيان بدعوة الصين «إلى إقرار حقوق الأقليات العرقية والدينية». لكن هذه «الدعوة الحضارية» الخاطفة كانت مقدمة ضرورية كي يعود أوباما بعدها ويلتفت إلى ما هو أهم بذلك بكثير، ويعترف بثلاثة حقائق رئيسية، حاول من خلالها رسم معالم العلاقات الأميركية - الصينية في المرحلة المقبلة، وحملت ضمنا اعترافات أميركية مبطنة بالدور المتنامي للصين في الساحة العالمية:
الأولى ذات طابع سياسي من خلال القبول بمبدأ أن العلاقة بين البلدين هي التي «سترسم ملامح تاريخ القرن الواحد والعشرين»، وهذا يعني اعترافا ضمنيا بأن حالة القطب الواحد التي أعقبت انهيار الإمبراطورية السوفياتية قد وصلت إلى نهايتها، وأن واشنطن لم يعد في وسعها، ولم يعد أيضا مسموحا لها أيضا، منفردة أو بتحالفاتها الغربية، بالاستمرار بوضع السياسات العالمية، بما يلبي مصالحها الذاتية، كما رأينا ذلك خلال الحقبة البوشية (نسبة إلى بوش الابن).
أكثر من ذلك أيضا، فقد الغرب بقيادة الولايات المتحدة تلك المكانة السياسية المميزة التي أباحت له تسيير المنظمات الدولية، منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية، وفرض شروطه غير العادلة، عندما يجري الحديث عن مشروعات السلام العالمية، إقليمية كانت أم عالمية.
الثانية، تؤكد أن السياسة هي بنت الاقتصاد، وفيها أيضا اعتراف بالمظاهر الصحية التي بات يتمتع بها الاقتصاد الصيني، بعد أن توصلت واشنطن، في قراره نفسها أنه لم يعد بوسعها منفردة، أو حتى بتحالفاتها الغربية أن تنتشل العالم من أوحال الأزمة الاقتصادية، ولذلك وجدنا أوباما يعلنها صراحة بأن «الأزمة الاقتصادية أظهرت بما لا يدع مجالا للشك أن الخيارات التي نعتمدها داخل بلدنا تنعكس على الاقتصاد العالمي - وهذا واقع ليس فقط لسياتل أو لنيويورك، بل لشانغهاي وشنجن، وان عليهما العمل سويا لمكافحة التغير المناخي والأزمة الاقتصادية». بالقدر ذاته، تكشف هذه الدعوة الخجولة، تيقن أوباما باهتزاز المكانة المتميزة التي لا يزال يحتلها الاقتصاد الأميركي، واستقرائه للمستقبل الأسود الذي ينتظر تلك المكانة، ما لم تكن واشنطن على استعداد لتقديم بعض التنازلات للاحتفاظ بشيء من الهالة المحيطة بها.
الثالثة، ترسخ عمق الانعكاسات العسكرية على النفوذ السياسي، وتعتري اعترافات أوباما مسحة تحذيرية من «احتمال قيام سباق تسلح نووي في شرق آسيا في حال استمرت الاستفزازات الكورية الشمالية، وأن من واجب الولايات المتحدة والصين أن توضحا لكوريا الشمالية أنه يمكن السير على الطريق إلى الأمن والاحترام إذا نفذت التزاماتها، وأن البلدين لن يتحدا لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي».
يودع أوباما، بمثل هذه الدعوات، وعلى نحو صريح، أيام الاحتكار الغربي لأسرار السلاح النووي، ويقر أيضا بحاجته إلى دولة مثل الصين كي تساعد المنظومة العالمية على درء مخاطر امتلاك المزيد من الدول الآسيوية مثل إيران وكوريا الشمالية لأسراره.
هذه الاعترافات الأميركية، بقدر ما تعزز ثقة الصين في نفسها، وتؤكد في آن، سلامة النهج الانفتاحي الذي دشنته الصين، على الصعد كافة منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بقدر ما تضع بكين أمام تحديات مصيرية بحاجة إلى قرارات استراتيجية تقبل من خلالها الصين أن تكون شريكا عالميا، وبمقاييس وقيم مختلفة عن تلك المعمول بها اليوم في المحافل الدولية.
فعلى الصعيد السياسي، تدرك الصين أن واشنطن تسعى إلى جر قدمها إلى بؤر موحلة غاصت فيها الأقدام الأميركية ومن الصعوبة الخروج منها. هذه البؤر تنتشر من أفغانستان والعراق في آسيا، كي تعرج على الصومال في إفريقيا، دون إغفال ما يدور على أراض دول أميركا الجنوبية، مثل فنزويلا والبيرو.
وتزداد الأمور تعقيدا عندما تصل التغييرات إلى المحافل الدولية، وفي مقدمتها الولايات الدولية، التي تقف الصين على قائمة الدول المطالبة بإعادة هيكلتها بشكل جذري كي تعكس، بشكل عادل التطورات التي طرأت على خارطة العلاقات الدولية خلال السنوات العشرين الماضية التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي كدولة عظمى، وبروز المرحلة الأحادية القطب.
أما على الصعيد الاقتصادي، فبقدر ما تحاول بكين أن تخرج العالم من عبودية الدولار ومعه الاقتصاد الأميركي، بقدر ما تنظر إلى أن احتياطياتها بالعملة الصعبة، ومعظمها بالدولار تربو على تريليونين دولار، ومن ثم فإن أي اهتزاز للدولار كعملة عالمية، سيلحق الضرر بهذه السيولة النقدية التي تتميز الصين من جراء امتلاكها عن كثير من الاقتصادات الناهضة، بما فيها روسيا والهند. لذا فمن المتوقع أن تكون خطوات الصين على هذه الطريق حذرة وبطيئة بعض الشيء. ولذا فمن المتوقع أن تسعى بكين إلى إزاحة واشنطن من موقعها المتفرد في صياغة السياسات الاقتصادية العالمية، دون أن يؤدي ذلك إلى أي شكل من أشكال الانهيارات الدراماتيكية في الاقتصاد الأميركي.
وفيا يتعلق بالسلاح النووي، فمن المتوقع أن تنسق بكين خطواتها مع موسكو، التي أعلنت على لسان مصدر مسئول بوزارة الخارجية الروسية رفض الإفصاح عن اسمه، وتناقلته المؤسسات الإعلامية الصينية، بعد أن بثته وكالة أنباء (ايتار- تاس) الروسية الرسمية، قال فيه «إن موسكو تعتبر تصريحات بيونغ يانغ بشأن استعدادها للمشاركة في شكل جديد من الحوار بشأن القضية النووية لشبه الجزيرة الكورية يعد علامة إيجابية».
بمعنى أن الصين لن تتصدر، لكنها قد تنسق مع أو تساعد جهود، أية كتلة عالمية يمكن أن تأخذ على عاتقها مسئولية «تنظيم امتلاك دول آسيوية للسلاح النووي»، لأن ذلك قد يضعها في مواجهة مع دول مجاورة مثل كوريا الشمالية، أو دول حليفة مثل إيران.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2518 - الثلثاء 28 يوليو 2009م الموافق 05 شعبان 1430هـ