بين «الدبلوماسية الذكية» و«القوة الناعمة» هل تتغير قواعد اللعبة في «الشرق الأوسط الكبير» وتبدأ الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما بإعادة احتواء الملفات الساخنة؟
هناك صعوبات كثيرة تواجه واشنطن وهي في مجموعها ناتجة عن قوى محلية ترفض سياسة المرونة والانفتاح وتضغط باتجاه دفع الإدارة إلى الانزلاق في مغامرات عسكرية بذريعة امتناع الدول الإقليمية عن الاستجابة لنداءات «اليد الممدودة» ومفاوضات «وجها لوجه».
بقايا «تيار المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة تلعب الدور الأساس في تعطيل تحركات «الدبلوماسية الذكية» معتمدة على لوبيات قوية تمثل مؤسسات التصنيع الحربي وأسواق المال وشركات الطاقة. فهذه الهيئات تمتلك قدرات خاصة على التكيف ولكنها أيضا تمتاز بالقدرة على الضغط والتعطيل من داخل المؤسسات الثابتة والأجهزة والمجالس التمثيلية (الكونغرس) والمنظمات البحثية والمنابر الإعلامية.
قوة «تيار المحافظين الجدد» تراجعت على مختلف المستويات ولكنها لم تتبخر أو تغادر مواقعها نهائيا في الكثير من مفاصل الدولة. فهذا التيار انكفأ وينتظر اللحظة المناسبة للهجوم المعاكس والانقضاض. واللحظة تعتمد على تلك السياسات التي يرجح أن تتوضح معالمها في الأسابيع والأشهر المقبلة.
«تيار المحافظين الجدد» في واشنطن يراقب نتائج المواجهة الناعمة بين إدارة أوباما وحكومة الثنائي نتنياهو - ليبرمان في تل أبيب. وبناء عليها يؤسس تصوراته في التعامل الداخلي مع البيت الأبيض. كذلك يراقب «التيار» نتائج الإشارات الناعمة التي ترسلها واشنطن للقيادة السياسية في طهران. وبناء على نتائجها يمكن أن يتقدم «التيار» لتأسيس رؤية في إدارة ملف الأزمات في المنطقة.
لا يكتفي «المحافظون الجدد» بمراقبة مسألة المستوطنات (تجميد أو توسيع) في الضفة الغربية أو موضوع مواصفات ووظائف مشروع التخصيب في إيران وإنما ينتظرون أيضا اتجاه الرياح في القوقاز (جورجيا وأوكرانيا) والدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية وتطور العلاقات مع روسيا. كذلك ينتظر «التيار» طبيعية العلاقة المتجددة مع الصين ومدى استعداد بكين لممارسة نفوذها على كوريا الشمالية والتأثير عليها لتجميد مشروعها النووي.
«المحافظون الجدد» يتوقعون انتهاء أنشطة إدارة أوباما إلى الفشل على الجبهتين الروسية والصينية ويراهنون على «ممانعة» الثنائي نتنياهو - ليبرمان، وعناد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في ولايته الثانية. فالتيار الذي انكفأ وتراجع لايزال يتخذ من مراكز القوى واللوبيات قواعد انطلاق للضغط على إدارة أوباما والخروج عليها من الملاجئ حين تأتي اللحظة. واللحظة تعتمد على مقدار الفشل في إدارة ملفات الدرع الصاروخية والقوقاز وكوريا الشمالية وإيران و«إسرائيل». فالفشل في تفكيك هذه الأزمات يعطي إشارة للرد وإعادة التأكيد على أن استراتيجية الرئيس السابق جورج بوش كانت صحيحة وليست مفتعلة في اعتبار الخارج يتحمل المسئولية وهو الطرف الذي يعطل الاستقرار والانفراج الدولي.
احتمال فشل أوباما في إدارة تلك الملفات واحتواء تداعيات الأزمات المتأتية عنها مسألة غير مستبعدة. وفي حال وصلت واشنطن إلى حائط مسدود ولم تنجح في تحريك ملف واحد وإعادة السيطرة عليه من الآن إلى نهاية السنة الميلادية الجارية سيصاب الرئيس أوباما فعلا بنكسة سياسية في برنامج تعامله اليومي مع الداخل الأميركي. والنكسة في حال تضخمت مفاعيلها في الإدارة يصبح أوباما في موقع ضعيف يفرض عليه التراجع أمام خصومه وإعادة النظر في مقولات «الدبلوماسية الذكية» و»القوة الناعمة» و«اليد الممدودة».
خيارات أوباما تبدو صعبة إلا أن وظائف «الدبلوماسية الذكية» و«القوة الناعمة» لم تستنفد حيويتها وطاقاتها. فهناك إلى جوار الملفات المقفلة تظهر تلك الأبواب المفتوحة على اتجاهات مختلفة. في أفغانستان تستمر الاتصالات السياسية مع «طالبان» في بعض المناطق والأقاليم بهدف ترتيب تسوية مقبولة تسمح بتمرير الانتخابات الرئاسية في 20 أغسطس/ آب المقبل. في العراق حصلت لقاءات دبلوماسية بين الطرف الأميركي وفريق أساسي من فصائل المقاومة بقصد التوصل إلى صيغة هدنة تضمن مصالح الولايات المتحدة في مرحلة إعادة الانتشار والتموضع وربما تمهد إلى نوع من التساكن في المراحل اللاحقة. في سورية بدأت القيادة الدمشقية تعاني من الإجهاد من كثرة استقبالها للضيوف والبعثات والوفود الدبلوماسية والعسكرية للاطلاع على خطط تنظم التعاون الثنائي الأميركي - السوري في تدبير شئون الملفات العراقية والفلسطينية واللبنانية من دون إهمال موضوع الانسحاب من الجولان المحتل. في فلسطين تبدو الاتصالات الأميركية - الأوروبية تسير على خطين متوازيين الأول مكشوف ومعلن مع السلطة في رام الله والثاني سري وغير واضح مع سلطة حماس في قطاع غزة (لقاءات حصلت بتاريخ 16 و17 يونيو/ حزيران الماضي في جنيف بتمويل وإشراف سويسريين).
كل هذه الاتصالات «الدبلوماسية الذكية» التي تحصل تحت سقف «القوة الناعمة» يمكن أن تغير قواعد اللعبة في حال توصلت إلى نتائج معقولة في أفغانستان والعراق وسورية وفلسطين. فالنجاح في هذه الملفات يعطي قوة لإدارة أوباما وينقذها من احتمال الرد الذي يترصد توقيته «تيار المحافظين الجدد» في واشنطن.
«المحافظون الجدد» يراهنون على التشدد في المناطق الساخنة في «الشرق الأوسط الكبير». فهذا التيار يعتمد على ممانعة الثنائي نتنياهو - ليبرمان وعناد أحمدي نجاد والتحديات التي تصدر أحيانا من كوريا الشمالية حتى ينعش استراتيجية بوش الابن ويعيد إلى شرايينها الحياة قبل أن تصاب بالجفاف. وبسبب تقاطع المصالح تحت مظلة ايديولوجية متعددة الألوان والجنسية ينشط «المحافظون الجدد» في واشنطن على خط الضغط الإعلامي للتشويش على أوباما سواء من جهة مخالفته في مسائل إغلاق السجون ومنع التعذيب لانتزاع الاعترافات أو من جهة نشر استطلاعات للرأي تؤشر إلى تراجع شعبيته وسمعته في الشارع الأميركي.
المتشددون (المحافظون) على اختلافهم في جبهة واحدة تطمح إلى تعطيل أنشطة «الدبلوماسية الذكية» وذراعها «القوة الناعمة» حتى تستعيد لغتها العنيفة التي أخذت تفقد زخمها وبريقها الإعلامي منذ دخول أوباما البيت الأبيض. ولكن السؤال يبقى هل تنجح الإدارة الأميركية في كسر المقدسات وتجاوز المحرمات وتتوصل إلى نتائج مقبولة للحكم على مدى نجاعة تلك الشعارات والأفكار التي أطلقت خلال الشهور الستة الأخيرة؟
هناك صعوبات وعراقيل وعقبات في مختلف الأمكنة والمنعطفات. فالجانب الفلسطيني محكوم بمدى استعداد الحكومة الإسرائيلية على التجاوب مع الضغوط الناعمة. والجانب العربي ينتظر حتى تكتمل شروط العقد للإعلان عن إحياء العملية السلمية وإعادة تحريك عجلات «مؤتمر مدريد». وسورية أيضا لا تستطيع التقدم خطوات إلى الأمام من دون ضمانات أميركية تؤكد حسن نية تل أبيب واستعداد حكومة الثنائي على الانسحاب والتموضع مقابل التطبيع الهادئ والطويل المدى زمنيا.
مشكلة أوباما ليست في الجانب العربي البرغماتي بما فيه السوري والفلسطيني واللبناني وإنما في الجانب الإسرائيلي الذي يعطل كل المسارات ويضع المبعوث الأميركي جورج ميتشل في موقع الطرف الضعيف في معادلة القوة وصراع الإرادة. الأمر نفسه يمكن سحبه على الملفات الأخرى بما فيها العراقي والأفغاني في اعتبار أن أوراق التفاوض في الساحتين أصبحت متنوعة المصادر وموزعة على أكثر من طرف محلي وفريق إقليمي وبالتالي فإن الحصول على الاستقرار بات يتطلب مراجعة دقيقة لكل الحسابات.
قواعد اللعبة بدأت تتغير منذ دخول أوباما البيت الأبيض إلا أن القوانين الجغرافية لاتزال على حالها تتحرك آليا وفق قنوات تتراوح بين ايديولوجيات متشددة ومحافظة وبين سياسات مرنة وبرغماتية. وبسبب هذا التفاوت بين فشل محدود على خط «تيار المحافظين الجدد» وأنصاره في عواصم «الشرق الأوسط» وبين نجاح محدود على خط البرغماتية السياسية تبدو «الدبلوماسية الذكية» في وضع صعب وتتدحرج نحو الفشل. وفي حال فشلت هذه السياسة أو لم تفرض حضورها أو تتوصل إلى نتائج معقولة قبل نهاية السنة الجارية يصبح منطق «القوة الناعمة» لا معنى له في عالم التشدد. وهذا بالضبط ما يريده ويتمناه «تيار المحافظين الجدد» في واشنطن الذي يراقب ويتربص.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2518 - الثلثاء 28 يوليو 2009م الموافق 05 شعبان 1430هـ