خلال زيارته إلى واشنطن، نقلت وكالات الأنباء العالمية عن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قوله إنه حصل على تأكيدات بأن «الإدارة (الأميركية) لن تتفاوض ولن تعقد اتفاقا مع الذين قتلوا جنودا أميركيين وعراقيين». بالمقابل تعهدت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعها بالمالكي «بإبقاء الحكومة العراقية على اطلاع كامل في المستقبل بأي حوار بين الحكومة الأميركية والجماعات المسلحة في العراق».
يشير ارتياح المالكي من التأكيدات الأميركية، وإقرار واشنطن بالاجتماع مع فصائل مسلحة خارج العملية السياسية أن ما تم تناوله منذ أيام بشأن دخول أميركا على خط المصالحة الوطنية في العراق صحيح. وإن تصريحات المالكي وكلينتون تؤكد أن هذه الاجتماعات ستستمر، أما الحديث عن طلب العراق من واشنطن عدم عقد اتفاقات مع «الذين قتلوا جنودا أميركيين أو عراقيين»، فهي لا تعدو عن كونها تصريحات غير قابلة للتحقق، ولا أعتقد أن بغداد قادرة على فرضها على صناع القرار في أميركا، لأن الحوار مع أي فصيل مسلح (حتى وإن كان مقاومة حقيقية) لأن أدواتها أسلحة وأعتدة وضحاياها أرواح بغض النظر عن كونهم مدنيين أو عسكريين، وإلا فإننا لم نسمع عن مفاوضات مع فصائل مسلحة لقتل الحشرات أو الحيوانات.
حوار واشنطن مع الفصائل المسلحة ليس بجديد، حيث كانت هناك خطوات مماثلة انتهت معظمها دون التوصل إلى حل يرضي الطرفين، والشواهد كثيرة على ذلك. لكن هذه المرة يحمل شكلا علنيا بقدر أكبر من المرات السابقة، خصوصا بعد أن أعلن «المجلس السياسي للمقاومة العراقية»، الذي تأسس (حسب بيانات صادرة عن المجلس) في 10 أكتوبر/ تشرين الأول العام 2007 من ستة فصائل هي «جبهة الإصلاح والجهاد التي تنضوي تحتها أربع فصائل هي الجيش الإسلامي وجيش المجاهدين وجيش الفاتحين والهيئة الشرعية لأنصار السنة، بجانب حركة حماس العراق والجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية (جامع)» عن توقيع بروتوكول للحوار مع مسئولين أميركيين (حسب تصريح الناطق باسم المجلس لقناة الجزيرة في 15 يوليو/ تموز الجاري).
إن الخطوة التي خطتها واشنطن لفتح حوارات مصالحة مع أطراف مسلحة يراها البعض قريبة من حزب البعث المنحل لها أهداف متعددة الوجوه، وكل واحدة من هذه الوجوه تستحق النقاش والبحث.
نعرف أن القوات الأميركية خرجت من المدن والمحافظات منذ نهاية شهر يونيو/ حزيران الماضي تنفيذا لاتفاق مسبق مع الحكومة العراقية، ونعرف أيضا أن هذا الخروج لا يمكن أن يكون نهاية «المهمة» التي تعهد بإنجازها بوش الابن، بل هناك مهمات أكبر وأعظم مازالت أميركا لم تبدأ في تنفيذها ومن بينها الحصول على استثمارات ومصالح اقتصادية واسعة ستجبر الأميركان على العودة إلى المدن لتحقيقها، وإن هذا الدخول سيتطلب أقصى حد من الأمان للعمل في ظروف طبيعية وآمنة نسبيا، وإلا فإن استمرار العمليات المسلحة حتى وإن كانت محدودة سيضر بالمصالح الأميركية في العراق على المديين القريب والبعيد وهو ما ترفضه واشنطن.
كما أن انحسار عمل الفصائل المسلحة وأعمال العنف في المحافظات والمناطق السنية، وعدم قدرة القوات الأميركية والعراقية وقوات الصحوة والعشائر ومجالس الإسناد على الحد من هذا العنف طوال الست سنوات السابقة، واستمرار عمل الفصائل المسلحة في المناطق السنية التي تمثل الطريق القاطع لأي جهد استثماري أو اقتصادي يحاول أن يربط جنوب العراق الغني بالموارد الطبيعية بحوض البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي سيحتم على بغداد وواشنطن الاستمرار في سلوك الطرق التقليدية في تصدير النفط أو الغاز عبر الخليج العربي الذي لم يعد آمنا بوجود «التهديد النووي الإيراني». أضف إلى ذلك إن لمعظم هذه الفصائل المشكلة أصلا من عناصر الجيش السابق وإيران تاريخا طويلا من العداء المستحكم، وإن لها عداوات مماثلة مع تنظيم القاعدة، «تؤهلها» لأن تلعب دورا - في حالة موافقتها على نبذ العنف ودخول الانتخابات - في موازنات السياسة العراقية.
إن حوار واشنطن مع فصيل مقرب من «البعث» يراها بعض المراقبين خطوة لجذب الفصائل الرافضة أصلا للعملية السياسية. وهي بذلك تؤكد مرة أخرى إن أميركا جاءت إلى العراق لتبقى لا لترحل، كما يدعي بعض السياسيين العراقيين.
إقرأ أيضا لـ "علي الشريفي"العدد 2516 - الأحد 26 يوليو 2009م الموافق 03 شعبان 1430هـ