تداعيات أزمة الانتخابات الإيرانية مفتوحة على احتمالات لا يمكن من الآن تحديد نهاياتها. احتمالان أساسيان يمكن توقع حصول أحدهما في الداخل في الأمد المنظور:
الأول عقد تسوية تصالحية (التراضي تحت سقف القانون).
الثاني انقضاض الجيل الثاني على الأول المؤسس وتفريغ الثورة من عصبها وتجويف الدولة من البناة.
حتى الآن تبرز عقبات تعترض الاحتمال الأول. كذلك هناك موانع أخرى تعطل الاحتمال الثاني. والسبب ظهور انكسارات في السلطة السياسية داخل كل فريق. الاصلاحيون غير موحدين أيديولوجيا ولا يوجد ذاك البرنامج المشترك الذي يمنع افتراقهم. المحافظون أيضا غير متفقين مصلحيا ولا يتوافر لديهم ذاك الجامع المشترك.
هناك شرائح اجتماعية جديدة أخذت ترتسم معالمها التنظيمية في الخريطة السياسية للجمهورية الإسلامية، وهي تتمثل في نمو قوة «تيار المحافظين الجدد» الذي يدفع عنوة نحو القطع مع ماضي الثورة وإعادة الهيكلة والتأسيس. وتبدو هذه القوة الصاعدة متعارضة من بعيد مع توجهات مرشد الثورة الذي يصر على تسوية عادلة تحت سقف القانون.
المعادلة الإيرانية لم تستقر حتى الآن. وربما تحتاج إلى فترة زمنية إضافية لتتوضح المسارات الداخلية. وتموضع القوى الجديدة الصاعدة في مراكزها سترتسم صورته بعد بدء الولاية الثانية لرئيس الأمر الواقع محمود أحمدي نجاد.
تمركز مراكز القوى في مواقعها الجديدة يحتاج إلى تبلور توازنات الفترة السابقة. والتوازنات تعتمد على صورة المعارك الجزئية التي يمكن رصدها في المساحات الآتية: هناك مثلا تجاذبات داخل مجلس الشورى بين الكتل الثلاث (الإصلاحيون، المحافظون التقليديون، المحافظون الجدد). هناك أيضا تحركات تتموج في إطارها المراجع التقليدية في مدينة قم (خلافات، تقاطعات، تباينات).
هناك ضغوط متبادلة وتقاسم نفوذ بين تيار المحافظين الجدد وتيار المحافظين التقليديين. هناك نمو نزعة باتجاه العسكرة وتفويض الأجهزة القيام بمهمات سياسية تعوض الفراغات الأمنية التي نجمت عن اهتزازات الشارع ومظاهرات الاحتجاج. وهناك أخيرا ضغوط متعارضة بين مراكز القوى تدفع الدولة باتجاهات متباينة. فريق (مراجع في قم) يدفع لرفع الشرعية عن أحمدي نجاد ويدعو إلى عدم الاعتراف بولايته الثانية، وفريق (مجلس صيانة الدستور) يضغط لنزع رفسنجاني من مسئولياته وتجريده من مواقعه الرسمية.
كل هذا (من هنا وهناك) يؤكد وجود فضاءات ضبابية لا توضح بدقة ألوان الصورة، الأمر الذي يعني أن الأزمة في إيران ليست مفتعلة (مؤامرة) وإنما حقيقية تجد جذورها في الداخل وسيكون لها صداها في الخارج.
مسألة الخارج (المحيط والعلاقات الدولية) مهمة لأنها تعني دول الجوار العربية ولكنها الآن موقوفة بانتظار ما سيسفر عنه المشهد الداخلي. فهل سيكون للحوادث المحلية والطارئة التي ظهرت في تكوينات الشاشة الأهلية الإيرانية تلك التأثيرات البنيوية على الموقع والدور والوظائف الإقليمية؟
الجواب أيضا غير واضح بسبب الإشارات المتضاربة التي تصدر من جانب الولايات المتحدة أو من جانب إيران. إدارة الرئيس باراك أوباما أرسلت أربع إشارات غير متجانسة (الرئيس، نائب الرئيس، وزير الدفاع، الخارجية) لطهران ما أدى إلى ارتباك القيادة السياسية في إيران. أحمدي نجاد أرسل بدوره إشارة خاطئة (تعيين صهره مشائي نائبا له) للولايات المتحدة ولكنه اضطر إلى التخلي عنه بعد ضغوط من معسكر المحافظين التقليديين صعودا إلى تدخل مرشد الثورة وتوجيه أمر مباشر بإقالته.
إلغاء قرار تعيين مشائي (وإعادة تكليفه بإدارة المكتب الرئاسي لأحمدي نجاد) هل يعني أو يعكس تحولات محددة في داخل الخريطة الإيرانية أم لا يشكل أي قيمة مضافة في معادلة القوة أو التوازن بين مراكز الدولة وأجنحة النظام؟ لا جواب قاطعا في هذا الصدد.
التعيين بحد ذاته ثم التراجع عنه بعد أوامر مباشرة من المرشد أعطى إشارات على حركة دبلوماسية لاتزال غامضة أو ضائعة بين الانفتاح على الخارج وتصحيح العلاقة مع الداخل ودول الجوار وبين الانغلاق على الخارج والاستمرار في سياسة القبضة الحديد في ظل صعود قوة «تيار المحافظين الجدد» وتموضعها في مفاصل الدولة.
هل تعمد أحمدي نجاد ارتكاب خطأ تعيين صهره مشائي وأراد منه أن يرسل إشارة إلى الخارج توضح ملابسات ما يحصل في الداخل الإيراني أم أنه انزلق بهذا الاتجاه في لحظة حماس افتقد خلالها ميزان الحسابات الدقيق لموازين القوى في السلطة؟ الجواب أيضا يحتمل التباسات وقراءات واحتمالات.
إعادة تعيين مشائي في مكتب الرئيس بعد إقالته من موقع النائب بتدخل مباشر من المرشد يطرح علامة استفهام عن مراكز القوى وربما يؤشر إلى نمو قوة «تيار المحافظين الجدد» وعدم خوفه من القيادة العليا ومعسكر المحافظين التقليديين. هذا احتمال مفتوح على سياسة عناد يصر أحمدي نجاد على ممارستها أمام الجمهور والعالم. وبغض النظر عن القراءة فإن تصرفات أحمدي نجاد الخاصة أو المستقلة تظهر وجود حماية في الظل تشجع رئيس الأمر الواقع على التحدي والاستفزاز وعدم الاكتراث لردود فعل المرجعيات وعدم إعطاء انتباه لتلك الحساسيات التي قد تنشأ في أعلى مراكز السلطة.
الصورة النهائية في إيران غير واضحة وهي مرشحة للتبدلات والتحولات والانقلابات لذلك يفضل الانتظار حتى تكتمل عناصر المشهد حين تتموضع القوى في مواقعها الجديدة. ومهما كانت عناصر المشهد في المسرح الإيراني فإنها في كل الحالات سيكون لها تأثيراتها في المحيط الإقليمي أيضا. فالصورة الإيرانية في النهاية إقليمية.
@ المقال كلمة ألقيت في «مجلس الدوي» في المحرق السبت الماضي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2516 - الأحد 26 يوليو 2009م الموافق 03 شعبان 1430هـ