عملية التشريع في البحرين، مرت بخمس مراحل زمنية، لكل مرحلة طابعها السياسي الخاص، فقد مرت بمرحلة ما قبل المجلس التأسيسي والمجلس الوطني السبعيني (الأول) وهي المرحلة الأولى، مرحلة ما قبل الاستقلال، وكانت العملية التشريعية لا تتعدى إرادة الحاكم ومن حيث تواجده في قصره، تصدر التشريعات على هيئة قرارات أو إعلانات يمضيها مستشاره آنذاك تشارلز بلغريف فتصبح قانونا يعاقب أو يحاسب عليه أبناء الشعب.
وكانت المرحلة الثانية بعدها، والتي لم تلبث إلا قليلا، وهي مرحلة عمل المجلس الوطني لمدة عامين تقريبا، وفي ضوء دستور 1973م، والتي اتسمت بصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وتجلى الصراع في أوضح صوره بين الحكومة وممثلي الشعب، بما انتهت إليه التجربة إلى حل المجلس المنتخب وتعطيل العمل ببضع مواده.
والمرحلة الثالثة هي المرحلة الأطول على الإطلاق، وهي المرحلة التي تلت حل المجلس الوطني المنتخب وتعطيل العمل ببعض مواد دستور 1973م والتي استأثرت فيها السلطة التنفيذية بمهام السلطة التشريعية بعد حل البرلمان السبعيني في أغسطس/ آب 1975م، واستمرت المرحلة لما يقارب الثلاثة عقود من الزمان، تصدر فيها السلطة التنفيذية التشريعات والقوانين.
أما المرحلة الرابعة فهي المرحلة التي سبقت العمل بالدستور الجديد، دستور 2002م وهي الفترة التي سبقت انتخاب المجلس النيابي الثاني (المجلس الحالي)، والتي صدرت فيها حزمة من المراسيم بقوانين في فترة وجيزة فيما قبل الانتخابات التي أعقبت تدشين الدستور المعدل في فبراير/ شباط 2002م، والذي أثار حفيظة المعارضة وقوى الشعب وخلق أزمة دستورية مازالت آثارها تلوح في الأفق إلى اليوم.
أما المرحلة الأخيرة، فهي المرحلة الجارية منذ انتخاب المجلس النيابي في الفصل التشريعي الأول 2002 - 2006 م والفصل التشريعي الثاني 2006 - 2009م، والتي استمرت ما يقارب السبع سنوات.
إذن في كل هذه المراحل لم تتوقف عملية التشريع عن إضافة تشريعات تتطلبها الحياة اليومية على الصعيد التنظيمي الحياتي، أو التشريعات الاقتصادية أو الاجتماعية أو المالية أو المهنية أو التجارية أو الجزائية أو السياسية أو البيئية أو غيرها، ولكن لكل مرحلة منهجية تشريعية مختلفة عن سابقتها، باعتبار اختلاف المرجعيات عرفية، دينية، دستورية أو قانونية، واختلاف الفاعلين المشرعين والنظام القانوني القاعدي الذين ينطلقون منه.
ولكن السؤال لا يبحث عن الإجابة عليه إلا القلة، بينما لا يعيره الكثيرون أي اهتمام، بل لا يتعاطوا معه على أساس ارتباطه الجوهري بالعملية السياسية برمتها والتي تحدد جزءا غير يسير من مصائرهم. وإنما يهربون إلى الأمام بالقول: هذا ليس من شأننا لأننا مواطنون عاديون ولا علاقة لنا بمقتضيات وملابسات ومتطلبات العملية التشريعية.
السؤال هو: ما هي درجة التعقيد في العملية التشريعية؟ وهل هي بالفعل معقدة (صعبة، مطولة) في طبيعتها وفي أي مكان في العالم؟ أم أن هذه الصفة هي من خصوصيات العملية التشريعية في البحرين؟
وسؤال آخر، لما يراد للمواطن العادي التعرف عليه - ولو إجمالا - وهو أن العملية التشريعية في غاية التعقيد أو على الأقل معقدة، وأن هناك تضاريس وتعرجات أمام سير العملية التشريعية؟
تصور تبسيطي لطبيعة التضاريس المعوقة لسير العملية التشريعية يمكن عرضها على سبيل المثال - لا الحصر - باستحضار العناصر التالية: الإرادة الرسمية، والإرادة الشعبية - بكل شرائحها وألوانها وانتماءاتها الأيديولوجية وطبقاتها وطوائفها وتياراتها - التي يقع الاختلاف بينها بما لا يختلف عن الاختلاف بين الرسمي والشعبي في الجملة، ومرجعية الدستور، والقوانين ذات العلاقة - ابتداء من القوانين التي صدرت في المرحلة الأولى وحتى آخر قانون أقره المشرع اليوم - والتطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل مطرد، والالتزامات الدولية والمعاهدات التي أنظمت إليها الدولة وصادقت عليها، والقانون الدولي، والاتفاقيات الثنائية، والإقليمية والدولية والعربية وغيرها، وشح الموارد، وتعقيد الوضع الإقليمي الضاغط، والتركيبة المعقدة لكل من السلطة التشريعية من جهة، وما أصبحت عليه السلطة التنفيذية من تعقيد لا يخفى على مراقب من جهة أخرى، كما أن حداثة التجربة لا تقل أهمية عن كل ما ذكر آنفا.
مع كل ذلك، يتحرك المشرع في بحر لجي ووضع يموج بصراع ديناميكي متجدد في حركة الأيام، يتحرك المشرع ليشرع ويراقب ويناضل من أجل تحقيق مكتسبات معيشية وحقوقية يضغط باتجاه تحقيقها الشارع والمواطن العادي، فماذا بقي إذن للمشرع من مساحة يتحرك فيها للسباق في مضمار التشريع؟! التشريع من جهة، والمراقبة من جهة، والتسريع في التشريع يعد حلم المشرع، فكلما فشل النواب في تحقيق الحلم كلما فقدوا القيمة التي تقربهم من ناخبيهم.
ليس من تشريع قانوني مانح أو مانع يحوز على رضا الجميع، وليس من تشريع تنظيمي واضع أو رافع يحوز بالضرورة على قبول وارتياح الكل وقبوله. لأن تضارب المصالح في الأصل يستدعي وقوع الضرر على البعض، إذ إن التشريعات في جوهرها لا تتمتع بالقدرة المطلقة على إحراز القبول المطلق من المواطنين.
ولكن التحدي الحقيقي هو ليس في توصيف حال المجلس التشريعي والرقابي وكونه عاجزا عن أداء دورة ومهماته، وإنما يكمن التحدي في العمل على دخول المعترك وتلمس الثغرات، والاستمرار في عمليه البناء، وترك الآثار والبصمات التي تساهم في تعديل الاعوجاج القائم، وذلك للخروج من العملية السياسية بفعل يعود بنتائجه على العملية السياسية برمتها في جوانبها التنموية والإدارية والاجتماعية والمعيشية والاقتصادية والحقوقية بشكل يؤدي على اعتزاز بالخروج من المعترك أو الاستمرار فيه بهدف الإصلاح الفعلي العملي وليس نقد العملية السياسية من بعيد ورصد إخفاقاتها
إقرأ أيضا لـ "هادي حسن الموسوي"العدد 2515 - السبت 25 يوليو 2009م الموافق 02 شعبان 1430هـ