لا يبدو المشهد في فلسطين المحتلة مختلفا عن السنوات الأولى لنشأة الكيان الصهيوني، حينما كانت آلة العدوان تنهش الأرض الفلسطينية وتحرق البلدات الفلسطينية لتقيم على أنقاضها مئات المستوطنات الإسرائيلية، حيث يواصل العدوّ في هذه الأيام نشاطه الاستيطاني بوحشية عنصرية، وفي جعبته فتوى جديدة من الحاخام الأكبر مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية تخالف تعاليم التوراة عندما تطالب كيانه بتجميد الاستيطاني في الضفة الغربية.
وفي موازاة ذلك انكشفت الإدارة الأميركية أكثر أمام العالم، وبدأت تطلق الإشارات التي توحي بانهزامها أمام العدو، وعجزها عن إحداث تغيير شكلي في النقطة التي ارتكز عليها الرئيس الأميركي، لدفع العرب إلى التطبيع الشامل مع العدوّ، والمتمثلة في تجميد الاستيطان لا تفكيكه، حيث أكدت الحكومة الصهيونية أنها غير جاهزة للتنازل ـ حتى في الشكل ـ في مسألة الاستيطان لكي تفتح الباب للعرب للإقبال عليها، ربما لأنها تنتظر هذه النتيجة من دون مقدّمات إسرائيلية.
وحتى القدس الشرقية التي أوحت بعض العواصم الغربية للسلطة الفلسطينية ولعرب الاعتدال، بأنها ستشكّل عاصمة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، زحف الاستيطان الصهيوني إليها، وأعلن رئيس حكومة العدوّ أنه لا يسع الصهاينة المحتلّين «قبول فكرة أنه ليس لليهود الحق في العيش والبناء في كل مكان في القدس»..
وفي هذه الأجواء، يأخذ العدوّ حريته في اعتقال المزيد من الفلسطينيين، والاعتداء الوحشي على آخرين، وقتل بعضهم، والإغارة على أطراف قطاع غزة بين وقت وآخر، مطمئنا إلى أن هذه الممارسات لن تكون عائقا أمام قطار التطبيع الذي سيقطع المراحل المرسومة بعناية ودقة، وإن تظاهرت الإدارة الأميركية بأنها منـزعجة، أو استدعت الخارجية الأميركية سفير العدوّ لديها لإشعار العرب أن بإمكان المهزوم أن يحصل على شيء من الزهو، ليقدّم نفسه للناس بثوب المنتصر.
إننا أمام هذا الواقع الخطير نسأل السلطة الفلسطينية: ماذا فعلت لحماية الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، ليس أمام الزحف الاستيطاني الذي لا يتوقف، بل أمام هذا الهجوم الوحشي المتواصل من المستوطنين على أرزاق الفلسطينيين ومزارعهم، وأمام حرق بساتينهم وأشجارهم المثمرة، والاعتداء المتواصل على حياتهم وممتلكاتهم؟!
إننا نستغرب أن يكون سلاح هذه السلطة هو اللا سلاح، وخيارها هو المفاوضات المفتوحة، واستجداء الحوار مع العدوّ، واستعطافه لتجميد الاستيطان بما يحفظ ماء وجهها، وإن تم الأمر على حساب شعبها وقضيته ومصيره.
إننا نقول للشعب الفلسطيني الذي أرهقته سياسة التواطؤ العربي، وأتعبته سياسة الخذلان على المستوى الإسلامي العام: لا سبيل أمامكم إلا بالعودة إلى سياسة استنـزاف العدوّ وإتعابه ومجاهدته على جميع المستويات، فهذا عدوّ لا يفهم إلا لغة القوة، وهذا عالمٌ لا يستمع لأنّات المتعَبين والمقهورين إلا عندما تتحوّل صرخاتهم إلى خطط تدمي العدو وتصيب نظامه الأمني والسياسي في الصميم.
وعندما نرصد الواقع العراقي الذي عاين تجربة الانسحاب الأميركي من المدن، نلمح مخططا خبيثا يقوم على تفجير العراق من الداخل، واستهداف المدنيين في المواقع التي انسحب الاحتلال منها، بما قد يقدّم ذريعة جديدة للأميركيين لكي يعيدوا احتلالهم للمدن العراقية، وقد تحدث قائد قوات الاحتلال في بغداد عن أن الجيش الأميركي ينوي الدخول في عمليات قتالية في المدن، موحيا بإمكانية العودة إلى الخيار السابق..
إننا ندعو العراقيين بكل مكوّناتهم السياسية والدينية والعرقية إلى الوحدة والتماسك، وفضح وتفكيك هذه العلاقة الملتبسة بين الاحتلال والجهات التكفيرية التي تحظى بدعم من بعض الجهات الإقليمية، لأن عليهم العمل على خطين: إنهاء الاحتلال وإسقاط لعبة التمزيق الداخلي المدعومة من جهات خارجية، والساعية لركوب الموجة المذهبية التي لم تجلب للعراقيين والمنطقة إلا الخراب والدمار.
أما في لبنان الذي تسير فيه عملية تشكيل الحكومة سيرا سلحفاتيا، بفعل تدخلات خارجية، وإيحاءات تأتي من هنا وهناك، فإننا نلمح مخططا خبيثا تحاول من خلاله الجهات أو الأدوات التي استخدمتها محاور دولية وغير دولية خلق مناخات لفتنة داخلية لا تبقي ولا تذر، من خلال توجيهها المرسوم والمدفوع من جهات معادية تسعى لاختلاق ملف جديد يعيد تحريك خيوط الفتنة المذهبية، تارة باستخدام عنوان المحكمة الدولية، وطورا باستخدام عناوين أخرى، ربما للمساومة في بعض الأمور السياسية التي تريح الآخرين وتجعلهم يستفيدون من ذلك في لعبة فرض الشروط على هذه الجهة الداخلية أو هذه الدولة أو تلك، في لعبة الأمم التي يراد للبلد الصغير أن يدفع ثمنها لاحقا كما دفعه سابقا.
إننا نحذّر كل من تسوّل له نفسه أن يعبث بالساحة الداخلية، وخصوصا الساحة الإسلامية، وتحديدا من يسعى لإحداث فتنة بين السنّة والشيعة، أننا لن نسمح له بذلك حتى ولو اختفى وراء عناوين دولية، أو حاول التسلل إلى المواقع القضائية الدولية أو غيرها، وندعو العقلاء في الداخل لكشف هؤلاء وفضحهم، والاقتصاص منهم قبل أن يحقّقوا أغراضهم ويترجموا أهداف العدوّ بحرق البلد من الداخل بعدما عجز عن إخضاعه بالحرب الوحشية المباشرة... ونتلو قوله تعالى: «واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة».
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2514 - الجمعة 24 يوليو 2009م الموافق 01 شعبان 1430هـ