ما يُرِيحُ المُحلّلين للشأن الإيراني هو أن كلّ شيء في إيران يُقال ويُسمع. بعض الذي يُقال حمّال أوجه. وهو مادّة جيدة لمن يُشايع أو يُخالف الحكم في طهران. الأكثر أن الذي يُقال لا تُرَى ذَيْله فقط، وإنما هامته وقوامه الأوسط أيضا.
السجالات، المُماحكات، الخصومات، الخلافات، الانشطارات والعداوات كلّها واضحة ومحسوسة وأصحابها حاضرون. من يحلم أن نظام الملالي (كما يُسمّيه البعض) سينهار يقول إلى ذلك ذهاب لريح السلطة أو ترهلها. ومن يُؤمن بأن ذلك هو قيمة لمشهد مفتوح وحُرّ سيقول إنه فرز وتموضع داخل السلطة.
حين ثار الفرنسيون قبل مئتين وعشرين عاما حصل ما يجري عادة في الثورات. فقد أسّست الثورة ملكية دستورية، وأُسّست جمعية وطنية ووُضِع الدستور، ودُمّرت اللاباستية. ثم تطوّر الأمر إلى سيطرة الراديكاليين على الثورة فأعدموا الملك. ثم تطّور الأمر أن انحسر هؤلاء لصالح إطار برجوازي عسكري كولونيالي.
وهو ذات المصير جرى (في تطوراته) عند بسمارك ألمانيا وعند البوليفيين في أميركا اللاتينية والروس في ثورتهم البلشفية. بل وحتى في الحركات التصحيحية التي اجتاحت بعض أصقاع العالم.
في إيران جرت وتجري متطلبات الثورة والتحوّل بهذا الشكل أو أقرب. ما جرى في السابق (من دون تفصيل الأحداث على الأرض) هو أن الثورة واجهت واقعا تمثّل في الهويّة المُفترضة للدولة. فهي بالتأكيد اجترار (أو استمرار) لمنتظم تاريخي. فالإيراني منذ القرن الخامس عشر باتت جيرته للدين أكثر قُربا وديناميكية من أيّ وقت مضى.
فقد مارس الشاه قطعا لأوْرِدَة ثقافية سوسيولوجية ترتبط بمفاصل الحياة الإيرانية اليومية للناس ومُحاكاتها المُفترضة مع قيم كلاسيكية لكنها صلبة. وبالتالي فجزءٌ مهم من مُسببات الثورة هو الخلل الذي حدث في تلك العلاقة، وهو ما عضّدت عكسه الثورة.
هذا ما خصّ الماضي. ما يجري اليوم هو صورة أخرى من الهوية السياسية لشكل السلطة في إيران. بطبيعة الحال فإن إرهاصات الشكل الجديد هو من التعقيد والاشتباك إلى الحدّ الذي تُنسي أوّليّاته ما يليه من ظروف.
فما يجري هو خلاف بين أفكار وسياسات. ومحاكمة لحقب. وتقويم لمواقف. وانكفاء برامج. وضمور شخصيات. ومغالبة أحزاب. وتبدّل في الولاءات. واستمزاج شعبي جديد. وهي جميعها مفاعيل لإنتاج هوية مُحسّنة لمشوار ثلاثيني حافل.
هذه المنحنيات داخل النخب كانت موجودة في السابق لكنها مكتومة أو يُصاحبها تعليق هنا وتأجيل هناك. لكن مجيء طبقة سياسية تُسمّى بالتعميريين يتقدمهم أحمدي نجاد عجّلت بالرغبة في الحسم.
مَنْ لديه إحاطة بمصائر البُلدَان يُدرك بأن مدماك الدولة هو في مدى حضور مؤسساتها وثباتها. وأيضا قناعة الناس بهذه المؤسسات ومساندتها وكأنها رقيب وسُلطة معنوية ناجزة. بل وتُعطي النشاط الديمقراطي صفة الديمومة.
أما بقيّة الأنشطة الرافدة للدولة من أحزاب وبرامج وشخصيات فإن تأثيرها بقدر حضورها داخل المؤسسات. وحين تتخندق داخل المجاميع الشعبية فإن نفوذها لا يكون قادرا على التغيير. فالسياسات ليست سلع تتحدّد بواسطة رغبات المستهلكين حسب تعبير جورج قالوب.
هنا تبرز التحليلات المتعثّرة للشأن الإيراني. فكلّ ما هو نافرٌ من التجربة الدينية لإيران يستهويه حجم الحِراك خارج المؤسسات، فيستقوي به لتفسير مستقبل التجربة ويصل إلى نهايات تنسجم مع مأمولاته.
لقد قِيلت مثل تلك الأمور في أشدّ أزمات إيران صعوبة. قِيلت حين عُزِلَ بني صدر، وفي أثناء حرب الشوارع بين السلطة الثورية ومجاهدي خلق في بداية الثورة، وقيلت في الحرب وفي عزل منتظري، وبعد وفاة الإمام الخميني، وعند مجيء خاتمي. لكن شيئا لم يحدث أكثر مما هو جاري؛ لأن الدولة كانت مقتدرة على ابتلاع الأزمات، وهو حالها اليوم كذلك.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2512 - الأربعاء 22 يوليو 2009م الموافق 29 رجب 1430هـ
إنحياز
خلف هذه البلاغة تختفي حقيقة لا تستطيع أن تخفيها: تكميم الأفواه الفج الجاري في إيران هذه الأيا، و الذي تبرره من طرف خفي ربما بالحاجة لحضور مؤسسات الدولة و ثباتها. لماذا؟
/ محمد المبارك