العدد 2512 - الأربعاء 22 يوليو 2009م الموافق 29 رجب 1430هـ

زكريا رضي يقرأ الثيمة «الحوارية» في «حياة مؤجَّلة»

في أمسية نقدية بأسرة الأدباء والكتاب

قدم الناقد زكريا رضي ورقة نقدية في رواية «حياة مؤجلة» وذلك خلال أمسية عقدتها أسرة الأدباء والكتاب لقراءة الرواية حضرها مؤلف الرواية السعودي بدر الإبراهيم، ومجموعة من الأدباء والمثقفين والأصدقاء.


باختين والحوار

وخصص رضي مقدمة ورقته لمسألة الحوار في الرواية مستشهدا برؤية ميخائيل باختين الذي يؤكد أن الحوار ظاهرة عامة لا تنفصل عن النطق البشري وشتى تجارب الاتصال بين الناس وأشكاله، ففي كتابه (الكلمة في الرواية) اعتبر باختين الرواية «هي ذلك الخلق الذي يتحقق فيه الحوار بأكمل أشكاله». لأجل ذلك يقول باختين ما نصه: «التوجه الحواري للكلمة ظاهرة تتصف بها أي كلمة بطبيعة الحال، إنه الوضع الطبيعي لأي كلمة حية، ذلك أن الكلمة في كل طرقها إلى الموضوع، وفي كل توجهاتها إليه، تلتقي بكلمة الآخر، ولا يمكنها إلا أن تدخل في تفاعل حيّ متوتر معه» ويعرف باختين الحوار بأن «يدخل فعلان لفظيان، وتعبيران اثنان، في نوع خاص من العلاقة الدلالية ندعوها نحن علاقة حوارية، والعلاقة الحوارية هي مجموع علاقات دلالية بين جميع التعبيرات التي تقع ضمن دائرة التواصل اللفظي»هذه العلاقات الحوارية بحسب باختين « نمط استثنائي وخاصة من العلاقات الدلالية التي ينبغي أن تتشكل أجزاؤها من تعبيرات برمته، يقف خلفها فاعلون متكلمون حقيقيون، يعبرون عن أنفسهم، أو فاعلون متكلمون محتملون مؤلفو التعبيرات، موضوع الكلام»

وتساءل رضي لماذا نفترض الحوارية كمدخل لقراءة رواية (حياة مؤجلة) لبدر الإبراهيم؟ مجيبا بأن العمل الماثل أمامنا يفترض بذاته طريقة دخوله وقراءته، إذ هو قائم بشكل أساسي على بنية حوارية تجمع بين خمس شخصيات، واستخدم الكاتب الحوار كتقنية أساسية ووحيدة أيضا لبناء عمله السرديّ.


من 11 سبتمر إلى سقوط بغداد

ويعرف رضي شخوص الرواية بأنهم الذين بقوا على تواصلٍ وتلاقٍ منذ أول حدث في الرواية وحتى اختتام فصولها وأوراقها. وقد تحرك الكاتب عبر شخوصه الخمسة، وهم من شباب المرحلة الثانوية، في فترة زمنية واقعية تمتد من سقوط البرجين الأميركيين في نيويورك، كحدث أوجد تحولا عالميا ورسم مسارا جديدا في الشرق الأوسط، منتهيا بسقوط بغداد والإطاحة بصدام حسين على يد القوات الأميركية.


«قومجيون» ولبرالييون

ويضيف رضي بأن الشخوص الخمسة، هي أصواتٌ خمسة يعلوها صوت الراوي، الذي يقوم بفعل الحكي ورواية الأحداث بأكملها فيصل الساري شابٌ يفكر بصوت عال، يؤمن بالمبادئ الليبرالية ويعتقد بأن الليبرالية هي خلاص المجتمع، يصفه صديقه حسام بأنه ليبرالي متأمرك. يؤمن فيصل بنسبية الحقيقة، يسعى لأن يكون مختلفا وغير تقليدي. وضمن هذه الجوقة (الشّلة) كما يعبر عنها الراوي تتوزع الأصوات والشخصيات الموازية. (سعود مطر): حذرٌ تجاه مجتمعه الذي يضطهده وينظر إليه بدونية بسبب لون بشرته السوداء، (حسام الشامي): ينحدر من أسرة شامية، يحتفظ بميول قومية جارفة، ويلتزم بثقافة المقاطعة للمنتجات والمطاعم الأميركية. أما (ماجد الشريعي) : الذي ينحدر من أسرة محدودة الدخل، الولد الوحيد بين ثلاث بنات، يشعر بحرج شديد فيما يتعلق بالمسائل المالية، أبوه موظفٌ متقاعد من وزارة الزراعة منذ 3 سنين. بالكاد يستطيع أبوه توفير مصروف شهري لابنه ماجد. فيستعين بأخيه أحيانا. ليس متدينا لكنه محافظٌ يكثر من عبارة (الله لا يغيّر علينا)، يريد بقاء المجتمع على ما هو عليه ويعتبر أن أي تجديد يمسّ بالخليط المقدس خطر يجب محاربته. أما (صالح العمر): شاب مؤمن بالأفكار السلفية والذي بحسب ما يصفه الراوي (لا يطبق ما يؤمن به) ينتمي لأسرة متدينة. أبوه مدرس لغة عربية. سلوكه يناقض أفكاره. يحلق لحيته ويؤمن بوجوب إعفائها، ويمارس ما يعتقده منكراتٍ. شخصيته تعبيرٌ دقيق عن نمطية نراها في مجتمعنا، كما يقول عنه الراوي نفسه فيصل الساري، فهو صايع لكنه يؤمن بالأفكار المتطرفة .


وحدة أم تعدد أصوات

ويعنون رضي رؤيته للرواية بتساؤل أثمة أصواتٌ متعددة لمجتمع واحد أم صوتٌ واحد لمجتمعٍ متعدد؟ فالرواية كما يراها ميخائيل باختين: «لا تُظهر فقط (وعي) المؤلف في عالم وحيد؛ وإنما تظهر أيضا أنواع الوعي الأخرى التي للأبطال، واحدا، واحدا، بشتى عوالمهم، وهم يندمجون في وحدة حدث معين»، فإلى أي مدى استطاع الكاتب بدر الإبراهيم، أن يعكس هذا التنوع وهذا الاختلاف، وبأية آلية أدار ذلك الاختلاف روائيا؟ إن نقطة المفارقة والتجاوز هو أن الكاتب أعلى من صوت الحوار على حساب السرد، وبدا جليا أن الأصوات المتعددة لم تفارق دائرتها المغلقة، وبقي صوت الراوي مهيمنا على المشهد كله، ما مكّن للشخصية الرئيسة (فيصل الساري) أن تحلل، وتفسّر، وتبرر أحيانا لأصوات الآخرين، بل وتحلل طريقة تفكيرهم ونفسياتهم وتنتقدهم، فيما تتوارى الأصوات الأخرى، خلف جدران قناعاتها ومسلماتها.

ويعود رضي إلى المفهوم الوظائفي للشخصية كما هي عند (فلاديمير بروب) من أن التكوين الفني للشخصية الحكائية، ينبع من وظيفتها في السياق النصّي الحكائي، فإن الكاتب رمى بشخوصه على طاولة النرد، وتورط في كونه واحدا من أحجار النرد تلك، بل هو الحجر الرابح دوما، وما عاد من الصعوبة أن تفصل بين شخصية (فيصل الساري) طالب الثانوية والمؤلف نفسه.


خطابية عالية

ويؤكد رضي على أن تنميط الشخصية وجعلها تتحاور بلغة خطابية عالية، غدت تقريرية في كثير من مفاصل الرواية، مما عطل وظائفها، فالكاتبُ أعطى أبعاد شخوصه، وأطّرها بترسيمة اختارها لا لتعكس تنوعا وتعددية في الفعل، بقدر ما كانت تعكس صوتا واحدا هو صوت فيصل الساري الليبرالي نفسه، في حين غاب الفعل لتلك الشخوص في مجمل العمل السردي، فبقيت على حالها لم تراوح مكانها، ولم تنمُ، ولم تتحول، ولم تتبدل، ولم تدخل هي ذاتها كأصوات مختلفة ضمن صراع أدوار اجتماعية، أو ما بينها وبين بعضها البعض.


محاججة حراس النسق

ويرى رضي أن ثمة مشكلة كبرى دفعت بالكاتب في كمين لم يحسن التخلص منه، بمعالجة فنية وحرفية، فالشخصيّة لا تُجرد ولا تُختلق خارج النص، وهي لا تنفك عن الفعل داخل البناء النصي للرواية، وهي ليست ظاهرة لفظية أو خطابية، بقدر ما هي ظاهرة سردية، تتخلق وتتعقد وتنمو مع النص ذاته لا من خارجه، ولا تشكل خطابها إلا وفق دورها ووظيفتها، فقد لا تظهر نهائيا داخل العمل السردي، لكنها تبقى هي المؤثرة والفاعلة والحابكة لجميع مفاصل الرواية ما يكشف عن أن الشخصية ليست بلفظها أو بخطابيتها بل بفعلها ووظيفتها.


غياب الوصف

ويضيف رضي بأن الخطابية العالية التي أوقعت الكاتب في شرك التجربة، كشفت عن تدخل واضح من جانب المؤلف، وخطاب متجاوز لسقف الشخصية الزمني والواقعي، فهل يعقل أن يتحدث طالبٌ في الثانوية بلغة ذهنية حجاجية كهذه اللغة: «اخترتُ أن أثور على نظام الوصاية الاجتماعية، وألا أهادنه، رغم معرفتي بضراوة الحملة التي ستواجهني من حراس النسق، كما يسميهم الغذامي» (الراوية صفحة 29) وهل يمكن للغة ذهنية عالية كهذه أن تصبح لغة سردية؟ لم تكن هذه اللغة على لسان الراوي (فيصل الساري) فحسب بل أتت أيضا على لسان حسام القومجي الذي يقول إثر الإطاحة بصدام حسين: ألا تخجلون من تأييد الغزو الأميركي، لم تنشر أميركا إلا الخراب والدمار والديكتاتوريات، قرأتُ هذا الكلام لتشومسكي، وأنصحك أن تأخذه هدية» والكلام لطالب بالمرحلة الثانوية لم يتعدّ عمره الثامنة عشر عاما.

ويؤكد رضي بأن الفرصة كانت مؤاتية لأن تكون تلك الأصوات المتعددة من قومية وسلفية وليبرالية ومتحفظة مدخلا لعوالم متشابكة ومعقدة، وامتدادات اجتماعية موازية وأحاديث جوانية وباطنة، لكن وقوف الخطاب عند ظاهره اللفظي المباشر، ودخول الشخصيات في حوارية صوتية جدلية، جعل من تلك الشخوص الرئيسية أو حتى الثانوية التي دخلت فيما بعد كالأستاذ ناصر السالم المعلم ذي التوجه السلفي القاعدي تدور على نفسها، فتباطأ السرد حتى تعطل كلية في كثير من مفاصل الرواية، وتعطل الوصف أيضا فالرواية لم تشهد أي تعبير وصفي في أي مشهد من مشاهدها أو تفاصيلها، وغياب الوصف قد يجعل من النص الروائي أشبه بمن يمشي برجل واحدة. فعلاقة السردي الذي يكون زمنيا، بالوصفي الذي يتوقف الزمن ويكون زمنا مايجعل من النص السردي إذا اكتمل طرفاه الوصف والسرد، مكتمل البناء فلا هو مجرد من زمنيته الواقعية أو الافتراضية ولا هو أيضا خارج نطاق التأمل والفضاء المفتوح الذي يمنحه الوصف بغنائه اللامحدود، وهو ما أضاعت الراوية فرصة تواجده، فكان بإمكانه لو وجد أن يصبح عنصرا معوضا، لنمطية الشخوص أو الحوارية المغرقة في الخطابية.


المرأة تنسحب بهدوء

وتحت عنوان حوارية الذات والأنثى يعلق رضي بأنه غالبا ما كانت المرأة تمثل عنصر تحول وتوتر، سواء كان ذلك على صعيد التاريخ من نساء دخلنه ثم لم يخرجن منه إلا بتاريخهن كما شئن أن يصنعنه، أو على صعيد التجربة الإبداعية، ففي تجربة بدر الإبراهيم دخلت المرأة بخفة وسلاسة وخرجت بهدوء كما دخلت، فانسحبت من المشهد بعد ما أوهمت الراوي البطل (فيصل الساري) بالحب، ليأتي الانسحاب المفاجئ بطلب من الأم وتخرج رزان لا لها ولا عليها، فيتأثر الراوي ولا يرتبك النص، وتختفي رزان دون أن تغير أو تتغير، ودون أن تفجر النص بامتدادها أو تشعباتها داخل عالمها، لا سيما أنها فتاة تؤمن بالتغيير شأنها شأن الراوي/ البطل فيصل.

ويختم رضي رؤيته بأن الرواية عمل معقد وتغييري وهو قادر على إحداث هزة مجتمعية إن اكتملت شروطه وعناصره، ورواية بدر الإبراهيم تمثل محاولة جادة لنقد اجتماعي جريء وصريح، للمجتمع السعودي، لكنها كانت بحاجة إلى أدوات فنية وسردية أكثر عمقا، وأوسع رؤية، قد تتوفر في تجارب لاحقة للكاتب أكثر نضجا.

العدد 2512 - الأربعاء 22 يوليو 2009م الموافق 29 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً