العدد 2509 - الأحد 19 يوليو 2009م الموافق 26 رجب 1430هـ

الخارجية الأميركية... والملفات الساخنة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ردت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون على التسريبات الصحافية التي ذكرت أنها على خلاف مع إدارة الرئيس باراك أوباما بشأن التعامل مع الملفات الساخنة دوليا. وجاءت توضيحات كلينتون بعد غيابها الجزئي عن السياسة الخارجية الأميركية بسبب حادث التعثر الذي أدى إلى كسر في معصمها واضطرارها إلى المكوث في المنزل وعدم مشاركتها في المهمات والجولات التي قام بها الرئيس إلى روسيا وأوروبا وغانا. فالكسر الذي ساهم في تراجع دور كلينتون تصادف حصوله بعد لقاء ساخن عقدته وزيرة الخارجية مع وزير الخارجية الإسرائيلي المتطرف افيغدور ليبرمان في واشنطن. فاللقاء اتسم بالعنف بسبب الاختلاف على توسيع المستوطنات ورفض ليبرمان التجاوب مع الطلب الأميركي بوجوب تجميد الإنشاءات حتى يتسنى للمبعوث الأميركي جورج ميتشل مواصلة مهمته الدبلوماسية وإقناع الدول العربية بضرورة التطبيع.

المصادفة ربطت بين سخونة اللقاء وسقوط كلينتون وكسر معصمها. ولكن الربط تجاوز حدود ملف المستوطنات حين كلف الرئيس أوباما مستشاره دنيس روس بمتابعة ملفات «الشرق الأوسط الكبير» من باكستان وأفغانستان إلى إيران ولبنان وفلسطين. فالتكليف الذي حصل عليه روس تجاوز كل التوقعات لأنه اشتمل على كل ملفات «قوس الأزمات» ولم يترك لوزيرة الخارجية سوى تلك القضايا الموزعة على مناطق إقليمية في جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأجزاء من أوروبا. والتكليف تصادف أيضا مع سحب ملف العراق وتسليمه لنائب الرئيس جوبايدن الذي سافر إلى بغداد بعد إعادة تموضع القوات الأميركية وبحث مع حكومة نوري المالكي تلك الإجراءات الواجب اتخاذها لضمان منع عودة العنف إلى بلاد الرافدين.

كلام الصحافة الأميركية ومعلوماتها وأخبارها بشأن تقليص دور وزيرة الخارجية لم يصدر عن فراغ. فالدخان الذي تصاعد وتسرب من خلال وسائل الإعلام جاء بناء على نار التنافس بين مراكز القوى وتلك المهمات المنوطة بإدارة ملفات الأزمات في «الشرق الأوسط الكبير». ورد كلينتون على الشائعات والتسريبات بعد عودتها إلى العمل وبدء نشاطها من خلال مطالعتها السياسية أمام الكونغرس وإعلانها عن جولة آسيوية يشير إلى وجود أزمة في الإدارة بين الخارجية والأجهزة التي تدير «سرا» بعض الملفات.

رد كلينتون على كلام الصحف كان قاطعا ولكنه أيضا لم يوضح الكثير من زوايا الصورة. فهناك أولا ملف العراق الذي أصبح نائب الرئيس يشرف عليه. وهناك ثانيا ملف فلسطين يتابعه المبعوت ميتشل. وهناك ثالثا ملف أفغانستان- باكستان يلاحقه ريتشارد هولبروك. ورابعا هناك ملفات إيران والخليج و«الشرق الأوسط الكبير» كلف روس خلال اعتكاف كلينتون بالإشراف عليها.

كل هذه التكليفات المتداخلة أعطت ذريعة للصحافة الأميركية برسم سيناريوهات عن مبادلات وتعديلات ستؤدى إلى إعادة هيكلة وزارة الخارجية وترسيم الأدوار بين مواقع السلطة بما فيها أجهزة وزارة الدفاع وشبكة وكالات الاستخبارات العاملة في منطقة «الشرق الأوسط». التسريبات الصحافية توصلت إلى وضع سيناريوهات ترشح هولبروك لمنصب وزارة الخارجية واستقالة ميتشل من مهمته بعد فشله في التوصل إلى صيغة اتفاق بشأن المستوطنات وتسوية الدولتين، وأخيرا انفراد روس بمتابعة كل ملفات «الشرق الأوسط الكبير» بالتعاون مع أجهزة الدفاع وشبكة المخابرات وإشراف نائب الرئيس.


تعدد التكليفات

هذا السيناريو ردت عليه كلينتون بالسخرية وعدم توضيح الجوانب الخفية من الصورة. وكل ما قالته وزيرة الخارجية أكد أن غيابها كان بسبب سقوطها وكسر معصمها وأنها عائدة إلى مكتبها لممارسة دورها بقوة ومن دون انتباه لكل الأقاويل والتسريبات التي لا تستحق التوقف أمام تفصيلاتها.

كلينتون فعلا عادت إلى واجهة وزارة الخارجية لتقوم بممارسة وظيفتها من خلال البوابة الآسيوية (الصين، الهند، وباكستان) وبعد أن شرحت انطباعاتها في تلك المداخلة التي قدمتها لأعضاء الكونغرس. ولكن ماذا عن هولبروك ودوره في أفغانستان؟ وماذا عن روس ودوره السياسي الممتد جغرافيا من كابول إلى غزة؟ وماذا عن مهمة ميتشل وجولاته الدبلوماسية في فلسطين ومحيطها؟ وأيضا لماذا أعطي نائب الرئيس مهمة متابعة ملف العراق الذي يشهد تحولات دراماتيكية ليست بعيدة عن فضاءات الأزمة الإيرانية ومضاعفاتها الداخلية واحتمال تداعيها إقليميا؟

«لا دخان من دون نار». وما حصل في إدارة الخارجية بعد تعثر كلينتون وكسر معصمها يثير أسئلة بشأن احتمال عودة الأجهزة إلى لعب دور مواز للخارجية في رسم خريطة طريق للسياسة الأميركية في الفترة المقبلة بعد انسداد الآفاق وانغلاقها أمام «اليد الممدودة» ومفاوضات «وجها لوجه» التي أرادها أوباما.

توزيع مهمات الخارجية وتقاسم ملفاتها على أكثر من طرف تؤشر إلى وجود تعارضات في وجهات النظر بين الدبلوماسية الذكية المعلنة والدبلوماسية الخفية التي تدير أوراق الأزمات من تحت الطاولة وبأسلوب غير مباشر ومن خلال اللقاءات السرية «الفنية» و«التقنية».

التنويع في التكليفات بين بايدن في العراق وهولبروك في أفغانستان وميتشل في فلسطين وأخيرا إعادة تجميع الملفات في رزمة واحدة تحت إشراف روس يطرح علامة استفهام لا تقتصر على ماذا يحصل في وزارة الخارجية الأميركية وإنما تشمل مجموعة أسئلة تتصل بسياسة الإدارة ومدى قدرتها على الاستمرار في التصدي لضغوط اللوبيات والأجهزة والشبكات والمؤسسات الثابتة التي تنظم العلاقات الدولية تحت مظلة أولويات تخضع لمصالح الدولة العليا مهما كان مزاج الرئيس وطموحاته وتطلعاته.

الدخان الذي تصاعد من موقدة وزارة الخارجية في الأسابيع الأربعة الأخيرة ربما يكون سحابة صيف مرت في سماء واشنطن بسبب الوعكة الصحية التي أصابت الوزيرة. الدخان الآن أخذ يتبخر بعد بدء كلينتون جولتها الآسيوية على قاعدة برنامج سياسي أعلنت عنه في مطالعة لها في الكونغرس. إلا أن المشكلة ليست في الدخان وإنما في الملفات الساخنة في دائرة «الشرق الأوسط الكبير». فهذه الدائرة الموسعة لا تعاني من دخان يتصاعد وإنما من حرائق موضعية في باكستان وأفغانستان والعراق وهي حرائق مرشحة أن تمتد نيرانها إلى ملفات قابلة للاشتعال في حال لم تسارع الإدارة إلى وضع خطط عملية وجدية لتطويقها. فهل إدارة واشنطن جاهزة لتطويع كل هذه الملفات أم أنها بدأت تعاني من وعكة صحية كتلك التي أصابت كلينتون بعد ذاك اللقاء الساخن مع الوزير الإسرائيلي ليبرمان؟

الرد النظري على غرار أجوبة كلينتون عن تسريبات الصحافة لا يفيد لأن المطلوب مبادرات عملية تبدو حتى الآن بعيدة المنال على الأقل في الأمد المنظور.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2509 - الأحد 19 يوليو 2009م الموافق 26 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً