في الليلة الأخيرة من مؤتمر قمة الكويت (يناير الماضي)، اجتمع في بهو الفندق بعض رؤساء التحرير والصحافيين الخليجيين، يدردشون في السياسة، وكان من بينهم فتاةٌ واحدةٌ، هي فلسطينية جاءت إلى الكويت منذ عدة أشهر.
كانت تتكلّم من دون توقف، عن مأساة غزة التي كانت تعيش فيها، من أساليب قتلٍ وتعذيبٍ واستهدافٍ للفلسطينيين على أيدي الصهاينة، وأكثر ما أثار استغرابي ما ذكرته عن تجنيد العملاء من بين صفوف شعبٍ يخوض ملحمة كفاح عظيم.
تذكّرت صورة الفتاة وحكاياتها وأنا أتابع الفضيحة التي فجّرها رئيس الدائرة السياسية بمنظمة التحرير الفلسطينية، فاروق قدومي، بشأن اتهامه أبومازن ودحلان بالتواطؤ مع شارون في تصفية عرفات بالسم.
مقتل عرفات بالسم لم يعد سرا، فكثيرٌ مما نشر بُعيد رحيله يشي بالمؤامرة، بما فيها مواقف الحكومة الفرنسية السابقة التي استضافته في رحلة علاجه الأخيرة، وتكتّمها على التقارير الطبية، وحاولت بعض الجهات الفلسطينية فتح تحقيق دون طائل. إلا أن نشر شخصٍ له مكانةٌ تاريخيةٌ مثل القدّومي (أمين سر حركة «فتح»)، لمحضر لقاء يجزم بصحته، من شأنه أن يهزّ ما تبقى من ثقةٍ ضئيلةٍ بهذه الأمة المهزومة، التي تتهالك نخبها السياسية على الفتات.
السلطة الفلسطينية، وفي ردّ فعل عصبي، قامت بإغلاق مقر قناة «الجزيرة» في الضفة الغربية المحتلة، قابلته القناة ببيان استنكاري، فهي ليست المصدر الوحيد للخبر، فهناك مئات القنوات العربية والأجنبية التي تداولته، لكن يبدو أنه لابد من كبش فداء، والأفضل بالنسبة إلى سلطةٍ هزيلةٍ أن يكون كبشا سمينا!
القناة أدارت اللعبة بهدوء أعصاب، فأصدرت بيانا أصرّت فيه على تمسّكها بأداء دورها بمهنية، ثم أجرت لقاء مع قدومي، جدّد فيه موقفه من صحة الوثيقة. والقارئ المحايد سيميل إلى هذا الرأي، فمجرى الأحداث منذ 2004 مليء بالشواهد، من وعد شارون بافتعال أزمة ليتمكن من قتل كل القادة العسكريين والسياسيين، «لنمهد لكم الطريق للسيطرة على الأرض»، إلى حديث رئيس السلطة عن «البند الأول في خارطة الطريق الذي ينص على أن تقدموا خطوات داعمة لنا في مكافحة الإرهاب». ثم اعتراف دحلان: «بلا شك لابد من مساعدتكم ميدانيا لنا، فأنا مع قتل القادة الفعليين الرنتيسي والشامي، لأن ذلك سيحدث إرباكا وفراغا كبيرا»، وردّ شارون: «الآن بدأت تستوعب يا دحلان»!
السلطة قالت إن تصريحات القدومي مفبركة، فردّ عليها بنشر الوثيقة، التي تلقاها من عرفات عبر طرف ثالث، ولما طلب منه الخروج من بين فكّي الوحش، أصرّ عرفات على البقاء ليكون... شهيدا شهيدا. وحين حمّلته السلطة مسئولية «شقّ الصف»، وكلف رئيس وزراء السلطة سلام فياض النائب العام ليس لمقاضاة ناشر الوثيقة، وإنما لمن نشر الخبر! فردّ قدومي بأن السلطة نفسها «لا أعترف بها لأنها من إفرازات أوسلو»! والمهم أن يكون هناك إقرارٌ وعقاب، وأن نعرف من يتعاون مع العدو ويخون الوطن، ومن يضحّي من أجل هذه القضية المقدسة.
القدومي كسر الجرة، ودفعت «الجزيرة» ثمن اندلاق ما فيها من لبن خاثر!!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2506 - الخميس 16 يوليو 2009م الموافق 23 رجب 1430هـ