رسمت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في كلمتها التي ألقتها يوم الأربعاء الموافق 15 يوليو/ تموز 2009، أمام مجلس العلاقات الخارجية، وهو مركز للأبحاث في واشنطن، بوضوح تام معالم السياسة الخارجية الأميركية لفترة الرئاسة القادمة.
وتناولت كلينتون بشيئ من التفصيل النسبي الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها كان الصراع العربي -الإسرائيلي. يستمد الخطاب، وما جاء فيه أهمية خاصة بفعل تداخل عوامل: المكان الذي احتضنه، والزمان الذي أفصح عنه فيه، والموضاوعات التي تناولها.
فعلى مستوى المكان، والذي هو مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن، يعتبر من أكثر المراكز أهمية في تشكيل قرار الحكومة الأميركية، من خارج المؤسسات التابعة لها. وقد عمل، منذ أن أنشأه أكبر رجلي أعمال في التاريخ الأميركي، وهما، ج. ب. مورغان، وجون روكفلر، في العام 1921، كما تصفه المؤسسات الأميركية بأنه من أفضل قنوات الاتصال والتنسيق بين قطاع الأعمال (أي رؤوس الأموال) والحكومة الأميركية». ويضم من بين أعضائه الكثير من المؤسسات التي ترد في قائمة فورتشن 500، من أمثال سيتي غروب، وكوكا كولا، وماسترد كارد... إلخ. وبالتالي فمن دهاليزه تخرج الكثير من القرارات التي تصنع السياسة الخارجية الأميركية.
أما على مستوى الزمان فيأتي الخطاب، وعلى الصعيد الأميركي الداخلي، في أعقاب إزاحة إدارة بوش من السلطة، وفشل الحزب الجمهوري في الاحتفاط بها، وفوز الديمقراطيين، بقيادة جديدة يمثلها باراك أوباما، الذي حملت خطاباته في القاهرة ومن بعدها في أكرا، انعطافا نوعيا، لصالح الكفة العربية في الصراع العربي الإسرائيلي، الأمر الذي يرغم قارئ الخطاب على التوقف من أجل المقارنة والتدقيق في أوجه التطابق والتنافر، بين ما أفصحت عنه خطابات أوباما، وما كشف عنه خطاب كلينتون. أما على الصعيد الخارجي، فينبغي قراءته في ضوء الدعوات الوزارية الإسرائيلية الأخيرة التي أعطت «الضوء الأخضر لانطلاق مشروع قانون يستلزم إجراء استفتاء عام والحصول على الغالبية الشعبية قبل أي انسحاب من هضبة الجولان السورية المحتلة، الأمر الذي من شأنه وضع عراقيل أمام أي اتفاق مستقبلي محتمل مع دمشق».
وينص مشروع قانون الجولان على أنه إذا «قررت الحكومة (الإسرائلية بالطبع) التنازل عن منطقة معينة أو إقرار اتفاق يغيّر حدود الدولة، فإن القرار يستدعي الحصول على غالبية في استفتاء شعبي». لا نريد العودة إلى «نظرية المؤامرة»، لكننا بالقدر ذاته، نشك كثيرا في أن تكون الصدفة وحدها هي التي زامنت بين خطاب هيلاري، والمشروع الوزاري الصهيوني.
ومن المكان ننتقل إلى الموضوعات التي وردت في الخطاب، معتمدين في ذلك الترجمة الرسمية التي نشرها موقع الحكومة الأميركية الرسمي، إذ نجد هيلاري تتباهى بأن الولايات المتحدة لم تألو «جهدا في بدء مسعى مكثف منذ اليوم الأول (لولايتنا) لإحقاق حقوق الفلسطينيين والإسرائيليين بالعيش بسلام وبأمن في دولتين وهو ما يصب في مصلحة أميركا ومصلحة العالم»، دون أن تتوقف، كما كان ينبغي لها أمام كل الانتهاكات التي تصر «إسرائيل» على الاستمرار فيها، بما يتناقض ومبدأ القبول «بتعايش الدولتين»، كي يصل الأمر بها أن تقول صراحة بأنها «تتوقع خطوات من جانب «إسرائيل»، لكننا نقر بأن هذه القرارات صعبة سياسيا»، (وبأنها) تعلم ان التقدم نحو السلام ليس من مسئولية الولايات المتحدة أو «إسرائيل» فقط».
هذه المرونة غير المبررة تجاه «إسرئيل»، يقابلها ضغوط مبطنة وغير مبررة تدعو الدول العربية بأن تكون «لديها مسئولية اتخاذ تدابير لتحسين العلاقات مع «إسرائيل» وإعداد الرأي العام لديها لتقبل السلام وتقبل مكانة “إسرائيل” في المنطقة»، وضرورة أن تبادر الدول العربية إلى «اتخاذ تدابير ملموسة الآن»، على هذا الطريق، «واتخاذ خطوات لتحسين العلاقات مع «إسرائيل»، وإعداد جماهيرها لتقبل السلام والقبول بمكان “إسرائيل” في المنطقة».
وبعد أن تشيد بالاقتراح السعودي للسلام وتعتبره «خطوة إيجابية»، تعود متراجعة كي تقول «لكننا نعتقد أنه مازالت هناك حاجة إلى ما هو أكثر». ثم تمضي إلى أبعد من ذلك في ضغوطها على الدول العربية، حيث نجدها تقول، ولو على شكل تلميح مبطن بأن «مبادرات من الدول العربية تجاه «إسرائيل» ستعطي الحكومة اليمينية الإسرائيلية مزيدا من الدعم السياسي لوقف بناء المستوطنات».
ولا تتردد هيلاري في اتهام الفلسطينيين بتعثر مفاوضات السلام، ملقية المسئولية عليهم «لتحسين وبسط التدابير الإيجابية التي اتخذوها في المجال الأمني، والعمل بحزم ضد التحريض، والإقلاع عن أي عمل من شأنه أن يقلل من احتمالات مفاوضات ذات مغزى».
لقد تفاءل العرب خيرا عندما أتى أوباما إلى البيت الأبيض، وبادرت قوى عربية، ومن بينها قوى فلسطينية، إلى إبداء حسن النوايا، وتأكيد الرغبة في المضي نحو تحقيق سلام إستراتيجي، مبني على الحقوق التي تبيحها القوانين والأعراف الدولية لكل من لهم علاقة بالصراع العربي - الإسرائيلي ومن بينهم اليهود والفلسطينيون، لكنهم اليوم يلمسون في خطاب هيلاري نبرة مختلفة عن تلك التي سادت تصريحات أوباما منذ وصوله إلى السلطة.
ما يلمسه من يقرأ خطاب هيلاري بشيء من التمعن أن فيه الكثير من التراجعات إلى الخلف عن تلك الالتزامات الأميركية، التي وردت على لسان أوباما، تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي، والتي اتسمت بالكثير من المرونة والعدالة، إن جاز لنا القول.
فهل يمكن لهيلاري أن تبدأ في وضع معاول الهدم السلبية في حيطان المشروعات الإيجابية التي شيدها أوباما؟
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2506 - الخميس 16 يوليو 2009م الموافق 23 رجب 1430هـ