تنهض نظرية ابن باجه الفلسفية على مرتبتين: تصوره للمعرفة (الوعي الشقي) وتصوره للاجتماع (المدينة الناقصة). ويتصل التصوران في سياق منظور تاريخي (زمني) له غاية إنسانية. فالغاية عنده تحدد طبع الإنسان ودرجة رقيه وهي تحيط بأعماله وتعبر عنها. وأعلى درجاتها هي العقل الفعال والاختيار الحر. فابن باجه ينطلق من قول سابق للحكماء عن اتصال الفكر بالعمل إذ إن «آخر الفكرة أول العمل وأول العمل آخر الفكرة» (رسائل ابن باجه، ص 107). فمن طريق الاتصال يتحول الأول إلى أخير والأخير إلى أول. وكما يقول «من المتكون إنما يصير آخر» (ص 108). فالأساس النظري لفلسفته هو تقدم المعرفة على الوجود أو الصورة (المثال) على المادة (الواقع) إذ إن «كل أمر موجود فإذا تصور حصل» (ص 139). والجسم عنده صورة أو مادة والمادة دائما ذات صورة. لذلك يحتاج الوجود إلى تصور (معرفة) لعقل حصوله. فالفيل مثلا «ليس معقولا لنا، إذا لم نشاهده وكذلك الزرافة» (ص163). إلى التصور الحسي (المباشر) هناك التخيل بالعقل، لأن «المحرك الأول الإنساني هو العقل بالفعل وهو المعقول بالفعل». وتحصل القوة الفكرية للإنسان «إذا حصلت المعقولات» وهي تتحرك بالشهوة المحركة إلى المعرفة و «الفكر وما يكون عنه» (ص 160).
إذن «العقل بالفعل هو المحرك الأول في الإنسان بالإطلاق»، وأن العقل بالفعل «قوة فاعلة، وليس العقل وحده بل جميع الصور المحركة هي قوى فاعلة». فالقوة الناطقة «تقال أولا على الصورة الروحانية من جهة إنها تقبل العقل، وتقال على العقل بالفعل». وهذا العقل «إذا كان واحدا بالعدد في كل إنسان» فإنه ليس بواحد (ص161). فالعقل واحد بالعدد إلا أن أصنافه كثيرة.
على أساس فكرة اتصال العقل بالإنسان يؤكد ابن باجه على أهمية العقل في الإسلام وتفضيل الله العقل على كل الموجودات وحض الشريعة على العلم. «فالعقل أحب الموجودات إلى الله تعالى» والعلم «مقرب من الله، والجهل مبعد عنه» وأشرف العلوم وأجلّه مرتبة «هي تصوّر الإنسان ذاته، حتى يتصور ذلك العقل» (ص142). وعلى هذا تفاضلت الأعمال الإنسانية بالغايات، ولأن الأعمال لا تتم سوى بالتعاون أو اللقاء على التعاون، بات التعاون فعلا مدنيا إنسانيا وهو برأيه يتم بالمصادفة أو التشوق (الطموح) أو التعاون على المنافع. فالتشوق (الشوق) هو آلة المتخيل بينما المحرك الأول الإنساني هو العقل بالفعل وهو «الرأي» (ص151).
إلا أن الإنسان ليس واحدا فهو كالعقل واحد بالعدد لكنه كثير الأصناف والمراتب. فالإنسان له أولا «الصورة الروحانية على مراتبها، ثم بها يتصل بالمعقول، ثم يتصل بهذا المعقول بذلك العقل الآخر» (ص165). فاتصال الإنسان بالمعقول إنما هو يأتي «بالصورة الروحانية» ومنه يتم تصور الشيء وحصوله إذ «معنى العلم بالشيء هو أن يكون عند العالم به محموله هو معقوله» (ص 168). لذلك جاءت درجات المعرفة عند ابن باجه على ثلاث محطات: الأولى (المعاني المحسوسة) وهي بداية الوعي (الإدراك). الثانية (الصور) وهي وعي الموجود (التصور). الثالثة (معاني الصور) وهي إدراك الإدراك (وعي الوعي) أو عقل العقل. وبسبب الاختلاف المذكور اختلفت «الصور الروحانية» فهي «لا يمكن أن تكون واحدة» (ص 170). فالجمهور كما يذكر ابن باجه ليس كأرسطو بل كان أرسطو في مثل حالهم فلهم «حال من أحوال أرسطو» (ص 170).
بسبب اختلاف مراتب العقل انقسم الناس إلى ثلاث فئات: الجمهور (العامة) والنظار (الفلاسفة). والنظار على ضربين عمليون (المعرفة العملية) ونظريون (المعرفة النظرية). وتفاضل الفلاسفة عن الجمهور يكون «على قدر تفاضل التصور» (ص 164). فالنظار (الفلاسفة) يشاركون الجمهور بالنسبة ثم يرتقي الفيلسوف لأنه ينظر في المعقولات لا من حيث هي معقولات «بل من حيث المعقولات أحد موجودات العالم» (ص 165). فالعقول إذن «كثيرة من جهة، واحدة من جهة أخرى» والعقل يفهم منه «ما يفهم من المعقول، وهو واحد غير متكثر» (ص 166).
بسبب تعدد الواحد كان الناس على ثلاثة منازل (مراتب) أولها الجمهورية (الجمهور) وهي المرتبة الطبيعية (الصنائع العملية)، وثانيها المعرفة النظرية وهي ذروة المرتبة الطبيعية إذ يرى أصحابها المعقولات بواسطة آلات الحواس (السمع، البصر)، وثالثها السعداء وهي مرتبة الذين يرون الشيء نفسه من دون توسط.(الرسائل، ص 167).
هذا هو الفارق عند ابن باجه بين العين والعقل. فالعين ترسم الشكل بينما العقل يبصر (يرى). وينطلق لشرح نظريته من مثال أفلاطون عن الرؤية واختلافها على درجات الناس كما ورد في كتاب «الجمهورية» عن فكرة المغارة والشمس والنور والظلال. وانطلاقا من مثال افلاطون عن «الكهف» يؤكد ابن باجه على فكرة فلسفية وهي إذا أبصر الإنسان في الظلمة لما احتاج إلى الضوء. فالنور عنده يأتي بعد الظلمة كالأكل بعد الجوع والشرب بعد العطش. فالإحساس بالظلمة يولد الحاجة إلى نور (ضوء) كذلك الإحساس بالجوع أو العطش. فالجمهور يرى الموجودات في حال شبيهة لحال الظل ولا يبصر الضوء إذ «كما أنه لا وجود للضوء مجردا عن الألوان عند أهل المغارة، كذلك لا وجود لذلك العقل عند الجمهور ولا يشعرون به» (ص 168). أما النظريون فهم ينزلون منزلة من خرج من المغارة فيلمحون الضوء مجردا عن الألوان ويرى جميع الألوان كما هي. أما السعداء «فليس لهم في الابصار شبيه، إذ يصيرون هم الشيء» (ص 169). فالسعداء هم النور (الضوء) الداخلي وهم العقل بالفعل الذي هو «الهادي والراشد».
من هذه المرتبة تبدأ أزمة السعيد. فالسعيد (المثقف) هو غريب بين أهله ووطنه ويعاني من تطور وعيه حين يعطل عليه اتصاله مع مدينته فيعيش في غربة وتوحد. فالوعي يولد الشقاء والعزلة بسبب التنازع بين الواقع الناقص والتصور الكامل.
من فكرة الوعي الشقي أو أزمة الغرباء (الغريب في وطنه) يبدأ التصور الاجتماعي لفلسفة ابن باجه (الاتصال بين أول الفكر وآخر العمل والعكس) أو ما يسميه بالمدينة الناقصة وطموح «المتوحد» إلى بناء مدينة كاملة ينحل فيها التضاد بينه (الوحيد) وبينها (المدينة). وهذه من «تدبير المتوحد» وهي في النهاية مهمة مستحيلة.
تنقسم المدينة في فلسفة ابن باجه إلى أنواع (التعدد في الواحد) وهي: الإمامية، الكرامة، الجماعية، والتغلب. وغايات المتوحد «وهو جزء مدينة إمامية» هي تطوير «المدينة الناقصة» إلى مدينة كاملة تتحقق فيها الصور الثلاث: الجسمانية، والروحانية الخاصة، والروحانية العامة. فالأولى شكلية يشترك الإنسان مع البهائم في بعضها، والثانية فكرية تختلط فيها أحوال خاصة بالصور الروحانية الإنسانية لا شركة لغيرها فيها، والثالثة هي الحكمة (الفلسفة) بصفتها «أكمل أحوال الروحانية الإنسانية إلا عند من لا يعلمها» (ص 76).
حتى يصل المتوحد إلى غاياته الإنسانية لابد له من تدبير الأمر. ومعنى التدبير في «لسان العرب» كما يقول ترتيب أفعال، وهو يكون بالقوة وقد يكون بالفعل (الرسائل، ص 37). وقد يكون على العموم ويأتي على الخصوص. وأشرف أعمال التدبير: تدبير المدن أو المنازل أو الحروب. بينما تدبير الله هو المطلق وهو محكم ومتقن (ص 38). ويأتي تدبير المنزل كجزء من المدينة. ويشبه المنزل الناقص المدينة الناقصة، والمنزل الكامل في المدينة الكاملة (ص 39). والمنزل الفاضل يوجد في المدينة الفاضلة والأخيرة ليست موجودة بالطبع وإنما وجودها بالوضع. فتكميل المدينة هي غاية الإنسان (ص 40). ومن خواص المدينة الكاملة هي انتفاء حاجتها إلى صناعتي الطب والقضاء. فهي فاضلة وكل أفعالها صائبة. فهي مدينة كاملة غير ناقصة وكل أفعالها صادقة (ص 41). لذلك فهي ليست بحاجة إلى صناعات المدن الناقصة (الطب والقضاء). ومن خواصها ألا يكون فيها نوابت (معارضة) أو المخالفين لرأي أهل المدينة. ومشكلة المتوحد أنه لا يجد مثل هذه المدينة ولا وجود لها في العالم.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2506 - الخميس 16 يوليو 2009م الموافق 23 رجب 1430هـ