أحد أبرز المفكّرين الإيرانيين الذين اهتموا بالكشف عن التمركز والتحيّز في العلوم والمعارف الغربية الحديثة فهو سيد حسين نصر (1933 ) إذ دعا إلى العودة إلى الرؤية الكونية العرفانية في قراءة العالم وتفسير الطبيعة. يكتب نصر «إذا نظرنا إلى الطبيعة كما ننظر إلى نص مكتوب فسنلاحظ أنها نسيج من الرموز التي ينبغي أنْ تقرأ بحسب ما تشي به من معاني». وهو يصرح بأنه استطاع الخلاص من سطوة الفكر الغربي على وعيه، بعد أن تعرف على ميراث الهند والشرق الأقصى، مضافا إلى اطلاعه على نقد المفكرين الغربيين للحداثة.كل ذلك عمل على تحرير روحه وذهنه من رواسب الفكر الغربي الحديث.
وتبعا لشيخ الإشراق السهروردي يذهب حسين نصر إلى أنّ الشرق هو رمز النور والعقل والمعنوية، أما الغرب فأنه مثال الظلام والانحطاط والمادية. وبغية أنْ يعود الإنسان إلى منشئه الإلهي لابد أن يتحرر من كافة علاقاته المادية ومطامحه الجسدية.
وبغية الفرار من «المنفى الغربي» استند الدكتور نصر إلى التصوف والعرفان كمرجعية أساسية لتفكيره ورؤيته الكونية، فإنه يرى أن العرفان ومكتسباته وآثاره هو الاسمى من بين كل المكتسبات البشرية، إذ يقول «لم يكن أسمى أشكال المعرفة في العالم الإسلامي يتجسد في علم خاص يتوقف عند مستوى العلم البشري، بل كان يتجسد في الحكمة التي هي العرفان في التحليل النهائي».
ومن أجل ذلك تنازل عن العقلانية لصالح الإشراق، وعن الديكارتية لصالح المكاشفة، وعن الحداثة لصالح الميتافيزيقا الكلاسيكية. وأدان بطريقة أفلاطونية محدثة التراث الفكري لعصر النهضة والتنوير. واعتبر تفشي النزعة الإنسانية منذ عصر النهضة ومزاعمها الشمولية بداية الاغتراب الفلسفي في الحضارات الغربية والشرقية. وكان هذا حصيلة فصل النهضة الفلسفية عن الأخلاق والعلوم والدين، فأوّلا بادر ميكافيلي (1469- 1527) على تفريغ السياسة من صماماتها الأخلاقية، ثم جاء غاليو (1564-1642) ليفصل بين العلم والدين، وبالتالي ظهر ديكارت (1596- 1650) ونيوتن (1642- 1728) ليفصلا الفلسفة عن العلم وعن الدين في وقت واحد.
وينتقد نصر الحضارة الغربية الحديثة التي ترجح الذهن والجسم على الروح، وتستبعد النظرة العرفانية والرمزية للعالم، وتنبذ الجوهر الإلهي، وتنحاز للعلوم والمعارف غير الدينية باعتبارها تمثل سبيل السعادة الاجتماعية في العالم. ويرى نصر أنّ العصر الحديث بما يتماشى به من «تمرد الإنسان على الله» و»انفصال العقل عن نور العقل الهادي» و»تراجع الفضيلة» قاد إلى مستنقع الاضطراب والانحطاط والخطيئة.
وكثيرا ما يستعمل حسين نصر مصطلحات «العلم المقدس» و»الأمر القدسي»، حتى وردت مصطلحات «المعرفة والأمر القدسي، وضرورة العلم المقدس» عناوين لبعض كتاباته.
وهو يقصد بالأمر القدسي واقعة إلهية تظهر تجلياتها في شئون هذا العالم. ويؤكد بأنّ مدلول القدسي لديه هو معناه الميتافيزيقي، الذي يراد به تارة ذات الباري، التي لا يطرأ عليها تغير، وهي الواقعة الإلهية الصرفة، ويراد منه تارة أخرى التجليات القدسية المعبّرة عن تلك الواقعة الصرفة، والمتجلية في آن واحد في بعض الأشياء الدنيوية، التي تمثل ظواهر مشهودة لتلك الحقيقة الواقعية. وطالما حذر من شيوع الطابع العرفي اللاتقديسي في دنيانا، وشدد على ضرورة المزاوجة بين المعرفة والأمر المقدسي، والاهتمام بالعلم المقدس.
لكن الدعوة إلى ما يسمّى بالعلم المقدس يكتنفها الغموض، ولا تخلو من هجاء ونفي لكل ما هو غربي. ويتمدد مفهوم المقدس لديه فيستوعب التراث، والتمثلات المتنوعة للاجتماع الإسلامي، وهو مفهوم يستقي مرجعياته من أثار المتصوفة والعرفاء، وشيء من نقد تيارات ما بعد الحداثة للعقل والعقلانية في الغرب.
إنّ تنديد نصر بالحداثة يتبنى على مرتكزات ذهنية لا تاريخية، إذ أنه تأثر تأثرا صارما بكتابات الميتافيزيقي الفرنسي رينيه غنون، فقد استعار منه أفكاره حول «أزمة الحداثة» و»عبثية التطور وسوء مغبته». وإنّ ما يطرحه نصر من ملاحظات نقدية عن الحداثة تماثل نقود غنون، باعتبارها لا تعير أدنى اهتمام للمكاسب المتنوعة التي تحققت من حركة التنوير والحداثة.
لقد أخضع نصر المفاهيم المفتاحية للتنوير والحداثة، كالتقدم والعقل والعلم والتكنولوجيا والحرية الفردية، للنقد والإدانة من منظار ماضوي متعالي، فـ «إلهيات الإزمة» عنده تحاكي مقولات غنون، من ناحية استهانتها بتعقيدات الحداثة وملابساتها وتجلياتها المختلفة.
ومازالت أفكار الدكتور نصر تستهوي قطاع عريض من الإسلاميين التقليديين في إيران، وبعد أن غابت آثاره عن الحياة الثقافية في العقد الأوّل بعد قيام الجمهورية الإسلامية، عاودت الحضور بالتدريج وبكثافة في الفترة اللاحقة، وتكررت طباعتها مرات كثيرة.
ولو عدنا إلى الوراء فسنرى حضورا واسعا لأفكار جلال آل أحمد في عقد الستينيات، إذ تغلب خطابه حيال داء التغريب، وتحليل أزمة المستنيرين الإيرانيين، على مشاغل الساحة الثقافية. بينما سادت في حقبة السبعينات آراء ومقولات علي شريعتي (1933 - 1977) التي تمحورت حول «العودة إلى الذات» وإيقاظ الهوية الإسلامية الإيرانية. ويفصح شريعتي عن السياق الذي تحتله مقولاته بالنسبة إلى أفكار جلال آل أحمد، بقوله: «كان آل أحمد مستنيرا، لكنه لم يكن قد تعرف على ذاته بعد، لم يكن يدري كيف ينبغي العمل، ولم يبدأ العودة إلى الذات إلاّ في السنوات الأخيرة من عمره». وبذلك غدا «التغريب» و»العودة إلى الذات» الخطابين الغالبين على المسرح الثقافي في إيران في عقدي الستينيات والسبعينيات.
ويمكن القول إنّ علي شريعتي من أبرز خبراء «علم اجتماع الدين» في إيران، في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين، ذلك أن آثاره، بما تشتمل عليه من كتابات ومحاضرات، تعالج قضايا ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر، بهذا الحقل.
ولعل التكوين العلمي لشريعتي هو الذي وفر له عدّة معرفية لخوض مغامرة البحث في هذا الحقل، الذي كان وقفا على المستشرقين، والباحثين الغربيين المهتمين بالاجتماع الإسلامي.
وعندما نعود إلى تراثه نجده يستعير جملة أدوات منهاجية، وأفكارا حديثة، من مفكرين فرنسيين وألمان، فقد تأثر برؤى ريمون آرون، وجاك بيرك، وهنري كوربانن وفرانتس فانون، وروجيه غارودي، وجورج كوروتيش، ولويس ماسينيون، وجان بول سارتر، وألبير كامو. وترد في كتاباته إشارات إلى: هيغل، وماركس، وهوسرلن وياسبرس، وهايدغر، وماركوزه، تدلل على ان لمقولات ومفاهيم هؤلاء المفكرين تأثيرا بالغا في صياغة وعيه ومنظومته المعرفية.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 2506 - الخميس 16 يوليو 2009م الموافق 23 رجب 1430هـ