من الحقائق الاجتماعية الكبرى الممتدة في العمق التاريخي للشعوب أنها تترك في حياتها تاريخا يمتد إلى حاضرها نتيجة تأثير مجموعة من التراكمات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والتفاعلات المباشرة وغير المباشرة بين الناس في هذا المجتمع وفي غيره من المجتمعات الإنسانية، ويطوي كلاهما، التاريخ والحاضر، في داخلهما مكونات تراث إنساني لكل مجتمع على حدة، ولهذا فإن التراث الثقافي لشعب معين يمتد من عصر لعصر لاحق ويكون حاضرا في التأثير في الناس لمجرد أن تراث هذا المجتمع لا يزال له بصماته، ولا يزال يحفر في أفكار الناس وتصرفاتهم ومشاعرهم خطوطا مؤثرة في حياتهم الحاضرة، وربما في مستقبلهم.
ولولا هذا الامتداد لنسي الناس كل تاريخ طوى نفسه ولم يعد أحد منهم يرتبط بماضيه، ولما حدثت علائق تفاعل اجتماعي بين شعوب في عصر ما وآخرين من البشر في عصر سابق أو لاحق، ولما عُرِفَ شيء في مجال المعرفة بـ «علم التاريخ » وفلسفته التي تتضمن قوانين لضبط حركة المجتمعات ومسيرتها التاريخية.
فالتراث الثقافي الإنساني هو الأفكار والآداب واللغات والممارسات السلوكية المادية والمعنوية الذي خلفه شعب في فترة معينة وامتد في حياة شعب آخر أتى بعده في حركة الزمان، وهو بلغة بسيطة عنصر ضروري لصقل الشخصية الإنسانية إذا ما استثمر الإنسان العناصر الإيجابية في التراث الذي تعرف عليه وعاش في سياقاته التاريخية والنفسية والثقافية والروحية وغيرها.
وهذا التراث الثقافي - كما يعلم الجميع - تم نقله بأساليب متنوعة عبر زمان طويل عاشه الإنسـان كالتناقل الشفهي، والكتابة التاريخية المدونة، وكتب التراجم وغيرها من الآثار المادية، وكذلك بالصور والآثار المادية مثل الكتابات على القبور، بالتالي فإن مصادر نقل التراث الثقافي والاجتماعي لهذا المجتمع أو ذاك هو ما يحفظه وتراثه في حركة الزمان، وهنا تكمن أهمية مصادر الإمامية في الحفاظ على جزء من التراث الثقافي لعلماء بربورة وغيرها من الأماكن التي شهدت حركات ثقافية لا بغرض تدوينه فحسب، وإنَّما استحضاره وانتقاء المناسب منه لتوجيه الإنسان في حياته الجديدة والمعاصرة، فلا يوجد - بالأمس واليوم وغدا - تراث ثقافي لجماعة بشرية بلا مصادر احتضنته وحفظته، ولا يوجد إنسان بلا تاريخ، وبالتالي من الصعوبة بمكان التعرف على التراث الثقافي لمجتمع (بربورة) بدون وجود هذه المصادر، وأننا قد واجهنا صعوبات في التعرف على هذا التراث بسبب نقص وقلة المصادر، بل وعدمها أحيانا، ولكن الإنسان قادر على أن يقطع مسافة الألف ميل بالإرادة والتحدي، وبإصراره على البدء بتجاوز الخطوة الأولى من هذه المسافة.
تجسد التراث الثقافي لعلماء بربورة - كما جاء في مصادر التراجم - في مجموعة من المكونات المتداخلة يمكن حصرها بما يأتي :
- الإنسان.
- الدين.
- التفاعل بين الإنسان والدين.
- المكون الزمني والمكاني.
- المكونات المادية.
- الناتج المعرفي للتفاعل الثقافي.
بالرغم من محدودية مصادر دراسة التراث الثقافي لعلماء بربورة في كتب التراجم وفي غيرها أيضا فإنها قد حرصت - بالقدر المتاح - على تأكيد دور الإنسان واهتمامه في طلب العلم والمشاركة في عملياته كالتدريس والمهام والعمليات الثقافية الأخرى، وتوظيف القدرات العقلية للناس على إشباع حاجاتهم المعرفية والروحية عن طريق تعلم الأحكام الشرعية ودراسة علوم الشريعة وما يعززها من العلوم العقلية السائدة في عصرهم، وكانت أدوار الإنسان البربوري أبرز مكونات التراث الثقافي الذي لايزال بعضه بأيدينا، فما نجده من رسائل ومخطوطات ومراكز علم ومعرفة هي من إنجازاته.
الدين في نظر علماء بربورة، وعند كل علماء الأمة هو ضرورة روحية - عقلية للإنسان يجب دراسته كمعرفة موجهة للفكر والمشاعر والسلوك للناس، وهو جهة تنظيمية ضابطة لحياتهم، وبدون الإيمان بالدين كمصدر للمعرفة يصعب الإفادة من محتواه الفكري والروحي في تكوين وعي بقيمته في حركة الحياة، ويصعب فهم أثره في تكوين التراث الثقافي والروحي للمجتمع البربوري.
لهذا اجتهد علماء بربورة - كعلماء روحانيين - تحت ضغط ظروفهم الصعبة وتوجيهات المشرع الإسلامي في توليد تراث ثقافي خاص بهم وموصول بالدين وقيمه وعلومه وأحكامه لضبط حياة الإنسان، فهو دعامة دينية وبُنْيَة تحتية لهذا التراث، وقد رأينا في مصادر التراجم الإشارات الواضحة في خدمة الدين وتوظيفه في خدمة الإنسان المسلم.
يمثل عقل الإنسان - كما يقرر الإمام علي - شرعا من داخله، ويمثل الدين في الوقت نفسه عقلا من خارجه، ولا يمكن أن يتصل العقل الداخلي بالعقل الخارجي ما لم يباشر الأول مهمته في استثمار الأفكار التي يختزنها الدين كمصدر للمعرفة وتعلم الأحكام الشرعية ذات البعد الثقافي، وبالتالي يجسد الدين عملا ثقافيا خلاقا وإبداعيا وتفاعليا للإنسان، وبذلك يكون الدين حركة تفجيرية للقدرات العقلية الذاتية لدى الإنسان، قد ترك علماء بربورة آثارهم في الثقافة كدليل على تفاعلهم النشط مع الدين، فما تركوه من علم وتراث فكري في كتب منسوخة ومخطوطات هو تعبير حي عن هذا التفاعل بين العقل البربوري واهتماماته الدينية في توليد المعرفة التي كان يحتاجها في حياته ولتوجيه مجتمع قريته.
للزمان والمكان - كعنصرين متجاورين - تأثيرهما في صنع نسيج التراث الثقافي وخيوطه الإنسانية، وينسحب هذا التأثير على النسيج الثقافي للقرية التي نشير إلى نسيجها الاجتماعي وتراثها الثقافي، فالتراث الثقافي لعلماء بربورة من مخطوطات ورسائل وعمليات وأدوار للتفاعل الثقافي قد ولدت كآثار معرفية ومادية في فترة قيام القرية منذ القرن الحادي الهجري، وربما لفترة أبعد واستمر حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، فالزمن مكون حيوي في حركة الحياة بالقرية وبانجازات أهلها على امتداد وجودها التاريخي.
أما العنصر المكاني فتم إنتاج تراثها في القرية نفسها وفي قرى أخرى تعلم فيها علماؤها كقرية «مقابة » التي تعلم فيها على يد شيخه المقابي، وكذلك تلقي علماء بربورة العلم والمعرفة في خارج البحرين كما في مدينة « شاهجهان » الهندية.
ونعني بها كل الأدوات المادية التي استخدمت في إنتاج تراث بربورة الثقافي وساهمت في تقدمه ونشره، أو كل أثر مادي دلَّ عليه كالرسائل والمخطوطات، ويمكن أن نلحظ هذه المكونات في منجزات مادية أخرى كالمساجد والحوزات ومراكز التعلم التي لايزال الناس يتناقلون أقوالهم بشأنها حتى الآن، وقد أعيد بناء بعض هذه المساجد في موضعها التاريخي السابق لتظل شاهدة على وجودها التاريخي.
وتجلى ذلك في توجه علماء بربورة نحو المعرفة وقيام حوزات تدريس علمية وفقهية لتعلم وتدريس علوم الشريعة والحكمة العقلية، وممارسة أنشطة وعمليات ثقافية كالتدريس وتصنيف الكتب وتأليفها، وكتابة مخطوطات ونسخ رسائل عبر تاريخ ثقافي معين، فما نتج عن التفاعل هو عنصر تطبيقي وثمرة للتفاعل الحي بين الإنسان البربوري ودينه الذي آمن به واعتقد بتأثيراته على حياته الشخصية والعامة والاجتماعية.
أصل كلمة «مصدر» المفردة مشتقة من كلمة أو فعل » صَدَر ».. أي موضع الصدور، ويراد بالمصدر هنا كمصطلح معرفي، وكما جاء في أحد معاجم اللغة هو (ما يصدر عنه الشيء) ‘ فالعلم على سبيل المثال «مصدر الرقي والتطور »... أي أن الرقي كشيء مادي صدر عن العلم، فالمصدر أساس وجود الشيء وقوته الفاعلة، وإذا قلنا إن التاريخ مصدر للمعرفة فقصدنا أن حقائقه المتجسدة في أحداث ووقائع هو مصدر بوجود شيء ما في فترة سابقة كالعلم بحقائق أحداث معينة، إذن فالتاريخ المسجل والموثق هو مصدر العلم بما جرى من أحداث وما تولد عنها من حقائق تاريخية في الزمان والمكان، وينسحب هذا المعنى على كتب تراجم العلماء وسيرتهم الذاتية كأحد مصادر هذا التاريخ، فالكتب هي مصدر العلم بالحقائق المتصلة بأفعال الناس وبتاريخ حياتهم وتعاقب الأحداث التي عاشوها، ولا يشذ علماء بربورة عن هذه القاعدة، وبالرغم من محدوديتها بالنسبة للتوفير مادة معرفية عن علماء بربورة - إلاَّ أنها كتب التراجم تمثل مصدرا لما اتصل بحياتهم من أحداث وحقائق ومعلومات في فترة وجودهم بالبحرين وفي خارجها.
العدد 2502 - الأحد 12 يوليو 2009م الموافق 19 رجب 1430هـ