في جغرافيا الدول دواع مهمّة لكي تُقرأ سياساتها. فالحدود والامتدادات تُؤشّر إلى طبيعة الصراعات والتحالفات القائمة. بل إنها تتجاوز ذلك فتستشرف مستقبل العلاقات البينية للدول المتجاورة، والمتحالفة والمتخالفة في آن معا.
في حال إيران كحال غيرها من البُلدان. عَمِلَت (وتعمل) جغرافيتها على جعلها في قوس الحوادث. لكن تلك الجغرافيا أيضا تتحوّل في مواطن متعدد إلى وسيلة لخنق مساحات المناورة للبُلدان ذاتها، وتزيد من كلفة العمل السياسي لها إلاّ إذا أجادت الدول أصول اللعبة.
وقد تحدثت في مقال سابق عن جغرافيا إيران ولكن ضمن المسار الحضاري والاتصالي للمنطقة. اليوم أتحدث عن مفاعيل هذه الجغرافيا ضمن مساريها الشرقي والشمالي واللذين يُعتبران أحد أهم الإطلالات الجغرافية لإيران.
لو افترضنا أن مركز محافظة يزد وسط إيران هي نقطة انطلاق أربعة مسارات مستقيمة يأخذ أسفل المركز وسقفه بانحناءة تحاكي الجهات الأربع الأصلية، والتي سآخذ منها جهتين فقط كما أسلفت، وهما الشمال والشرق. عندها يكتمل مشهد الجغرافيا الإيرانية، فتظهر المصالح والأخطار.
الأول: خطٌ مستقيم يخرج من المركز إلى الشمال الشرقي وخط آخر من المركز إلى الجنوب الشرقي. ضمن هذه المنطقة تقع أفغانستان وباكستان وجزء من تركمانستان.
في هذا المسار تمثّل أفغانستان امتدادا ثقافيا رئيسا لإيران منذ القِدَم، حيث يتحدث جزء مهم من الأفغان اللغة الفارسية، وتوجد فيها أعداد كبيرة ممن يُدينون بالمذهب الشيعي الإثني عشري، وهو ذات المذهب الذي يتماهى معه الحكم في إيران والأغلبية العظمى من الشعب الإيراني.
ضمن مسار الهوية هذا يُمكن إدراك الحقيقة التاريخية القائلة إن المناطق التي وصل إليها جنكيزخان في إقليم خوارزم وخراسان، حيث مُدن بلخ، ومرو، ونيسابور، وهراة، وغزنة كانت في السابق ضمن حدود الإمبراطورية الفارسية، والتي هي اليوم تُشكّل الشمال الأفغاني.
في قضايا الأمن الإقليمي، فإن أفغانستان هي أحد أهم الدول (المجاورة) خطرا على الأمن القومي الإيراني لعدة أسباب. فهي مُحتلّة من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية. وقد تسمح الحدود الممتدّة لتسعمئة كيلومتر بين إيران وأفغانستان لأن يتم تثمير ذلك في أي اعتداء غربي على الأراضي الإيرانية.
كذلك فإن أفغانستان لم تشهد استقرارا سياسيا وأمنيا ملحوظا منذ إسقاط حكومة حركة طالبان في العام 2001. وبالمناسبة فإن كلا الخصمين المتناحرين هما أعداء للنظام السياسي الديني في إيران.
أضف إلى ذلك فإن أفغانستان تُنتج 10 آلاف طن من المُخدرات سنويا. وهذه الكمية يتم تهريبها عبر الأراضي الإيرانية للوصول إلى أعالي الشمال والغرب من القارة الآسيوية والأوروبية. وهو ما يُكلّف الحكومة الإيرانية مبالغ طائلة في التصدي لمثل هذه التجارة وصلت في العام الماضي إلى 600 مليون دولار.
ولكن كلّ ذلك لا يمنع من أن تُحدث طهران داخل الأراضي الأفغانية مكامن للنفوذ تستطيع به أن تكون محل اهتمام إقليمي وغربي، وخصوصا إذا تعلّق ذلك بالقضايا الأمنية والسياسية.
ضمن هذا الخط المستقيم أيضا توجد باكستان. وهي دولة إسلامية نووية لكنها غير مستقرة لا أمنيا ولا سياسيا، ولديها حدود رخوة تلعب في جغرافيتها أحزاب مسلحة تنتمي إلى الأقلية البلوشية، أخذت مؤخرا في شنّ حملات عسكرية على إقليم سيستان بلوشستان الإيراني، ومن ثم الاختباء مرة أخرى داخل الأراضي الباكستانية كما تفعل ذلك جماعة عبدالمالك ريغي.
في باكستان يوجد هناك 28 مليون شيعي يستحوذون على مناشط تجارية مهمّة أبرزها الذهب والأحجار الثمينة وجزء مهم من الزراعة. وهم متنفّذون في أبرز الأحزاب الباكستانية وهو حزب الشعب الباكستاني الذي يُمثّل الوعاء التاريخي لعائلة بوتو.
كذلك فإن باكستان ستكون معبرا رئيسيا لأنبوب السلام الذي سيبدأ من الأراضي الإيرانية على مساحة وقدرها 1100 كيلومتر. ثم يواصل طريقه على الأراضي الباكستانية بطول 1000 كيلومتر، ليصل إلى الأراضي الهندية التي سيتمدّد عليها بطول 600 كيلومتر.
أنبوب السلام هذا سيُزوّد باكستان بـ 60 مليون متر مكعب من الغاز. وسيُزوّد الهند بـ 90 مليون متر مكعب من الغاز يوميا. لذلك يصبح الأمن في باكستان جزءا مهما من الأمن القومي الإيراني. وتسعى طهران منذ زمن لترتيب ما أمكن من الهدوء على الجبهة الهندية الباكستانية للبدء بتصدير الغاز الإيراني للدولتين.
كما أن هذا المشروع سيصل الإيرانيين بالصين كأهم دولة آسيوية والكوريتين وفيتنام والنمور الآسيوية والشرق الأدني حيث اليابان. وسيكسر حاجز العزلة الاقتصادية التي تسعى الولايات المتحدة لفرضها على إيران.
وبالتالي فإن اهتمام الإيرانيين بهذا الخط، هو يمزج ما بين درء الأخطار الناتجة عن طبيعة البلدان الواقعة فيه، وما بين تحويل (أو استثمار) ما بقي من مصالح مشتركة يُمكن أن تعوّض عن سخط الجغرافيا.
الثاني: خطٌ مستقيم يخرج من المركز صوب الشمال الشرقي وخط آخر من المركز إلى الشمال الغربي. ضمن هذا الحوض الجغرافي تكمن أهم علاقات إيران غير المحسومة. ففي وسط الحوض يقع بحر قزوين الذي يعتبر أكبر مُسطّح مائي مغلق في العالم.
تحيط بالبحر بالإضافة إلى إيران كل من روسيا (شمال غرب) وكازاخستان (شمال شرق)، وتركمانستان (شرق)، وأذربيحان (غرب). هذا البحر يضم أكثر من 200 مليار برميل و 170 ترليون قدم مُكعب من الغاز الطبيعي كمخزون استراتيجي من الطاقة.
المشكلة القانونية تكمن في الخلاف بشأن آلية تقاسم الحدود. فالتيار الذي تقوده آذربيجان يُصرّ على اتّباع قواعد خطوط العرض الجغرافية، لتحصل إيران على 14 في المئة وكازاخستان 29 في المئة، وروسيا 19 في المئة وآذربيجان 21 في المئة وتركمانستان 17 في المئة.
أما التيار الذي تقوده إيران فيُصرّ على تقاسم وفق الحصص المتكافئة، فتأخذ كل دولة نسبة 20 في المئة. وتُبرّر طهران ذلك لأنها ستكون الوحيدة القادرة على إيصال طاقة بحر قزوين إلى المياه الدافئة في الخليج والجزء الشمالي الغربي من المحيط الهندي ومن ثم الاتصال بالأسواق الدولية عبر البحار.
ضمن هذا الامتياز للبحر المغلق تستطيع طهران النفاذ إلى البحر الأبيض المتوسّط عبر قناة الفولجا المؤدية للبحر الأسود الذي بدوره يرتبط بالمتوسط من خلال مضيق البُوسفور وبحر مرمرة ومضيق الدردنيل، وهو ما يُوفّر لها بديلا أفضل من قناة السويس.
ضمن هذا الحوض أيضا ترى إيران أن هذه الدول التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي هي تُشكّل في هذه المرحلة جدار صد أمام الدب الروسي. فعلاقات طهران بموسكو في أبهى صور ازدهارها اليوم لكنها وفي الوقت نفسه تحتاج إلى موانع جغرافية أمام هذا الحليف الطموح واستخدامها في التناقضات الدولية وتباين المصالح بين الروس وبعض دول آسيا الوسطى، وأيضا في التخفيف من أي تداعيات قد تحصل عند خلاف إيراني روسي في المستقبل.
في الوقت نفسه ترى طهران أن الولايات المتحدة كانت قد أقامت لها موطأ قدم في هذه المنطقة عندما ألغت الحظر على تصدير السلاح إلى طاجيكستان، واندفعت نحو آذربيجان وأوزبكستان لخلق توازن جديد في المنطقة، ومد حلف شمال الأطلسي إليها لفصلها من الشمال إلى الشمال الشرقي عن كل من روسيا والصين.
وهي قد تنفّست الصعداء عندما وقّع رئيس روسيا البيضاء ألكسندر لوكاشينكو أخيرا اتفاقا مع موسكو يسمح للأخيرة بأن تضع لها على أراضيه دفاعات مضادة للصواريخ.
واطمأنت أكثر عندما سحبت قرغيزستان امتياز الجيش الأميركي من استخدام قاعدة مانس الجوية، الأمر الذي عقّد من العمل اللوجستي للجيش الأميركي في أفغانستان، وأعطى الإيرانيين ضمانات أكثر أمنا بينها وبين الحدود الأفغانية.
وللعلم فإن جغرافيا الخط الشمالي هي التي وفّرت لطهران معظم محاكاتها مع السوق السوداء، واستقدام المُعدّات والتكنولوجيا النووية. فهذه الحدود كانت غير منضبطة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فكان جزء بمثابة الفرصة للإيرانيين للحصول على تكنولوجيا السلاح.
في النهاية يتّضح أن جغرافيا إيران تحمل وجهي المعادلة. فهي تُشكّل عبئا ومكسبا في آن. وما بين والعبء والمكسب تتأرجح السياسات والمصالح وفنّ إدارتها. وهو ما اتّضح جيدا في طريقة التحكّم الإيرانية في الجغرافيا وتحويلها إلى أوراق يتمّ التفاوض عليها.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2502 - الأحد 12 يوليو 2009م الموافق 19 رجب 1430هـ