إعادة قراءة التصريحات الإعلامية التي تصدر عن مواقع السلطة السياسية في إيران تكشف بوضوح تلك الفوضى التي تتخبط فيها القيادة في الوقت الضائع بين الانتخابات الرئاسية وموعد تسلم وتسليم الحقبة الثانية لرئيس الأمر الواقع محمود أحمدي نجاد.
التصريحات الإعلامية متعارضة حتى التناقض، وهي في مجموعها تشير إلى خلل في التعامل مع الوقائع والحقائق. فالسياسة في النهاية ليست بلاغات وخطابات بقدر ما هي مصالح وإدارة وإدراك لموازين القوى والمساحة المحدودة للمناورة والقدرة على التحكم والسيطرة وعدم المبالغة في الخوف أو التخويف ودراسة المتغيرات والمتحولات حتى لا تتضخم الأخطاء والانحرافات. السياسة لغة ولكنها لغة تخضع للعقل ومدى قدرته على الاستيعاب وليست مجرد كلمات فارغة أو مفرغة من الوقائع والحقائق.
التصريحات الإعلامية التي صدرت عن مواقع متخالفة في السلطة السياسية بعد انكشاف لعبة تدوير نتائج الانتخابات الرئاسية أظهرت مقدار الخلل في رؤية عناصر الضعف والقوة وأسلوب التعامل مع الداخل الإيراني والمحيط الخارجي.
من جانب الضعف اتجهت التصريحات إلى تحميل الخارج مسئولية ما حصل وما يحدث. وأخذت وسائل الإعلام تظهر مدى ضعف إيران وهزالها وعدم قدرتها على تحمل رأي آخر أو وجهة نظر مخالفة للمألوف فأقدمت أجهزة وزارة الداخلية على التشويش على الإذاعات والمحطات وبدأت بمصادرة الهواتف الجوالة وأجهزة الكومبيوتر وإقفال مواقع الإنترنت خوفا من «مؤامرة كبرى» وتخوفا من تسرب معلومات إلى الشارع الغاضب. واتجهت بعض تلك التصريحات إلى المبالغة في ضعف إيران بالإعلان عن وجود مخطط يريد تقويض الجمهورية وإسقاط الدولة من خلال الإمساك بخناقها من الداخل. ووصلت تلك المبالغة في تصوير الضعف إلى درجة مخجلة حين شنت الأجهزة حملة اعتقالات ضد صحافيين ومراسلين يعملون في طهران بعلم السلطة وبترخيص من وزير الداخلية. وتجمعت هذه التصرفات لتشكل صورة غير مريحة عن دولة إقليمية قوية في محيطها ولا غنى عن دورها في سياق ترتيب العلاقات المتوازنة في المنطقة.
من جانب القوة اتجه رئيس الأمر الواقع إلى تجديد إطلاق صواريخه البخارية وقنابله الصوتية وكرر ما كان يقوله سابقا من دون انتباه لدروس التجربة وتلك البهدلة التي أنتجتها معركة الانتخابات الرئاسية. فالرئيس أحمدي نجاد هدد في خطاب «طاووسي» دول الغرب بنهايتها الوشيكة، مشيرا إلى أن إيران تمسك بخناقها وهي قادرة على قطع أنفاسها حين تأخذ القرار وتأتي اللحظة.
من يمسك بخناق الآخر. هل إيران قوية فعلا إلى درجة أنها أصبحت تتحكم بمفاصل القرار الدولي؟ إذا كانت كذلك لماذا إذا كل هذا الخوف من صحافي يوناني أو كندي أو موظفة في معهد أو أستاذة جامعية أو مراهق يحمل هاتفه النقال؟
المبالغة في القوة تشبه كثيرا في تفاعلاتها السياسية والنفسية المبالغة في الضعف. فإيران ليست ضعيفة إلى درجة تخاف على وجودها من محطة إعلامية أو فضائية. كذلك ليست إيران قوية إلى درجة أنها تمسك بخناق الدول الكبرى وهي على عتبة الضغط عليها لتلفظ أنفاسها.
الوجهتان غير دقيقتين. فالغرب من جانبه لا يمسك بخناق إيران من الداخل ولا يستطيع إسقاطها بمثل تلك السهولة التي تبالغ أجهزة الأمن والداخلية في تصويرها للرأي العام. وإيران من جانبها لا تمسك بخناق الغرب ولا تستطيع أيضا إسقاطه بمثل تلك السذاجة التي يطرحها أحمدي نجاد في تصريحاته «العنترية».
المبالغة في السياسة مسألة خطيرة لأنها تعتمد على التضليل والخداع واختراع مؤامرات واختلاق أزمات والانزلاق من خطأ إلى خطأ وصولا إلى التفكك والانهيار. وبهذا المعنى السياسي لا قيمة فعلية للمبالغة في الضعف وملاحقة صحافيين ومراسلين وأساتذه جامعيين واتهامهم بالتآمر ومحاولة الانقلاب على نظام الحكم. كذلك لا فائدة ميدانية للمبالغة في القوة وادعاء قدرات تحتاج إلى براهين والمباهاة بالذات المتضخمة والتوهم بأن طهران تمسك بخناق الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وهي قادرة على إذلالهم وجرجرتهم ساعة تشاء.
عدم التواضع وادعاء العظمة والتفاخر بالقوة كلها عناصر لا تعطي ثقة وخصوصا أنها تترافق مع سياق آخر يبالغ بالضعف والخوف والتوتر والقلق من وجود مؤامرة خارجية تريد تقويض الجمهورية من الداخل.
إيران ليست ضعيفة. فهي دولة إقليمية مركزية لها موقعها الجغرافي وتاريخها ومكانها المحترم في المحيط العربي والجوار الإسلامي وهي جزء من المظلة الأمنية وما تتطلبه المصالح المشتركة من علاقات متبادلة ومتوازنة. وإيران ليست قوية إلى درجة عظمى وأصبحت في موقع القادر على خنق الغرب والدول الكبرى في الوقت الضائع. إيران نجحت في تحقيق إنجازات خلال فترة السنوات العشرين الأخيرة، واستطاعت أن تتقدم باتجاه قطع خطوات نوعية في القطاعين التقني والعسكري. والحكمة تقتضي التنبه لحماية ما تحقق. ولكن أين إيران من الصين؟ وأين هي من الهند أو البرازيل؟ اقتصاد إيران المدني أضعف من كوريا الجنوبية أو تايوان وموقعها التجاري الدولي في قائمة الدول يأتي بعد ماليزيا. فالادعاءات في عالم الأرقام والإحصاءات لا قيمة ترتجى منها ومضارها أكثر من منافعها لأنها تسقط السلطة السياسية في مبالغات الضعف أو القوة.
إيران قوية ولكنها ليست أقوى من دول محيطها الجغرافي- التاريخي. والمنطقة بحاجة إلى إيران قوية ومصلحة إيران أن تعيش في جوار قوي. فطهران بحاجة إلى المنطقة والمنطقة بحاجة إلى إيران. وهذه هي المعادلة التي يجب أن تبحث عنها القيادة السياسية في طهران. معادلة تقوم على سياسة التواضع والإقلاع عن خطاب «المحافظين الجدد». فالخطاب الذي يعتمد سياسة المبالغة مصيره الفشل والإحباط والتحول إلى مهزلة كما حصل مع جورج بوش في السنتين الأخيرتين من عهده.
إيران الآن تمر في أزمة تتحمل مسئوليتها السلطة وخطابها السياسي الذي ساهم في عزلها وتحطيم جسور الثقة مع المحيط وأظهرها على المسرح في موقعين غير صحيحين: الضعف في جانب والقوة في جانب آخر.
الاعتدال بين المبالغتين قوة. فإيران ليست ضعيفة يمسك بخناقها الغرب، وهي ليست قوية تمسك بقبضتها خناق الغرب. هناك مبالغة في الإطارين وعلى القيادة الإيرانية إعادة القراءة وتصحيح المعادلة. والتواضع في تقدير الحجم والقدرة والموقع والدور ليس عيبا في عالم الصوت والصورة والاتصالات والمعلومات.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2502 - الأحد 12 يوليو 2009م الموافق 19 رجب 1430هـ