لم تكن دعوة الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، العام 2006 الشبيبة الأميركية لتعلم اللغة العربية بالجملة سوى الرأس الصاعد والمرئي لاندفاع غربي، بل وكوني، لدراسة هذه اللغة وللإلمام بطرائق التحدث بها والتعاطي مع متكلميها وخصوصا في المشرق العربي الإسلامي.
لذلك يتوجه النشء والشبيبة في الولايات المتحدة إلى أنواع المعاهد والمراكز اللغوية، التي تنتشر هناك كالفطر، لاكتساب هذه اللغة والتمكن من أسرار ألفاظها وتركيباتها النحوية من أجل خدمة مصالح فردية وقومية في ذات الوقت. وترد هذه الظاهرة إلى أن لغة الضاد إنما صارت نوع من «رأس المال»، تأهيلا فرديا مهما وشرطا مسبقا لكل من يرنو إلى تطوير قدراته الاقتصادية والثقافية والسياسية، وخصوصا بعد بداية عصر البترول في منطقة الخليج، الأمر الذي برر شيوع ظاهرة الاندفاع والوقوف في طوابير بالملايين من أجل اكتساب هذه اللغة بوصفها «جواز سفر» إلى دول المنطقة، حيث تنتشي أسواق العمالة وفرص الإثراء وجمع المال المتبقي من «فضائل» وفضلات النفط العربي وخطط التنمية الخليجية الكبيرة.
الملايين من الصينيين والهنود وبقية سكان جنوب شرقي آسيا، سوية مع ملايين أخرى من سكان أوروبا وبقية أنحاء العالم يتزاحمون اليوم وراء كل من «ينطق» اللغة العربية على أمل الحصول على شيء منها.
أما دعوة الرئيس الأميركي السابق لتعلم اللغة العربية فهي لا تختلف كثيرا في دوافعها وإرهاصاتها المصلحية عن دوافع التايلنديين والصينيين والهنود وسواهم. بيد أن الفرق كبير من ناحية أخرى، ذلك أن يدفع رئيس أغنى وأقوى دولة في العالم شبيبة بلاده لتعلم العربية أمر يتجاوز التشبث الفردي والمحاولات الشخصية؛ لأنه يعني، من ناحية أخرى، نوعا من «الاستثمار» والتخصيصات المالية المهولة لمشروع تعليم الأميركان اللغة العربية.
هذا هو الفرق بكل دقة. فإشارة من الرئيس ومن هذا النوع تعني الكثير: فهي ربما تعني فتح أبواب وفرص العمل لأعداد غفيرة من العرب الأميركان الذين لم ينسوا العربية كي يعملوا في عشرات وربما مئات مراكز ومعاهد تدريس العربية بين البحيرات العظمى وجنوب فلوريدا وكاليفورنيا. وبذلك تغدو هذه اللغة نوعا من التأهيل الضروري الذي يساعد على توظيف متكلمي هذه اللغة في دوائر مهمة لا تبتعد كثيرا في ارتباطاتها عن وزارات مثل الدفاع والخارجية، وعن مراكز الدراسات العربية ومعاهد دراسات الشرق الأوسط والشرق الأدنى والإسلاميات، وهي مراكز قد تحولت إلى ظاهرة لابد من رصدها واستقصائها في الجامعات والأكاديميات الأميركية بسبب أهمية العالم العربي الاستراتيجية.
إن واشنطن تدرك جيدا أن الأميركان القادرون على التحدث بالعربية إنما يمثلون شرطا مسبقا لآمال ولمشاريع الولايات المتحدة في بقعة تشكل مركز العالم، جغرافيا واقتصاديا، الخليج العربي والشرق الأوسط. هذه المشروعات أنما تجسد مصالح كبرى بحساب الحجوم والآفاق، ذلك أن أميركا تحتاج إلى المئات من الدبلوماسيين الذين يتحدثون العربية للتعيين في سفاراتها وممثلياتها عبر عواصم ومدن العالم العربي الكثيرة. كما أنها بحاجة أكثر فورية إلى المئات من ضباط المخابرات والاتصالات والمعلومات القادرين على فهم العربية كوسيلة اتصال عبر القنوات السرية والمعلنة من أجل الاطلاع «على كل شيء».
لذلك فإن هذه الحاجة تتنامى حتى داخل المجتمع الأميركي بفضل «قانون الوطنية» Patriot من أجل الإنصات والاطلاع وجمع المعلومات داخل المجتمع الأميركي وخارجه. ولأن الولايات المتحدة تقود مشروعا قويا لتعزيز قيادتها الثقافية والإعلامية في عالم أحادي القطبية، فإنها ستكون بحاجة ماسة إلى القراء والمذيعين والمتابعين من الأميركيين المتمكنين من أسرار هذه اللغة الجميلة.
وليس أدل على هذا انتشار المراكز الثقافية الأميركية والجامعات الأميركية والقنوات الفضائية الأميركية عبر العالم العربي الذي يمتص سوقه الثقافي بنهم كل طارئ، وخصوصا إذا ما كان قادما من لاعب رئيس في سياسات الشرق الأوسط كواشنطن. ولن يقف الموضوع عند هذا الحد فالضباط الأميركان الموجودون في العراق وبعض دول الشرق الأوسط بحاجة للتكلم بالعربية نظرا إلى اتصالهم وتعاطيهم المباشر بالعرب هنا وهناك. حتى بعض الأكاديميين الأميركان من باحثين وكتاب يريدون إتقان العربية لقراءة تاريخ العرب وأحوالهم المعاصرة وتراثهم الثقافي من أجل خدمة مصالح أميركية.
وقد أخذت هذه الجهود والأموال تعطي أكلها من الآن، ليس فقط في انتشار الفضائيات الأميركية (بالعربية)، ولكن كذلك من خلال أعداد المتحدثين الرسميين والعسكريين الأميركان الذين يظهرون على الشاشات بلسان عربي ملكون، لا يشبه لغة بني أسد ولا لغة قريش أو تميم، على الرغم من إيصاله الرسالة المطلوبة للمستمعين.
بيد أن المتوقع من التدافع على تعلم العربية في الولايات المتحدة سيكون أكبر بكثير بسبب حجم الاستثمار في هذا الحقل. فلا تستغرب، أخي العربي، أن تصادف شابة أو شاب أميركي يتحدث العربية بطلاقة هنا أو في أي مكان من العالم!
وعودة إلى علم اللغة ودراسة النحو فإنه، كما يبدو، يعود في تاريخه الأولي إلى إسهامات عربية فريدة بسبب ظهور الإسلام واعتناقه من قبل الأمم غير العربية. فقد شهد العصر الوسيط انتشار اللغة العربية عبر العالم القديم، وخاصة الإسلامي، لأسباب دينية وعقائدية، ثقافية وسياسية، وهي أسباب مدعومة بالتيقن من أهمية العربية بوصفها لغة القرآن الكريم ولغة الرسالة ولغة أهل الجنة، إضافة إلى أنها وسيلة العبادات.
وإذا كان سقوط بغداد على أيدي هولاكو خان العام 1258م قد أذن بتراجع شيوع اللغة العربية وتقدم لغات شرقية أخرى، كالفارسية والهندية والتركية، لتحل محلها في الأبيات المهمة، فإن العصر المظلم المستطيل الذي تبع قد راكم المزيد من الأخطاء والمفاهيم غير الصحيحة عن هذه اللغة: فكانت الأفكار الشائعة بأن العربية لغة صعبة ويستحيل تعلمها، زيادة على أنها غير مهمة بقدر تعلق الأمر بلغات «العصر»، قد انتشت وسادت. وهكذا جاء عصر التتريك والتفريس والفرنسة والأنكلزة عبر العصر الذهبي للهيمنة الأجنبية الذي تلاه العصر الذهبي للكولونياليات الأوروبية. لهذا صار حتى بعض العرب يعكسون ثقافتهم ومعارفهم باستعمال الألفاظ الفرنسية والإنجليزية كنوع من أنواع استعراض المعرفة والتباهي بها.
أما اليوم فإن الأمر سينقلب رأسا على عقب بطريقة أو بأخرى، فالأميركان والفرنسيون والإنجليز يستعملون الألفاظ العربية في كلامهم أو كتاباتهم لعكس اطلاعهم على عالم هذه اللغة المشحون والزاخر، لذا فإن ألفاظا عربية من نوع «انتفاضة» Intifadha أو «مجاهد» Mujahid أو «آية الله» Ayatullah وسواها ألفاظ بالعشرات أخذت تزحف إلى اللغات الأوروبية عن طريق الاستعارة loan words لتغدو علامة على إطلاع مستعمليها على ثقافة ولغة أهم بقاع العالم على الإطلاق، المشرق العربي الإسلامي.
لقد تحولت اللغة العربية اليوم إلى أداة عملية واستراتيجية، وخصوصا في التعاطي مع شئوننا، إضافة إلى أنها قد صارت «تقليعة» يتشبث بها الغربيون من خلال تزويق لغتهم بما ينطوي على المعرفة باللغة العربية.
وهكذا تدور الدوائر وتعمل عجلة التاريخ عبر أنماط تكرار لتعيد لهذه اللغة الحية والحيوية ما تستحق من أهمية واهتمام.
* أستاذ محاضر في جامعة ولاية أريزونا، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2502 - الأحد 12 يوليو 2009م الموافق 19 رجب 1430هـ