عندما بدأت كتابة هذه الفصول وأنا انظر لظاهرة البطالة أول ما تبادر إلى ذهني سؤال أثار اهتمامي كثيرا حتى أرهقني سهرا وأتعبني فكرا لأجد إليه صورة منطقية ذات دلالات وأبعاد علمية، لماذا يتمرد الناس؟ وما هي مسببات تمردهم؟ على الرغم من صعوبة الجزم بنتاج الظواهر الاجتماعية ونحن نواجه محك عدم الاستقرار السياسي والأمني، بخلاف الزمان والمكان ومن مجتمع إلى آخر ومن مكونة ثقافية إلى أخرى، إلا أن هنالك تنظيرات مهمة ذات بعد معرفي وبصري سيسيولوجي تحاكي تاريخ البشرية باختلاف تجاربها ودرجاتها، وعلى كثير من أوجه المجتمع، إلا أنه قد يكون التمرد جزئيا متصاعدا إلى ثورات كبرى، ويكمن سبب اقتصادي أو ثقافي متعلق بالبناء الاقتصادي في المجتمع.
ومن أهم المسببات العميقة للإضراب السياسي، هي تلك المتغيرات أو العوامل التي تجعل العملية في تسارع لدرجة الانفجار.
فالأسباب العميقة للإضراب قد تكون موجودة في كل المجتمعات التاريخية والمعاصرة، فليس هناك مجتمعات كاملة أو مثالية، منذ أن أخرج آدم من الجنة وحتى يعود نسله إليها، ولكن هناك معجلات أو مسرعات تحت الأعماق، تجعل من الأسباب الكامنة أسبابا فاعلة على السطح.
فيرى «توماس غرين» في كتابة الحركات الثورية المقارنة بحثا عن نظرية العدالة الاجتماعية، أن هناك عدة معجلات أو مسرعات تفاقم عدم الاستقرار السياسي وهي الهزيمة العسكرية، الأزمة الاقتصادية، العنف الحكومي، تمزق النخب، الإصلاح السياسي.(1)
ونحن هنا يهمنا أن نصوغ ما يلامس ظاهرة البطالة وتأثيرها ومن يتأثر بها، وكلما ترافق أكثر من محك من هذه المعجلات، كان الأثر بليغا وأكثر تعقيدا واشتباكا، فالأزمة الاقتصادية هي جوهرها وعمودها، فأثرها في تمرد الناس حاسم في الوقت نفسه.
فالثورة الفرنسية الكبرى كانت مسبوقة مباشرة لموسم حصاد سيئ وبطالة متفاقمة، وأسعار عالية، وخاصة أسعار الخبز وأجور منخفضة، وإنفاق باذخ من ناحية أخرى في القطاعات العسكرية والبلاط الملكي للويس السادس عشر. وكذلك بقية الإضراب الشمولية المتطرفة حتى في الولايات المتحدة، شهدت ازدهارها الأعظم في سنوات الكساد الكبير «1929 - 1932» حيث ارتفعت البطالة في ألمانيا من مليونين إلى ستة ملايين خلال سنوات ثلاث فقط.
كما لمصر نموذج في انتفاضة الخبز العام 1977م، كانت نتيجة مباشرة لرفع الدعم عن الخبز وارتفاع أسعاره.(2)
فالإنسان غالبا ما يتجه نحو الفعل المباشر نتيجة الظروف الاقتصادية المباشرة، أكثر من نتيجة الدعوات الإيديولوجية للعدالة الاجتماعية ولكن، ما إن يقوم بالاحتجاج على نقص الغذاء والبطالة أو الأسعار المرتفعة حتى يصبح أكثر عرضة للتأثر بالإيديولوجية والتنظيم الثوري الراديكالي.
فالعنف ليس قاصرا على حركات التمرد والعصيان المسلحة، بل إن الأعنف في كل مجال هو الدولة نفسها، إذا ما سخرت أدواتها لممارسة العنف ولكن الفرق هو أن عنف الدولة عنف شرعي، أي أن المواطن يرى حق الدولة في استخدامه على عكس مصادر العنف الأخرى. ولكن أن تملك الدولة الحق في استخدام العنف لا يعني أن المسألة مطلقة أو مفتوحة الأطراف. فالدولة تستخدم العنف أو يفترض أن تستخدم العنف، لضبط المجتمع وتنظيمه، ولكن عندما يتجاوز هذا العنف ويتصاعد بصورة مختلفة يختلف حسب الظروف والمتغيرات، يصبح عنفا غير شرعي وتتساوى الدولة في ذلك مع بقية مصادر العنف الأخرى، ويصبح المنافس الأقوى في ممارسة العنف، هو المالك للشرعية السياسية في النهاية وفي الوقت نفسه، عندما يقل عنف الدولة عند درجة معينة.
تعتمد أيضا على الظروف الاجتماعية، فإن الدولة تفقد شرعيتها بالقدر السابق نفسه، إذ تبدو في هذه الحالة، غير قادرة ولا مؤهلة لضبط المجتمع وتنظيمه، وهذه الدرجة التي تحدد المقدار المناسب من عنف الدولة، يجب أن تؤخذ في الحسبان عند اتخاذ القرار السياسي، من حيث محاولة تحديدها بأكثر قدر من الدقة، ووقف تغيير الظروف الاجتماعية الأخرى، لأن شرعية الدولة نفسها تعتمد في النهاية على مثل هذا بالتحديد، فالعنف الناقص مثله مثل العنف الزائد، كلاهما يؤدي ضمن عوامل أخرى إلى الاضطراب وعدم الاستقرار.(3)
والأمر الآخر الذي يثير أطروحات متعددة وملونة، كيف يكون الإصلاح السياسي وغيره من المعجلات إلى عدم الاستقرار مع أنه هو المطلوب والمرفوع شعارا من قبل فئات مختلفة بعضها معارض، والبعض الآخر يود الإصلاح من الداخل...، والجواب بكل بساطة هو أن التوقيت هو المهم هنا وليس مجرد العملية.
فإصلاحات ميخائيل غورباتشوف ساعدت في النهاية على سقوط الاتحاد السوفيتي ليس لأن الإصلاح في ذاته سيئ بقدر ما أن الأوان كان قد فات لتجديد دماء النظام وحل المشكلات الجديدة والمتفاقمة أهمها أزمة البطالة، ولكن غورباتشوف كان يلعب في الوقت بدل الضائع في مباراة حاسمة في مصير الاتحاد السوفيتي ومجتمعاته إن صح التعبير، وهنا يكمن الخلل وقبل ذلك كانت محاولات القيصر نيكولا الثاني إصلاح النظام القيصري خلال فترات الحرب العالمية الأولى ولكن لم يجد فتيلا إذ فات الأوان على ذلك. فلو أن القيصر واصل إصلاحاته التي استهلها في أعقاب الهزيمة الروسية في الحرب الروسية اليابانية وثوره 1905، فربما ما كانت القيصرية نفسها لتنهار في مجتمع متدين وكان يرى القيصر ظل الله يحل أرضه، ولما كانت الأحوال قد أوصلت إلى ثورة فبراير/ شباط وأكتوبر/ تشرين الأول العام 1917، فمثلما أن على الدولة أن تحدد بدقة تلك النقطة التي تحدد مقدار العنف الواجب ممارسته، أو عدم ممارسته، فعلينا أيضا أن نحدد بدقة النقطة التي يتوجب عندها الإصلاح، وإلا فإنه لن يكون مجديا بعد ذلك. (4)
من الأسس المنطقية لبناء دولة قائمة على العدالة، يجب أن ننظر بعين ماكروسكوبية وأكثر اتساعا في جعل الدولة برغماتية وعاقلة في تأسيسها، مما يتطلب أمنا مدنيا وسياسيا يستكين فيه المتغيرات ويتفاعل معا، وهذا حقها وحق رعاياها عليها.
فالطريق إلى مثل الهدف، أي الأمن والاستقرار، يتطلب من الدولة والمجتمع ان تنظر إلى الاستقرار ومن ثم الأمن وعلى العكس تماما، فالكثير من الدول وخاصة دول العالم النامية تنظر إلى الأمن، ومن ثم الاستقرار من زاوية ميكروسكوبية وضيقة جدا بحيث يتحول هذا الهدف إلى قضية، بوليسية خالصة مع ما يرافق العقل البوليسي من الشك والارتياب في كل شاردة ووارده ويجعل علاقة الحاكم بالمحكوم دائما في حالة توتر وعدم ثقة .(5)
فالحاكم، في مثل هذه الحالة يعتقد دائما انه مستهدف، وأنه ثمة مؤامرة مستمرة تحاك ضده، فيصل إلى درجة عدم الثقة بكل ما يقال أو يفعل حتى لو كان ذلك من أجل مصلحة الحاكم ذاته. والمحكوم كذلك، في مثل هذه الحالة يعتقد ان الحاكم غير معني بأمره، وأنه، أي المحكوم، ليس إلا مأمورا لا علاقة له بأي أمر، وفي مثل هذه الحالة، يتحول قطبا المجتمع السياسي، الحاكم والمحكوم، إلى نقطتي تنافر بدلا من ان يكون التجاذب هو القاعدة... ويكون الأثر مدمرا بالنسبة إلى المجتمع ككل، بمن فيهم الحاكم والمحكوم ذاتهما.(6)
فالأمن الحقيقي لأية دولة وأي مجتمع، لا يبدأ من الزاوية البوليسية بقدر ما هو مسألة اجتماعية في المقام الأول قبل تكونها سياسيا، فالمجتمع المستقر هو بكل بساطة دعامة الاستقرار السياسي وأمن الدولة، وانهيار الدول يبدأ من انهيار مجتمعاتها (7)، مما يطرح علينا تساؤلات عديدة وهي كيف تصل المجتمعات إلى حالة الاستقرار والأمن؟
أهم دعامة استقرار المجتمع المنظم هي الإحساس الفردي والجماعي بالانتماء، وهذا الإحساس بالانتماء لا يتحقق إلا عندما يشعر الأفراد والجماعات (بحقوق المواطنة)، بأن هناك علاقة وجدانية تربطهم بالمجتمع والدولة، وهذه العلاقة الوجدانية، لا تتجدد إلا عندما يشعر كل هؤلاء بأن لهم حقوقا بمثل ما عليهم من واجبات. كما عرفت دائرة المعارف البريطانية «المواطنة بأنها علاقة بين فرد دولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة»(8) وتؤكد على أن «المواطنة تدل ضمنا على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات»(9) وعلى الرغم من أن الجنسية غالبا ما تكون مرادفة للمواطنة، حيث تتضمن علاقة بين الفرد والدولة، إلا أنها تعني امتيازات أخرى ضامنة.(10)
أما عندما تكون الواجبات هي المذكر بها دائما، دونما أن يكون هناك حقوق في المقابل فإن الأفراد والجماعات يفقدون الرابطة الوجدانية بالدول، ومن ثم انحسار الإحساس بالانتماء، يكون الضياع هو النتيجة وأهمها (أزمة البطالة) وعدم تدخل الدولة في إرساء قواعد اقتصادية في صياغتها للحلول.
فالعاطلون الذين يبحثون عن عمل مناسب لمهاراتهم وقدراتهم دون كسل وملل ودون إصغاء الدول لهم وعدم التدخل في حل أزمتهم فلا نستغرب من اغترابهم وعدم إحساسهم اتجاه الوطن.
وقس على ذلك كل دور اجتماعي صغيرا كان أم كبيرا، فالنتيجة واضحة وواحدة، أن الآثار الاجتماعية السيئة لعدم الانتماء والإحساس به، هي آثار معروفة وملموسة، غير أن ما هو أخطر من تلك الآثار، برغم سلبياتها ومن ثم خطرها الفادح، هو الآثار السياسية، لعدم لإحساس بالانتماء، وهي آثار تكون سريعة الخطر على المجتمع، والسلطة معا. فالإحساس بعدم الانتماء، يدفع أفرادا وجماعات إلى الخروج لا على السلطات السياسية فحسب، ولكن على المجتمع ككل، وتكون كارثة. وفي الكثير من دول العالم الثالث، يكون رد فعل السلطة تجاه ذلك هو العنف، وفق نمط التفكير «عدم الثقة» ومثل هذا العنف أي عنف السلطة يكون ناجحا عندما تكون درجة «الخروج» منخفضة، وعندما يكون عدم الإحساس بالانتماء حالة من الشذوذ.
أما عندما يكون الإحساس بعدم الانتماء عاما وشاملا بنسبة كثيرة، يكون «الخروج» عند درجة عالية بالتالي، فإن عنف السلطة سوف يؤدي إلى عنف مضاد يؤدي بدوره إلى مزيد من عنف السلطة فالعنف المضاد، وهكذا في دائرة عنف رهيبة لا تنتهي بمعنى أن السلطة في محاولتها فرض الأمن في هذه الحالة تنتهي، بالقضاء عليه جملة وتفصيلا. فعنف السلطة سلاح ذو حدين، إذ قد يكون ضارا ونافعا في الوقت نفسه والظرف الممارس فيه هذا العنف هو المحدود لدرجة النفع والضرر، فعنف السلطة وسيلة من وسائل فرض الأمن والاستقرار ولا خلاف في ذلك، ولكن المشكلة تبرز عندما يتحول هذا العنف إلى أن يصير الوسيلة الوحيدة، وليس وسيلة ضمن وسائل الأخرى، وقد يكون عنف السلطة مقبولا اجتماعيا أي شرعيا وفق أبسط تعريفا ت الشرعية، عندما تكون العلاقة من السلطة والمجتمع علاقة سليمة، مؤدلجة بمفهوم المواطنة الحقيقية والذي يتشكل من خلال ميزان الحقوق والواجبات وهو اللب الجوهر.
إن ميزان الحقوق والواجبات الذي يتحقق من مبادئ المواطنة الحقيقية الواحدة دون اعتبارات سياسية وعرقية ومذهبية وحزبية والمساواة السياسية والقانونية صعبة المنال في دول العالم وخصوصا (العالم الثالث) على رغم أن غالبية هذه الدول تنص وتسن دساتيرها وفق مبادئ المساواة الاجتماعية بقدر لا بأس به تحت غطاء شرعية المواطنة، وتدعم المساواة الاجتماعية والسياسية في إعلامها القومي المزيف ولكن في الحقيقة لا تنفذ كل الدول مثل هذا النص في واقع الأمر، وعدم التنفيذ لمبادئ المساواة والعدالة هو مقدمة كل المصاعب والمشاكل التي تأتي في عباءة وغلاف الإحساس بعدم الانتماء نتيجة لعدم الإحساس بالعدالة، ما يسهل نشوب الاغتراب والعنف السياسي.
يقول جان جاك روسو إنه ليس الظلم هو الذي يدفع الأفراد إلى التمرد ولكن الإحساس به وبطبيعة الحال، فإن الإحساس بالظلم لا يتجسد على نطاق واسع إلا عندما يصبح الظلم ظاهرة واضحة لكل عين.
ليس هناك في الوجود ما هو أشد وطأة على النفس من الإحساس بالغبن وعدم العدالة والإحساس بعدم العدل قد يقود إلى سلوكيات وأفعال عنفوانية، ولكنها في النهاية تجتمع عند نتيجة واحدة، وهي دمار المجتمع بما يحتويه من حاكم ومحكوم ومؤسسات وعلاقات. ومن منظور أمني بحت من الممكن أن يعمم في هذا المجال في القول إن مفتاح الأمن من عدمه هو في معرفة درجة الإحساس بعدم العدل، ومن ثم الانتماء، في مجمع عند نقطة زمن معينه، ومثل هذا التعميم يحمل السلطة السياسية في مجتمع مسئولية كبيرة، وهي ديمومة المواطنة الصالحة، من دون انفصال أو انقطاع، أي أن تبقى السلطة السياسية جزءا من مجتمعها على الدوام، لو كانت الأنظمة السياسية على طول التاريخ تعرف أن تجنيه من خلال العدل، لتسابقت في سبيل الحقيقة، ولجعلت الرغيف والكلمة الحرة بديلا للبندقية والمدافع، من أجل مجتمع مستقر، فإذا استقر المجتمع استقر كل شيء آخر.(11)
الخروج من دائرة التخلف والجمود والعنف، لابد من عقل جديد وثقافة جديدة، وفكر جديد يعبر عن العقل والفكر والثقافة وتغيير نمط صوره المعنفة وتناميها لا يأتي من خارج الذات وإنما من جوهرها في تعاملها مع ما هو خارجها.
عندما قام أفلاطون بوضع مشروع دولته القائمة على فكرة العدالة الطبيعية أو الفطرية، فقد جعل من التعليم عمودها الفقري لدولته.
والحقيقة أن القارئ لكتاب (الجمهورية) لأفلاطون، سيجد انه كتاب في التربية والتعليم من حيث الدور الممارس في تحقيق القيم والمثل(12). ففي المدارس الجمهورية يتلقى المواطن دروسا تتلاءم مع قدرته الفطرية من ناحية، وتغرس فيه قيم المجتمع ومثله ونظامه ما يحقق في النهاية انسجام ذلك المجتمع وتماسكه واستقراره ومن ثم فاعليته.
وعندما طرح الإمام علي(ع) حكمه وعلمه ودوره المقدس من القرآن الرباني والسنة المحمدية كانت ثقافته المحورية قائمة على محورين مهمين هما: العلماء ونقل المعرفة، لقوله (ع): «ما أخذ الله على أهل الجهل حتى أخذ على أهل العلم أن يتعلموا» وقال: «على العالم أن يعمل بما علم ثم يطلب تعلم ما لم يعلم، فلأهل الفهم تصرف الأقوال ، فكفى بالعلم رفعة وكفى بالفكر رشدا».(13)
والحقيقة انك لا تجد مفكرا، قديما كان أو معاصرا إلا وكان التعليم هدفه، وهيكله وشكله جزءا لا يتجزأ من مشروعه الفكري ومحاولته تحريك سكون الحياة من حوله.
ففي تراثنا أسماء مثل الغزالي وابن سيناء وابن خلدون، احتلت قضيه التعليم حيزا كبيرا في مشاريعهم الفكرية. وفي الفكر الغربي نجد أسماء مثل رابليه وإيراسم ومونتانيه ولوك وديدرو (بل جميع فلاسفة التنوير) وسبنستر ووليم جيمس ودوركهايم وديوي وغيرهم، كانت التربية والتعليم الطريق الأكثر فعاليه، وبرغم بطئها، من أجل تحقيق المثل والقيم والأفكار التي أرادوا تحقيقها. (14)
إن التعليم يأخذ حيزا عميقا من التنشئة الاجتماعية كما يؤكد عليه (جورج هيربرت ميد) في كتابه (العقل والذات والمجتمع)،(15) وإنها من أخطر العمليات لأنها، في نهاية المطاف تشكل العقل والسلوك والقائم على العقل، ومن ثم طبيعة المجتمع وشكله ورؤاه إلى ذاته وإلى من حوله، قل لي ماذا تعلم وكيف تربي، أقل لك أي مجتمع وأي فرد يكون بين يديك في الخاتمة.
وبرغم خطورة العملية التربوية والتعليم هذه والتي دعت أبرز مفكري الاجتماع إلى جعلها جزءا لا يتجزأ من مشاريعهم الفكرية، على الرغم من خطورتها، إلا أن هذه العملية الخطيرة تؤخذ باستهانة،وبكثير من اللامبالاة أكثر الأحيان في الدول الذي يسودها صور العنف الموجه بالبطالة، تبين لنا أن هذه المناهج عبارة عن (جراب حاوي) فيه كل شيء وأي شيء من دون ناظم ينظمها، ومن دون هدف أو غاية تؤطرها، ومن دون فلسفة تربويه معينة تحدد الأهداف والمخططات تسبقها هذا من ناحية المضمون.(16)
أما من ناحية القائمين بالعملية نفسها (المربين)، فحدث ولا حرج كتلة من أشخاص وأنظمة لا علاقة بينها مختلفة الأهواء والمشارب والميول على أحسن الأحوال، ومجرد باحثين عن (لقمة العيش) على أسوأ الأحوال، وتكون النتيجة ضياع الفرد من ثم تهافت المجتمع نفسه.
ما أن يخرج الطالب إلى الحياة وقد امتلأ عقله بكم من المعلومات متناقضة، وأساليب سلوك متعارضة، ونظرات إلى العالم متعاركة فتصدمه الحياة نفسها إذ يجدها خلافا لكل ما علم وما ربُي عليه، ويتحول إلى كم من المتناقضات بدوره لا بد له من حلها بشكل أو بآخر وتكون النتيجة السلوك غير السوي أو الفكرة غير الصحيحة والمنفصلة عن الحياة نفسها.(17)
مما يشكل لنا مرضا فصاميا بين العلم والإنسان والمجتمع، إذا لا متعلم اكتسبنا ولا جاهل افتقدنا، بل مسخ غريب غير قادر على التوائم مع أي شيء، فينقلب على ذاته وعلى من حوله مما يؤدي بصورة أو بأخرى إلى صورة من صور العنف، وندور من جديد في حالة، من الضياع، بل حالة من العماء ونبحث عن الأمام فلا نجده، وعن الوراء فلا نطاله.
دائما ما نتكلم عن العلم، والتعليم ومحو الأمية (وفك الحرف) ومعرفه القراءة والكتابة وسيلة ناجحة لإنجاز والتقدم والبعد عن التخلف وخصوصا عن بؤرة العنف مناط (بالتخلف) وفي كثير من الأحيان يكون التعليم قراءة وكتابة طريقا إلى التخلف بدلا من أن يكون بداية للتقدم، إذا كان هذا التعليم غير مرتبط بمنهج معين منبثق عن فلسفه تنويرية في التربية.
فليس المهم أن نتعلم، ولكن المهم ماذا نتعلم. وليس المهم ان نقرأ ولكن المهم ماذا نقرأ فإذا استخدمت قدرتك في قراءة كتاب في السحر والخرافات فإنك تكون بعلمك وتعليمك قد ساعدت على زيادة مساحة التخلف وليس العكس.(18)
وإذا استخدمت قدرتك في القراءة والكتابة على نشر وبث كل ما هو مجاف للحق وساتر للحقيقة، فإنك بتعليمك هذا وقدرتك تلك تشكل عاملا من عوامل التخلف بدلا من إن تكون عجلة وخطوة للتقدم وتقهقر تنامي المجتمع، ما يضفي عليه المرهصات والمعرقلات وعواقب وخيمة المدى تجعلنا غارقين في مزيد من بؤر التخلف بدلا من الخروج منه.
وحالة العماء هذه نتيجة لغياب فلسفة واستراتيجيه تعليمية شاملة الأطر الممزوجة علميا ومؤطرة سيسولوجيا، هي التي يمكن ان تفسر لنا ذلك التناقص وهو ازدياد كمي مضطرد في إعداد المتعلمين لدينا ولكن من دون نتيجة عملية ملموسة تبين لنا أننا نسير في حالة دنيا إلى أعلى في التطور الاجتماعي والسبب في ذلك أن التغير كمي بحت: أعداد متزايدة من أطباء ومهندسين وغيرهم ولكن من دون أن تكون هناك استراتيجة، لتنظيم المجتمع بكليته بحيث تربط الكم بالكيف والفرد بالجماعة أو التخصص بالعمل ما يخلق لنا مزيدا من الفوضى الاجتماعية وجملة من العاطلين عن العمل وخصوصا شريحة المتعلمين والأكاديميين.
ومثل هذه الأنظمة الفكرية والفلسفة التعليمية الهادفة تجعل من الحياة الاجتماعية كيانا متناسقا متزنا يسير في اتجاه معين ولغاية محددة بدلا من هذا التخبط الذي تسلك فيه الوحدات الاجتماعية سلوكا وكأنه لا غاية له ولا علاقة ببقية الوحدات وقد يتساءل البعض ما هي هذه الفلسفة التي لا بد أن تكون تنويرية؟ فلا نريد القول إنها نظام فكري يقوم على احترام الفرد وحريته الفكرية والسلوكية كل ذلك مرتبط بأهداف الجماعة وغايتها. بحيث ان لا تقمع الفرد باسم الجماعة ولا باسم الفرد فإذا تحقق هذان العنصران فإن بقية الأمور ليست إلا من الأمور المضافة ومن الأعراض وليس الجواهر.(20)
العدد 2439 - الأحد 10 مايو 2009م الموافق 15 جمادى الأولى 1430هـ