العدد 2439 - الأحد 10 مايو 2009م الموافق 15 جمادى الأولى 1430هـ

روسيا بِلا كوابح... واختبارات الغرب الجديدة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في حفل تكريم لقدامى المحاربين قبل خمسة أيام قال الرئيس الروسي كلاما خطيرا. دميتري ميدفيديف قال إن روسيا «لن تسمح لأي طرف بتشويه نتائج الحرب العالمية الثانية، وسترُد على أي محاولة في ذلك المجال لأن الشعب الروسي أكد في العام 1945 أنه لا يسمح لأي أحد بفرض إرادته عليه، وأنه قادر على التصدي بقوة لأي عدوان».

بطبيعة الحال فإن وضع تصريحات الرئيس الروسي على قاطرة الاستراتيجيا يعطي دلائل مهمة، والغرب يتّجه لمناورات في جورجيا. وهو قبل كلّ شيء مَدٌّ سياسي لظروف تبوأ الاتحاد السوفياتي مكانته الدولية قبل ستين عاما، ودخوله أتُون الحرب الباردة مع الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية.

في إرهاصات التصريح أرجع إلى الخلف (قليلا). فقد أخطأ الغرب (كثيرا) عندما وَثِقَ بالرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين أو بعهده إلى درجة غضّ الطرف عن المجتمع السياسي الانتقالي الروسي في تلك الفترة.

جزءٌ مهم من المنظومة الاستخباراتية السوفياتية لم تُوجعها صور تكوّم امبراطورية الشّر وانكافئها بعد الانقلاب الأحمر الفاشل ضد ميخائيل جورباتشوف. ولمن أدرك الحقبة السوفياتية وخصوصا في عهد ستالين وخروتشوف سيعي ماذا تعني كلمة الـ كي جي بي (وهو الاسم الرسمي للمخابرات السوفياتية) داخل الدولة، وداخل خط الصراع الدولي.

كانت الـ كي جي بي تُمثّل سطوة أمنية هائلة أتعبت الغرب كثيرا وأفقدت معاركه صفة الانتصار. اخترقت منظومته الدفاعية وسرقت علومه النووية وجنّدت المئات من الخلايا العملية النشطة والآلاف من الخلايا الهاجعة داخل أدقّ مفاصل الدول الرأسمالية.

كانت الـ كي جي بي تحمل نَفَسَا قوميا عاليا من أجل روسيا الكبرى التي تُهيمن على ربع مساحة العالم. وكانت تُجيد العمل السّرّي بامتياز. وكانت قادرة في مواطن عديدة على العضّ على جراح الطريق بصبر خرافي من أجل الوصول إلى الهدف.

هذا باختصار ما جعل جمهورية يلتسين المُصاغَة بوصفة غربية تنهار بصورة هادئة على يد فلول الـ كي جي بي. بالتأكيد لا أحد يعلم هل أن يلتسين كان مُتورّطا في استجلاب تلك العناصر إلى السلطة أم أن تلك العناصر هي من أحاطت به وطوّقته عبر تمويه استخباراتي ذكي، إلاّ أن خواتيم الأمور هي ما تظهر به روسيا اليوم.

جاء فلاديمير بوتين إلى السلطة بترشيح من يلتسين نفسه، فأعاد ربط الشرخ الذي أصاب جسم الدولة والذي حوّلها إلى مواخير للفساد وللمافيات الدولية. مجيئه لم يكن مُزعجا لأحد في بداية الأمر لأنه لم يُقدّم ما يعطي دلالات تجعل الآخرين يخشونه.

لكنه عمل بشكل هادئ ولكن في مسار إعادة روسيا إلى شعار «دولة قوية وجسورة وعصيّة على التطويع». كل ما يجري اليوم في روسيا هو بملامح بوتينية. لقد تحوّل إلى ربّان قومي أكسبه المزيد من القوة على المستوى الداخلي فضلا عن الخارج.

بوتين قاد موقفا دبلوماسيا يمزج ما بين المناورة، وبين عملية تحويل التنازلات إلى مشتركات. فالسياسات التجريبية لا تتحمّل النهايات على الطريقة الميكانيكية بل عبر المصالح وتقديم الأقل قيمة لصالح القضايا الأكبر.

بالضبط كما هو الحال لدى الإيرانيين. ففي لعبة المناورات لا يزيد الأمر على إحالة الملفات المُنهكة إلى الظل لترميمها، واستعادة الملفات ذات البُنية الأكثر تحملا للالتفاف حولها. مع القدرة على قياس المسافة بين المُحال إلى الظل والمُستعاد منه لصرف النفقات وجرد الخسائر. وهو حال الدبلوماسية الروسية الحاضرة.

أمام تصريح ميدفيديف العنيف نجد الناطق باسم الخارجية الروسية أندريه نيستيرينكو يُوصّف محادثات لافروف الأخيرة في واشنطن بأنها تأتي لـ «دفع عملية إعادة تشغيل العلاقات والمحافظة على زخمها، وتوفير أفضل الإمكانات لإنجاح القمة الروسية - الأميركية في موسكو بعد شهرين».

لكن وفي نفس الوقت نسمع قائد سلاح الصواريخ الاستراتيجية الروسي نيكولاي سولوفتسوف يقول إن روسيا «تسعى إلى تضمين النص الجديد للمعاهدة (ستارت) بندا واضحا ينص على تقليص عدد ناقلات الرؤوس النووية وعدم الاكتفاء بالتركيز على تقليص للرؤوس ذاتها، وحظر نشر أسلحة نووية خارج حدود البلدين».

ويصرّ على أن روسيا ستحافظ على ترسانتها النووية المتطورة معللا ذلك بالقول إن «الوضع لن يتغير حتى تتغير الظروف الدولية ذاتها». وهو ما جاء متوافقا مع حديث وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف بشأن «عدم تقليص موازنة القطاع العسكري النووي خلال الأعوام المقبلة».

هذه التصريحات التي تتقدّم حينا وتتراجع حينا آخر تُشكّل التفافا على المبادرات الأميركية بصورة خاصة والغربية بصورة عامة. فهي وإن بدت غير متجانسة إلاّ أنها تمنع الانسياب الدبلوماسي المباشر الذي لا يلتقط الظروف والمصالح الصغيرة.

من يتابع الوضع الروسي اليوم سيرى أن الحقبة البوتينية المستمرة لا تحاول فقط استرجاع مكانة روسيا الدولية عبر التسلّح والنفوذ، بل التغلّب على أهم إشكال كان يواجهه الاتحاد السوفياتي وهو تجاوز صعوبات «بَرِّيَّة جيوبوليتيك روسيا» المعقّد عبر مدّ العنق بعيدا نحو المياه الدافئة وأعالي البحار لإمساك بالخطوط التجارية الدولية. إنه طموح دخلت من أجله روسيا أكثر من صراع دولي.

في بحر الأيام الماضية أعلن الروس أنهم بصدد إنتاج نظامين صاروخيين متطورين سيشكلان «الركيزة الأساسية لتطوير قدرات الردع الروسي خلال الأعوام المقبلة» الأول هو نظام «توبول» الصاروخي العابر للقارات، والثاني هو نظام «أر أس 24» بمعيّة أنظمة «بولافا» البحرية بمبالغ زادت على الخمسين مليار دولار.

هذا الاندفاع الروسي يُؤشّر إلى حقيقة السيطرة على المحيط القريب في القوقاز. ثم الزحف نحو الجنوب عبر ابتزاز الغرب بالطاقة. ثم تهشيم كل المفارز التي أقامها الغرب إبّان جمهورية يلتسين. إنّه تربع على الجغرافيا والسياسة معا.

بالتأكيد من يحكمون روسيا اليوم يتلافون أخطاء الماضي والتي وقع فيها الاتحاد السوفياتي. هم لا يريدون الدخول في معركة استنزاف عسكري على حساب التنمية. ففي أسوأ حالات روسيا اليوم هو تسجيل نمو يزيد على 6.7 في المئة (تريليون دولار).

لا تحتاج روسيا لأكثر من عشر سنوات أخرى لتفرض واقعا مُرهقا للولايات المتحدة وأوروبا. عندما تُحَل أزمة بحر قزوين ويُوقّع على اتفاقية ستارت الاستراتيجية ستكون روسيا قد كسبت مزيدا من النقاط في الميزان الدولي.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2439 - الأحد 10 مايو 2009م الموافق 15 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً