العدد 2383 - الأحد 15 مارس 2009م الموافق 18 ربيع الاول 1430هـ

لَميس ضيف... من «العباب الزاخر» إلى نصيحة «هيساو دينغ»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من الطرائف الحميدة أن يُذكَرَ في مُعجم «العباب الزاخر» عن تصريفات الّلميس ما يُطابق حال الزميلة «لميس ضيف» فعلا. فجزءٌ من التصريفات المُعجميّة تقول: بأنها تعني «الطريق» حين يُدِلُّ على أثر المسافرين فيعلم أنَّه الجادّة. ومنها أيضا أنها ما تقع على داءِ الرَجل أو على ما كان يكتم.

في كلّ الأحوال تبدو الزميلة «لميس» جزءا من هذه الحالة. فالصحافة دليل وتقويم. تصويب وترميم. يُجهَرُ من كُوّتها ضد ما يتوجّب أن لا يقع أو يُقال من قِبَل الأفراد والجماعات والكيانات. وأخيرا وضع اليد على المُراد.

كان دينغ هيساو بينغ قد قدّم نصحا رائعا يقول فيه بالصينية: «شانيو شوجو». بمعنى «أتقِن عدم لفت الانتباه». كانت نصيحة بينغ تتّسق مع ظروف العلاقات الدولية، عبر التحوّط من غلواء القوة لدى الخصوم. حين كانت الصين تتخطّى الرقاب إلى القمّة أمام أعين من كانوا يُسمونها «جمهورية الموز»!.

لكن ذات النصيحة لا ترجح كفتها في أحوال الصحافة إلاّ إذا أزيلت منها كلمة «عدم». فالصحافة هي أن تُتقن لفت الانتباه. فإذا كانت القصائد تهزل بسقوط مُقوّمات القريض، فإن الصحافة تصبح «تافهة» إن تمّ حبس معجمها متقافزا بين الصحيح المُطلق، والترميز والتصنيم، والمُمالأة ضد الحقيقة.

في العام 1974 سقط الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بعد تحقيقات الواشنطن بوست بشأن «ووترجيت». وفي العام 1998 استقال وزير الاستخبارات الإيراني قربان دري نجف آبادي بعد نشر تفاصيل اغتيال المثقفين الليبراليين الخمسة.

وسقط الرئيس الصهيوني موشي كاتساف بسبب علاقاته الجنسية. واستقال قائد الشرطة الفدرالية الكندية جوليانو زاكارديلي بسبب ترحيله كنديا لسورية. واستقال وزير الصحة الماليزي «تشوا سوي لك» بعد فضيحة جنسية.

وسقط حاكم ولاية نيويورك إليوت سبيتزر لتورّطه في شبكة دعارة. واستقالت مديرة المخابرات الكولومبية ماريا ديل بيلار هورتادو بسبب قضية تجسّس. واستقال خورخي ديل كاستيلو رئيس وزراء البيرو هو وحكومته مجتمعة بسبب فضيحة فساد نفطية. كلهم سقطوا بعصا الصحافة. إنها حقيقة وليس حُلم.

قبل ثمانية أعوام قُتِلَ ثمانية وستون صحافيا في دول مختلفة من العالم. خمسة عشر صحافيا منهم اغتيلوا لنشرهم تقارير ضد الفساد في بلدانهم. هذا يعني أن المواجهة والمعركة مفتوحة مع بارونات المال والنفوذ. إنها حرب بأحبار لا ببنادق وفوهات. لكن قعقعتها لا تقلّ شراسة عن السلاح، إن لم تزد عليه.

ما الذي يدفع الصحافي لأن يقدّم روحه وحياته من أجل كشف حالة فساد؟

لماذا لا تستهويه مهنته لأن يكون كـ «إيروين ستلز» المحرر في صحيفتي ويكلى ستاندرد وصانداي تايمز، الذي جمّل من وجه شركة إينرون العملاقة والناهبة ليقبض من رئيسها مئة ألف دولار؟!

ما الذي يدفع الصحافي لأن يختار التقاضي والمواجهة حاملا قراطيسه ويراعه معه إلى ردهات المحاكم، مفضلا ذلك على أن «لا يقول» بأن ثلاثين في المئة من الأدوية التي تباع في أجزاء من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية مُزوّرة. وأن مبيعاتها العالمية لن تكون 75 مليار دولار بعد سنة واحدة، فيقبض بذلك نصف مليون دولار ثمنا للتزوير؟! إنه اختبار حقيقي وصعب. وتحدّ مفتوح مع النفس، ومع الشرف والمسئولية.

لماذا يختار الصحافيون أن يكونوا كيفما اتفقت أحوالهم كفافا، مُتقيئين على صفقات الرقابة من دون أن يُهلهلوا ولو بكلمة لمشروعات السلطة حين تكون عرجاء؟ أو يفضلون أن يُراق حبرهم على قراطيس للتنفيس، كبديل أرحم من الموت قهرا. أو على إبغاض النفس على قول ما لا يرغبون، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. إنها مهنة مُركّبة، تختلط فيها الحرفية والدفوع والمصالح والمشاعر.

من يركب صهوة الصحافة سيُدرك كم أنها عمل متين، يُوغَلُ فيه برفق، مصحوبا بحسم وجرأة. يستلزم فيه التوفيق بين متطلبات الصحافة والسياسة من جهة وبين استيعاب آمال الناس ورغباتهم في قول ما يودّون قوله.

هو يُدرك بأن تناول قضايا الوطن يجب أن يكون من منطلق مسئولية جماعية، باعتباره غاية. وأن الدخول إليها (أي الصحافة) بقلم هائج، وعقل نافر وبأفكار تجريدية ذات زوايا حادّة وعمومية، هو تأزيم للأمور، وتأسيس لمناخات مشحونة ستُصيب السلم الأهلي بِرَضَّاتٍ مؤلمة.

وفي الضّد تحصيل مماثل. فحين يستمرئ الصحافي خلط مصالح الأنظمة، مع مصالح الناس إلى الحدّ الذي تُصبح فيه الأولى مقدمة في كل شيء وعلى كل شيء، تُصبح الكلمة أسيرة الإحالات الجاهزة، والمتجاوزة لضرورات المهنة الأصلية.

عندها يكون الوطن باهتا وبلا ملامح. والحقيقة مُشوّهة. والثقة معدومة. ويُمسي الجميع كمن هم في ملهى ماجن، يُغنّي فيه الراقصون ويتمايلون، حتى حين تُصبح الظروف مأتميّة، تستوجب العزاء والبكاء.

وهنا يشهد في حقّ الزميلة «لميس» بأنها كانت مُدركة لكل ذلك. ولأنها كذلك، فهي تصيب باعا في كثير ما تطرقه من حديث. فهي لا تُسرف في موضوع بغير مقاس. ولا تستحوذ على مشاع. وخياراتها تتقدّم حينا وتتأخّر حينا آخر لدواعي الفصل بين الأمور والربط بينها حين يكون الربط واجبا.

فنفض الغبار عن ملفات مسكوت عنها يستلزم حصافة ونباهة ذاتية وشخصية، تضبط الإيقاع لإنتاج علاقة مُفتَرَضة مع أطراف متعددة لكنها متجاورة، تقوم على استيعاب توجهات الجميع، وفهم المساحة المتاحة لمناوراتها، لأن في ذلك إلحاح من المنطق.

وفي أوقات مُتعددة قد تحشرك القضايا والموضوعات في زاوية ذات خيار واحد. حينها قد لا تجد إلاّ التأجيل الإرادي للإقدام خيارا متاحا. لتتحول المعركة لاحقا نحو الاستقواء بالمعرفة، وتثمير الصورةُ المشكِلة للمفاهيم الناتجة عن التلقّي، والقادرة بوعي على اجتراح المُتخيّل.

في كلّ ما ذكرت حديث عابر حول شأوٍ كبير لا يوفّيه سوى المؤازرة والإسناد للزميلة «لميس ضيف» وكلّ زميل يقع عليه حيف. فما يمنع أن يُصار الجسم الصحافي «في توادّه وتراحمه وتعاطفه مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى». والأهم من كل ذلك هو التواد و الدفاع عن أصل الموضوع ومنبته وهو صون حرية التعبير والكلمة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2383 - الأحد 15 مارس 2009م الموافق 18 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً