ليس حِكْرا على الدارس للقضية الفلسطينية وخصوصا مرحلة الرئيس الراحل ياسر عرفات أن يُدرك تفصيلاتها كما عمومياتها. فحضورها سياسي وفكري وتاريخي ووجداني يُغني عن ضرب الأخماس في الأسداس أو الاستنجاد بالمصدر، أو كثير من الذاكرة.
لذا فيُمكنني -ويُمكننا جميعا- الاستغناء عن الديباجات لصالح المتن فأقول: بإن المرحلة التي تلت حُكم أبي عمّار لا تختلف فقط في الشخوص والسياسات، بقدر ما تختلف في طبيعة القيم المتداولة في السلطة ولشكل الصراع. أيّام حكم عرفات، كان الجميع مُطمئن لما كان يقوله الرجل لإسحاق رابين عندما سأله الأخير: كيف لنا أن نُنفّذ اتفاق أوسلو بيننا كإسرائيليين وبينكم كفلسطينيين؟ فرد: أنتم تنسحبون، وأنا أسمح لكم أن تكون لكم دورية مشتركة معي ومع القوات الدولية على غور الأردن.
وكان الجميع مُطمئن إلى أن الرجل تاركٌ حبل المنظمات الجهادية المعارضة له ولاتفاق أوسلو مَرْسُونا لكي تَجرَح الكيان الصهيوني فتُذيقه جزءا من الألم. ثم يُداري سَفَه الالتزامات الدولية بسُجُونٍ دوّارة لا تَسَع المجاهدين لأكثر من يومين.
كان ذلك ضامن لأن تبقى القضية الفلسطينية وإدارتها بحجم الاستهتار الصهيوني بها. أما اليوم فما يجري على سُوحها في مرحلة أبي مازن لا يعدو كونه فوهة على صُدْغَيها قد تُفجّر ما تبقى من فروة الرأس.
يجري الحديث اليوم فلسطينيا وعربيا ودوليا عن شكل الدولة الفلسطينية (ما قبل الوضع النهائي) وهل أنها جوهر العملية السياسية التي تُصدّر شرعية السلوك والسياسات التفصيلية للساسة؟ أم أن الأمر يصبح مقلوبا، لتصبح القضية شخصنة السلطة؟! أم أنها تصبح عالة تنظيرية حين تبقى فكرة مُجرّدة ابتكرها البشر حتى «يتحوّلوا من ذُل الخضوع إلى كرامة الطاعة» كما يصفها بوردو؟.
المهم من كل ذلك هو الحديث عن جدوائية التعويل على الدولة الفلسطينية (المنقوصة) لكي تُحال إليها أفعال الناس والتزاماتهم، وقبل ذلك بالتأكيد تداعيات العدوان الصهيوني ضدها وضد ناسها. هذا حديث يجري اليوم دون أن يجد لنفسه متّكأ يستند إليه.
فالعالم ومنذ أزيد من ثمانية أعوام بدأ يشهد جيلا جديدا من الحروب لا تنشب بين دول ودول، وإنما بين دول من جهة وجماعات وأحزاب من جهة أخرى! إنه منطق عسكري غريب، وغرابته تكمن في أن الدول الغالبة على هكذا نموذج هي ذات الدول التي تتربّع على عالمية القوة المادية.
نشبت حرب من هذا المقاس بين الولايات المتحدة الأميركية وحركة «طالبان» في أكتوبر/ تشرين الأول العام 2001. ونشبت حرب أخرى بين الكيان الصهيوني وبين حزب الله لبنان في يوليو/ تموز العام 2006. واليوم تُكرّس تل أبيب حربها التالية مع حركة «حماس» في قطاع غزّة!.
هذه الحروب التي كانت لازمتها الرئيسية هي عقيدة القوة الجوية بدأت تُحاكي الطبيعة السيكولوجية للفرد الأميركي والصهيوني في الرغبة الأكيدة والمؤكّدة على قيمة الحياة، معطوفة على نمط حياتي استهلاكي بلا حدود.
وبمنطق هذه المعادلة، فإن قيام دولة لديها مساحة جيدة من القوة بالاشتباك مع جماعات وأحزاب سياسية وليست دولا (دينية وغير دينية) تحتمي بمجموعة من الركائز المدنية والعسكرية في ظل غياب هوية ناضجة للدولة الجامعة، فإن المعركة لا تحمل إلاّ إسرافا غير مشهود للدم وانتهاك لحقوق الإنسان بشكل صارخ.
أمام هذا المنطق الأميركي والصهيوني العسكري الأرعن لا يمكن لدولة مهما تشكّلت أنويتها قائمة للدفاع عن شعب مُحتل بأن تتصالح مع هكذا تفكير. بل قد تصبح مقوّمات الحالة الريعية أفضل بكثير من صيغ الدول الحديثة. وربما تجربة ياسر عرفات في ذلك مثال قريب على ما نقول.
لأن التجارب قد دلّلت على أن الكيان الصهيوني لا يريد دولة تكون عاكسة لرغبات وميول شعبها بدليل ما فعلته تل أبيب بحكومة إسماعيل هنيّة «المنتخبة». ويُمكن التثبّت من ذلك أيضا من خلال التصريح الصريح لبيريز الذين تحدث عن «نقل العرب إلى الديمقراطية» ورفض صناديق الاقتراع التي «قد تُسْفِر عن انتخاب غير ديمقراطيين».
من يطالب بالدولة الفلسطينية بالمقاسات الصهيونية المُنتَجة على صيغ سلام يجب أن يُدرك بأن مُضي أكثر من عشرين عاما على الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني لم ينتج عنه حلحلة لكيلومترين من مساحة البلدة القديمة (سلوان وجبل الطور وجبل الزيتون) فمن باب أولى ألاّ نُعوّل على نيل شيء من قضية اللاجئين بملايينهم الخمسة، والمستوطنات الصهيونية المنتشرة في أحزمة ممتدة بالضفة الغربية!.
بل إن الدولة الفلسطينية (المُرتقبة) التي سارت على كفّ السلام لم تُنتج غير هامش كبير وكبير جدا لخيار القتال المُسلّح وتظهيره على أنه الأجدى في توفير مُكتسبات الدولة وقبلها الحقوق؛ وذلك عبر تسفيه عنوان السلام.
فمنذ سبتمبر/ أيلول 2000 ولغاية نهاية أكتوبر 2006 (وهي فترة أوسلو والمفاوضات) بلغ عدد الجرحى من الفلسطينيين 48021 في حين وصل عدد الشهداء إلى 4516، بينهم 868 شهيدا دون سن الثامنة عشر. كما بلغ عدد السكان الذين هُدمت منازلهم بشكل كلي 10491، والسكان الذين هدمت منازلهم بشكل جزئي 11466، بل وفي محافظة رفح وحدها تم هدم 6247 منزلا بشكل كامل، كما بلغت عدد الدونمات المُجرّفة لأراضٍ في القطاع 20847.
إذن ما هو الخيط الفاصل بين حياة بمقاومة وحياة بسلام. أو لنَقُل بين سلطة فلسطينية لا تملك خيار القوة وتمخر في مفاوضات من أجل الدولة، وبين حركات مُسلّحة تملك خيار الدولة وتمخر في المقاومة من أجل الدولة؟!.
في السابق كان النصّ المُدوّن عادة ما يحكم سلوك البشر، لكن الكيان الصهيوني كسر هذه المعادلة. وربما كانت سياسة أبي عمّار في اتباعه اللامنهج واستمراء التجريب ثم التعامل مع الوقائع بشكل لحظي ومتتابع هي التي أبقت الوضع الفلسطيني ما بعد أوسلو لا يصل إلى ما وصلت إليه اليوم حالة التردّي داخل أروقة السلطة الفلسطينية.
اليوم يجري الحديث عن القطاع الغزّي وفصله عن حكومة رام الله، وكأنه كان متصلا في السابق بوجود بَوْنٍ جغرافي مُكَمّل بسبعمائة حاجز عسكري! كيف يُتّهم بالفصل من هو في الحكم وهو الحاكم ولديه شرعيته وهو من فاز «ديمقراطيا» وهو من آلت إليه الأمور؟!.
إن النّياح على ادّعاء الفصل والانفصال بين القطاع والضفة لن يُقلّل من تفضيل ثقافة الفصل والفكّ عند البعض، بالاستناد على نجاح جمهورية أرض الصومال بمحافظاتها الست مفصولة عن الصومال الأم منذ العام 1991، ونجاح حكومة الشمال الفيتنامي والفيتكونغ في وجه حكومة الجنوب التي لم يَفدها اعتراف الأميركيين والأستراليين والنيوزلانديين بها.
كنا نعيب على العراقيين استعارتهم للفدرلة الأوروبية والأميركية كعنوان ذهبي لبلد مستقر، ثم استعارتهم للدولة المركزية العربية كنموذج فاشل لأنظمة الحكم ومَلْمَحا أكيدا للدكتاتورية.
ففي الأولى بُحّت أصوات الناصحين لهم بأن الفدرلة لم تكن إلاّ كَيّا لمرض إبادات البشر في أوربا منذ القرن الخامس عشر والتي لم تستطع التخلّص من ارتجاج الهويات الدينية والعرقية فيها إلاّ بالفصل الإداري لترويض الشعوب والإثنيات المتباينة وتنظيم العلاقة فيما بينها، وبالتالي فلا داعي لشعب متصاهر وغير مُحترب في الهوية أن يُفدرل.وفي الثانية هُمِسَ في آذانهم بأن أرذل أنواع الدولة المركزية عرفتها المنطقة العربية وكأنه انتقام تاريخي لحالة الشّتات التي عاشها العرب بدون دولة منذ ما قبل الإسلام، وبالتالي فهي استعارة عرجاء ناقصة لا تُدلّل ولا تشفع لحال.
على أيّة حال، فالدولة الفلسطينية (الحالمة) هي مازالت مجالا جيدا يُمكن التندّر به عربيا وعالميا. وبالتالي فمن غير المُنصف تسمية ما يجري بشأن عنوانها المأمول غصبا أو فصلا لسلطة مازال التوافق عليها غير مكتمل.
ثم وفي المجال الأعم يمكن القول بأن أحدا لا يريد تحطيم العروش العربية، بقدر الرغبة في تحسين سياساتها لكي تلامس ولو جزءا يسيرا من رغبات شعوبها. هذا المطلب لا يمكن المزايدة عليه ما دام الأسوياء يُقرّون بصوابية الدسترة والإصلاحات السياسية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2318 - الجمعة 09 يناير 2009م الموافق 12 محرم 1430هـ