هل عرف العالم الآن الإجابة على السؤال الذي ظل الساسة الإسرائيليون يروجون له كثيرا في المحافل الدولية: لماذا يكرهنا العرب؟.
إنها وحشيتهم وتخبطهم وجبنهم في الحروب رغم امتلاكهم آلة حرب فتاكة. فمجزرة مدرسة الفاخورة التي تديرها الأمم المتحدة في جباليا شاهد على ذلك. إنها عين الإبادة الجماعية التي فاقت في وسيلتها جرائم رواندا وألمانيا النازية؛ لأنها ارتكبت في وضح النهار وأمام عدسات الكاميرات وأنظار المجتمع الدولي الذي يتشدق بحقوق الإنسان وهو يتفرج. إنها مذبحة تقطعت لها أنياط القلوب الرحيمة والضمائر الحية... أشلاء متناثرة... دماء... أجساد مقطعة وأخرى متفحمة لنحو 143 فلسطينيا من الأطفال والنساء والمسنين... أصوات وصرخات مستغيثة... هكذا بدا المشهد داخل وفي محيط تلك المؤسسة التعليمية التي ترفرف في سمائها أعلام الأمم المتحدة ويعلم جيش الاحتلال بإحداثيات موقعها الجغرافي تماما كما يعلم عدته وعتاده، ومع ذلك هاجم الأبرياء بعد أن فروا للمدرسة من بيوتهم هربا من الموت ليجدوه أمامهم.
ليس هذا فحسب بل دمر جيش الاحتلال نحو 13 سيارة إسعاف بما فيها الطواقم الطبية. فأين الالتزام بمبادئ اتفاقية جنيف التي تدعو إلى حماية المسعفين؟ وأين قضاة المحكمة الجنائية الدولية ومدعوها؟ علاوة على ذلك قتل الجيش الإسرائيلي الأسبوع الجاري في عملية قصف ثلاثين مدنيا من بين 110 فلسطينيين كان جميعهم في منزل في غزة، على ما أفادت شهادات حصلت عليها الأمم المتحدة ونشرت أمس الجمعة. وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الأنشطة الإنسانية في بيان إن الحادث «هو من أخطر الحوادث منذ بدء العمليات الإسرائيلية».
إن مجزرة الفاخورة والإبادة الجماعية في غزة عموما هي عبارة عن نسخة أخرى للمجازر التي ارتكبت بصبرا وشاتيلا في سبتمبر/أيلول 1982 في لبنان وسقط فيها 700 شهيد،ومجزرتي قانا الأولى 1996 والتي سقط فيها 106 من المدنيين وإصابة الكثيرين، وقانا الثانية يوليو/تموز 2006 التي راح ضحيتها 55 شهيدا بينهم 27 طفلا، وكذلك مذابح دير ياسين 1948 وخلفت مابين 250-300 شهيد، وكفر قاسم أكتوبر/تشرين الأول 1956 وسقط فيها 48 شهيدا.
نتساءل هنا مرة أخرى، هل هذه هي بطولات «جيش الدفاع» الذي لا يهزم؟ هل استطاع جيش الاحتلال هذا أن يسكت هدير الصواريخ البدائية للمقاومة الفلسطينية؟ هل قضى على المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان؟ إن أرواح الأبرياء ستظل تطارد شيمون بيريز، وايهود باراك، ووزيرة الخارجية الرعناء تسيبي ليفني، ووزير الدفاع الفاشل أيهود باراك، ومجرم الحرب بنيامين نتنياهو، بل ستطارد أرواح الأطفال(في عمر الزهور) كل من اتخذ موقفا فيه تواطؤ مع العدو. لقد آثر بعض الزعماء المصالح الخاصة بأنظمتهم على حساب دماء الأبرياء من أبناء فلسطين، ولم يأبهوا لغضب شعوبهم التي انتظمت في تظاهرات هادرة. فخسر هؤلاء كل شيء حتى ولاء المؤيدين والأتباع، واخذ رجال الدين يرفعون الدعاء ضدهم، ولذلك رفعت عنهم الهيبة والوقار والاحترام.
لم تنفع الزعماء المتواطئون مع العدوان الصداقة مع الدول الكبرى إذ لم تحفظ لهم تلك الدول أية مكانة في يوم الشدة والحاجة. وهذا واضح من خلال التعامل الذي وجده وفد المنطقة الذي توجه إلى نيويورك من عدم اكتراث ومحاولات لإفشال كل الخطط التي قدمها لوقف إطلاق النار. وظل الحال هكذا. فمع مرور كل دقيقة يسقط طفل فلسطيني بينما تتشدد الدول الكبرى في شروطها لوقف القتال وكأنها نصبت نفسها وكيلا لـ»إسرائيل» في هذا الصراع. ولم تستح وزيرة خارجية أكبر قوة عظمى من نفسها، إذ لم تعط نظراءها في الوفد أي اعتبار، بل حاولت التفريق بينهم عندما دعت بعضهم إلى اجتماع وتجاهلت البعض، وهي التي كان عشمهم فيها كبيرا بعد ما تلقت مرارا وتكرارا هدايا ثمينة لا تقدر بثمن من وجهاء المنطقة خلال جولاتها المكوكية السابقة.
فهل بعد هذا الذل الذي لحق بأهل المنطقة من الحرب الجائرة هذه من يريد سلاما أو تطبيعا مع «إسرائيل»؟ هل هناك من لديه استعداد لمصافحة بيريز في حوار للأديان أو ليفني أو أي سياسي في أي منتدى دولي.
220 طفلا و100 سيدة قتلوا بدم بارد... مئات الآلاف هُجروا من منازلهم بعد أن طلب منهم الجيش الصهيوني إخلاءها، حتى المرضى المغمى عليهم في المستشفى المكتظ بنزلائه تم تهديدهم بإخلائه حتى يتم قصفه!.
بالطبع لم يأت التمادي الإسرائيلي في العنف من فراغ، فالقادة الإسرائيليون عندما يسألون عن مغزى هذه الحرب يجيبون أن هناك دولا عربية لا تريد للحرب أن تضع أوزارها (في المراحل الأولى على الأقل ظنا منهم أنها ستقتصر على عناصر حماس من دون المدنيين وأنها لن تثير موجة غضب شعبية بهذا الحجم) حتى يتم القضاء على حماس التي زعموا أنها وحزب الله اللبناني أصبحا شوكتي حوت في حلق عملية السلام في الشرق الأوسط. ولذلك نجد تغطيات بعض وسائل الإعلام العربية للحرب منحازة إلى حد ما ضد حركة حماس أو مضللة بعض الشيء. مثلا، لا أعرف تفسيرا لتغطية صحيفة لأحداث غزة في خمس صفحات بينما لا تنشر صورة واحدة لجثث الضحايا من الأطفال والنساء أو المناظر المروعة وهذا فيه تضليل لقرائها ومع ذلك تدعي أنها صحيفة العرب الدولية. كما أنني سمعت كثيرا من بعض الزملاء أن هناك فضائية أصبح الناس يطلقون عليها هذه الأيام اسم القناة « العبرية» في تحريف لاسمها المكون من الحروف ذاتها.
وفي الوقت الذي كان الشارع العربي والإسلامي بل المجتمع الدولي بأسره يموج بالتظاهرات والمسيرات هناك من يحاول إلهاء الشباب ببرامج بعيدة كل البعد عن اهتمامات الأمة، فقد أخبرتني إحدى المدرسات أنها طلبت من تلاميذها الكتابة عن معاناة أطفال غزة في حصة «التعبير» وسألت الفصل أولا أين تقع غزة هذه؟... لم يستطع الفصل(السادس) معرفة الإجابة في أي بلد تقع غزة !. لذلك مأساة غزة أصبحت معركة لتمحيص الأمة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. كما أنها أثبتت أننا نحتاج إلى تغيير ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا من هوان، وكذلك إعادة تقييم مسيرتنا القومية قبل أن ينبري الآخرون إلى تغييرها بحسب أمزجتهم. فقد سقط في هذا الخصوص شعار كبير من شعارات (التغيير) العهد الأميركي الجديد بزعامة الرئيس المنتخب باراك اوباما الذي صمت دهرا ونطق تحيزا تجاه غزة.
إن النصر الوحيد الذي استطاعت «إسرائيل» تحقيقه حتى الآن هو هزيمة المدنيين من الأطفال والنساء والمسنين. وفي المقابل تلقت الدولة الصهيونية ضربة قاضية في معركة الرأي العام العالمي. فأوروبا أبلغت الرئيس الإسرائيلي العجوز مهندس مذبحة قانا الأولى شيمون بيريز أن صورة الدولة العبرية دمرت بسبب رفضها الانصياع للمناشدات الدولية بوقف إطلاق النار أو تجنيب المدنيين ويلات الحرب. والدليل على ذلك خروج عواصم عالمية ليست لها علاقة بالإسلام والمسلمين في مسيرات هادرة منددة بالفظائع الإسرائيلية. فهل بعد كل هذا بقيت لدينا ثقة في هذا العدو اللدود وهل سنظل نتوسل إليه بمبادرات للسلام وهو يذبحنا ليل نهار؟.
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 2318 - الجمعة 09 يناير 2009م الموافق 12 محرم 1430هـ