العدد 2296 - الخميس 18 ديسمبر 2008م الموافق 19 ذي الحجة 1429هـ

جمعيات سياسية في إطار أهلي

لبنان والصراع على هويته (6)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الحدث الأهم في تلك الفترة صعود دور بيروت كنقطة تقاطع بين الطوائف اللبنانية. فتقسيم الجبل إلى جبلين في أربعينيات القرن التاسع عشر أدى إلى نمو بيروت في ظل التوازن السلبي بين القائمقاميتين المسيحية الشمالية والدرزية الجنوبية وتحولت إلى مركز جذب يتوسط الجبلين. فنهضت عمرانيا وثقافيا وأصحبت مركز اجتماع القوى النازحة حديثا من الأطراف والريف، ووجدت النخب المتعلمة في بيروت مدينة اللقاءات وملتقى الأندية والجمعيات في وقت تعزز دور الإرساليات وازداد تنافس بعثات التبشير. وعرف جبل لبنان المنقسم ظاهرة نزوح بعض نخب الطوائف وانتقالها من طائفة إلى طائفة واعتناق بعض العائلات المسلمة المسيحية واعتناق بعض المثقفين المسيحيين من موارنة وكاثوليك وارثوذكس المذهب البروتستانتي الأمر الذي زاد من حساسية علاقات الطوائف.

تحت سقف التوتر الداخلي تأسست أولى الجمعيات وهي «الجمعية العلمية السورية» في بيروت العام 1847 واستمرت تنشط كحلقة فكرية - ثقافية إلى العام 1852 وضمت في صفوفها عشرات المثقفين العرب واللبنانيين (معظمهم من المسيحيين) أبرزهم ناصيف اليازجي وبطرس البستاني. وتأسست في طرابلس «الجمعية الأدبية» في 1850 واستمرت إلى العام 1876.

تجددت في 1860 الحرب الأهلية الدرزية - المارونية وانتهت بإعادة توحيد الجبل وإعلان المتصرفية كنقطة وفاق عثمانية - أوروبية. وقضى البروتوكول بأن يكون متصرف جبل لبنان مسيحيا تختاره اسطنبول من رعايا السلطنة. وفي ظل المناخ السلمي تجدد مركز بيروت كنقطة لقاء بين الطوائف. فتأسست «الجمعية العلمية» في العام 1866، وأعاد الأمير محمد أرسلان تأسيس «الجمعية العلمية السورية» في العام 1868 وضمت 150 عضوا من سورية ولبنان وفلسطين ومصر ونالت ترخيصا رسميا من والي الشام راشد بيك. في بيروت أيضا تأسست «جمعية زهرة الآداب» في 1873 وتأسست في دمشق «الجمعية التاريخية السورية» في 1875، ثم «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» في بيروت 1878.

عملت كل الجمعيات والأندية المذكورة تحت يافطات أدبية وثقافية وركزت كثيرا على إصدار المجلات والصحف والدوريات واشتغلت على الترجمات من اللغات الأوروبية إلى العربية. وبرز بطرس البستاني على الصعيد الفكري والتربوي فأسس «المدرسة الوطنية» وأصدر مجلة وطبع في العام 1876 الجزء الأول من موسوعته «دار المعارف» التي تعتبر أول موسوعة عربية حاولت أن تنقل المعارف والعلوم والفلسفة الأوروبية إلى قراء العربية.

أثار البستاني حفيظة الكنيسة الكاثوليكية، وهو المسيحي من جنوب لبنان، تحوله إلى المذهب البروتستانتي. وتبعه الشقيق الأكبر لأحمد فارس الشدياق فاضطرت الكنيسة إلى عزله فتحزب فارس الشدياق إلى شقيقه فأعلن إسلامه نكاية بالكنيسة وعرف بأحمد.

في جو الحراك الاجتماعي - الطائفي تحرك الفاتيكان في روما وأعطى البابا ليون الثالث عشر في العام 1881 الحركة اليسوعية- الكاثوليكية في جبل لبنان حق منح الشهادات على أنواعها. وبفضل ذاك القرار تحولت جامعة القديس يوسف في بيروت إلى جامعة بابوية. وردت لاحقا الكنائس البروتستانتيه بزيادة نشاطها الثقافي- التعليمي. وتطور نشاط الحركة التبشيرية الأميركية فوصل عدد مدارسها في سورية وجبل لبنان وفلسطين إلى 174 مدرسة في العام 1909. وبلغ عدد مؤسسات التبشير الإنجليزية والسكوتلندية والإيرلندية والألمانية والسويدية والدنماركية أكثر من 38 مؤسسة في العام 1912.

جمعيات وأندية

ظلت الجمعيات والأندية حتى سبعينيات القرن التاسع عشر تختزل نشاطها السياسي في المطالبة ببعض الإصلاحات الإدارية في السلطنة. فمعظم رجال الأدب والثقافة والإصلاح آنذاك كانوا يعتبرون أنفسهم من رعايا السلطنة وجنسيتهم عثمانية على رغم اختلاف اللغة وبعض العادات والتقاليد.

أولى إرهاصات المطالبة بالانفصال السياسي بدأت في دمشق وبيروت عندما أخذت تتأسس جمعيات سرية تطالب باللامركزية واستقلال سورية ولبنان. وجرت المحاولة الأولى في العام 1880 ثم تلتها حلقة الشيخ طاهر الجزائري في دمشق وضمت إلى العرب مجموعة من الأتراك في العام 1882 وأقامت اتصالات برجال «تركيا الفتاة» ثم انبثقت عنها «حلقة دمشق الصغيرة» العام 1903.

وقام رجلان من حلقة الشيخ طاهر بتأسيس «جمعية النهضة العربية» في اسطنبول 1906 وقادها عبدالكريم الخليل. ولم تتغير أهداف الجمعيات والأندية إلا بعد أن وقع الانقلاب الدستوري الذي نفذته جماعة «الاتحاد والترقي» في تركيا في العام 1908 وأخذت تنادي بالتتريك وتضعف صلاحيات السلطان.

تختصر المسافة الزمنية بين 1847 (نشوء أول جمعية علمية في بيروت) و1908 (حصول الانقلاب التركي على العثمانية) موازين القوى التي تعدلت في ساحات القتال وانتهت بتراجع السلطنة عن شرق أوروبا وهزيمتها في وجه روسيا وخسارتها مناطق نفوذها في بلدان المغرب ومصر. إلى جانب التحولات المذكورة بدأت تنمو حركات سياسية مشرقية تطالب بالاستقلال لا بالإصلاح، في لحظة انتصار خط التحديث في اسطنبول بعد جدل فقهي وصعود وهبوط للقوى والنخب منذ القرن السادس عشر.

أثارت شعارات جمعية «الاتحاد والترقي» في الباب العالي غضب رعايا السلطنة وأسرعت في نشوء حركات ثقافية وجمعيات سياسية في المشرق العربي تطالب بالإصلاح الإداري واللامركزية أهمها: جمعية الإخاء العربي، الجمعية القحطانية، المنتدى الأدبي، العربية الفتاة، حزب العهد، وحزب اللامركزية العثمانية.

في هذه الفترة كانت الاتصالات البريطانية بالشريف حسين في الحجاز قد أحرزت بعض التقدم في العام 1912 وهو أمر اعتبرته اسطنبول مؤامرة أوروبية لتقسيم السلطنة. وأخذ الشريف حسين يكلف ابنه فيصل بعقد الاتصالات مع حزب اللامركزية في مصر والجمعيات العربية السياسية في بيروت ودمشق وفلسطين. وتتوجت تلك اللقاءات السرية في عقد «المؤتمر العربي الأول» في باريس في يونيو/ حزيران 1913 وطالب بيانه الختامي بالإصلاح على قاعدة اللامركزية. وكانت غالبية أعضاء المؤتمر من سورية وفلسطين ولبنان.

احتدم الصراع بعد المؤتمر بين حزب «الاتحاد والترقي» في تركيا والجمعيات العربية في دمشق وبيروت واتهمت اسطنبول بريطانيا وفرنسا بخيانة التعهدات واستغلال المعاهدات والاتفاقات لتفكيك السلطنة. وردت على تهمة المؤامرة البريطانية - الفرنسية بتوسيع اتصالاتها مع ألمانيا لاحتواء التلاعب البريطاني- الفرنسي.

اكتشف ضباط حزب «الاتحاد والترقي» مخاطر التحديث على وحدة السلطنة بعد قرون من المحاولات الفاشلة. فالدول الأوروبية لم تحصر علاقاتها بالسلاطين بل استغلت حاجة المركز للدعم الخارجي بالضغط عليه من أطراف السلطنة. وكانت كلما تطورت حركة التحديث (الإصلاح) في المركز كانت السلطنة تصطدم بازدياد حركات التمرد والانفصال في أطرافها ووسط رعاياها. وهو أمر كان يترك أثره السلبي على استمرار انفتاح المركز فتضطر السلطنة إلى الانغلاق للإمساك بالأطراف وإعادتها إلى رعاية السلطان.

انفتاح السلطنة على التحديث ثم انغلاقها ثم انفتاحها ثم انغلاقها ساهم في تفكيك آليات التحديث نفسه ودخوله المنطقة متشرذما من الثغرات الأهلية الضيقة. فلجأت أوروبا إلى احتضان الأقليات الدينية في محاولة منها لإلحاقها ثقافيا بمشروع سياسي مغاير للأكثرية. وتمت تلك المحاولات في سياق اختراقات كثيرة نجحت أوروبا في تحقيقها في جبهتي البلقان والهند. فانعزل التحديث في دوائر ضيقة وتأخر في مد جسوره بين الأكثرية والأقليات. ونتج عن الأمر انشداد وعي نخب الأقليات إلى الخارج وانكفاء وعي نخب الأكثرية إلى الداخل.

أدت العملية المتعرجة إلى تأخير التحديث في مركز السلطنة ايضا وساهمت في الوقت نفسه، ومن غير وعي، في تأسيس تيارات إيديولوجية مسلمة تعتبر «الأوربة» مؤامرة استعمارية تهدف إلى تفكيك السلطنة لا إلى تقدمها وتطويرها.فانقسمت النخب إلى تيارين أهليين وظهرت تباينات إيديولوجية طائفية في توجه كل تيار. التحديثيون انقسموا إلى فئات. التقليديون انقسموا إلى فئات. واختلطت توجهات الفئات والنخب الحزبية بتلاوين إيديولوجية عجزت عن تحويل الأفكار إلى واقع. وفشلت كل فئة في تجسيد مشروعها الثقافي في نموذج سياسي جاذب للمشاريع الأخرى

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2296 - الخميس 18 ديسمبر 2008م الموافق 19 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً