الكوميديا الإيطالية صورت مرحلة معينة في مجتمعنا. الآن، بعد زمن، أصبحنا نرى فيها استبصارا نقديا من المحتمل أنها لم تمتلكه. إنها تثير فضولنا أو ترفـّه عنا مثلما تفعل صفحات ألبوم الصور القديمة حين نقلبها ونكتشف أشياء مثيرة للضحك. لقد اعتدنا أن نضحك على الأزياء القديمة التي قد نجدها خرقاء، يعوزها التناسب، أو مثيرة للشفقة من وجهة نظرنا. لكن الصورة الفوتوغرافية القديمة لم يخامرها قط إحساس بأنها سوف تثير كل هذا الضحك، فوظيفتها تنحصر في إظهارنا في لحظة زمنية معينة عشناها بكل شروطها ومعطياتها.
يبدو لي أن الكوميديا الإيطالية تقع أكثر ضمن فئة المصادفة. ما قدمته كان مرضيا بذاته، غامزة بعين بحثا عن تعاطف. لذا فإن الأدوات النقدية لن تجد فيها السخط والاحتجاج. في الكوميديا الإيطالية تشعر بأن كل شخص مبتهج: المنتج، كاتب السيناريو، المخرج، الممثلون، وبالطبع الجمهور. الناس في الصالة منعكسون في الفيلم، الفيلم أيضا منعكس في الجمهور... بالتالي فإن لعبة التطابق تستمر على نحو لا نهائي في انعكاسات مضببة أكثر فأكثر، ونوايا لا يمكن إدراكها بسهولة. يتراءى لي أن ما يطفو فوق كل شيء هو الابتهاج البالي إلى حد ما، مثل قهقهة عالية وحادة يطلقها عبيد تحرروا وأطلق سراحهم، مثل حرية التعبير الفاحشة التي تجرح مشاعر الموظفين الرسميين لمجرد إقرار ابتهاجها بالنصر.
لا أحب أن أبدو شحيحا في التحدث عن أفلام لم أشاهدها كلها، ولا ينبغي أبدا أن تصنف ضمن نوع عشوائي، إنما ينبغي النظر إليها على انفراد. أدرك أن شجبها لا يعني الكثير بالنسبة لأولئك الذين يشاهدون تلك القصص التي، على نحو متواصل، تنشئ التضامن وتعزّز الرضا عن النفس، إضافة إلى سوء الفهم الأساسي في تمويه الجانب الأسوأ من ذواتنا. صحيح أن، لإثارة كل هذا، تعيّن عليهم أن يستخدموا ممثلين هزليين ممتازين، يمتلكون البراعة ونفاذ البصيرة في صفاتنا الوطنية المميزة، في رذائلنا، شوائبنا، فضائلنا، التقلصّات اللا إرادية في عضلات وجوهنا، سماتنا البدنية... مواهب هزلية موثوق بها، إيماءات حماسية مسترخية في هذا الحقل.
هناك من يقول بخبث أن الكوميديا الإيطالية تعكس جوانب ومظاهر معينة من واقعنا، أما أنت فتقوم بتحريفها وتشويهها...
لا أظن إنني أحرف الواقع على الإطلاق. أنا أصوره. ولكي أصوره -وفق أسلوب تعبير خاص- ألجأ إلى الحذف، الاختيار، الانتقاء، إعادة التجميع... من أجل تحقيق التوازن والذي هو السرد، القصة. إني أطلب من الجمهور أن يشارك في ما أفعله، في وجهة نظري، في مشاعري. هنا التعبير يمكن أن يساء فهمه باعتباره تحريفا. ربما هو كذلك، نظرا لأن الواقع مترشح ومعاد تنظيمه من أجل تمثيله. الواقع محرّف أيضا من قبل الشعر، الرسم (حتى الرسم الطبيعي) والموسيقى. إنه الفن بوصفه نظاما، بوصفه تناسقا معاد تركيبه وبنائه من اللامبالاة والاختلاط والتشوّش، والذي يفضي إلى ذلك الفهم الباطني الذي نحدّده كإحساس جمالي. بالتالي لا أعرف أبدا ما الذي يقصدونه حين يتحدثون «رغبتي في تشويه الواقع». غالبا ما يسألني الآخرون بإعجاب مشوب بالذهول لكن أيضا بتوبيخ ظاهري: «من أين تجلب كل تلك النماذج الغريبة من الشخصيات؟»
سؤال بلا إجابة، ذلك لأنني لا أبحث، ولا أجد تلك النماذج، لكنني ببساطة أراها. يكفي أن ينظر المرء إلى ذاته في المرآة ليدرك أننا محاطون بوجوه هزلية، مرعبة، مشوهة، بشعة، ذاهلة... إنها وجوهنا... وجوه الحياة.
كنت دائما محاطا بالعديد من المتعاونين، المهمين والمشهورين غالبا... هل ثمة من تعتبره الأكثر قيمة واستثنائية وحميمية بين هؤلاء؟
تعاوني مع أولئك الأفراد ليس فقط بسبب مواهبهم الفذة وما يمتلكونه من مخيلة وثقافة غنية فحسب لكن أيضا بسبب مشاعر الصداقة الحميمة التي تجمع بيننا عندما نعمل معا. مشاعر من البهجة والإثارة التي يحسها المرء عندما يزور الريف، عندما يقوم برحلة، بسفر.
هنا أنتهز الفرصة لأعبّر عن شكري لبعض هؤلاء الأصدقاء: بييرو غيراردي، مصمم المناظر. متشرد ارستقراطي. حكيم ومستقل مثل راهب بوذي. جشع، شره، وغير ناضج مثل رضيع مولود حديثا. أذكر ذات ليلة نمنا أنا وهو في السيارة عندما ضللنا الطريق أثناء بحثنا عن موقع لمشروع فيلم لم يتحقق أبدا هو:بينوكيو.
متعاون آخر حميم ومتجانس جدا هو دانيلو دوناتي. مبدع بارع ذو مخيلة غنية في ابتكار الأزياء والإكسسوارات. من وجهة نظر بصرية أعتبر ساتيريكون وكازانوفا من بين أكثر أفلامي جاذبية وسحرا.
بالنسبة لأي مخرج سينمائي، أكثر المتعاونين أهمية ليس فقط مصمم المناظر والمصور وكاتب السيناريو بل أيضا مدير الإنتاج الماهر، الحكيم، النشط، والذي يقدر أن يصير النابض الرئيسي للفيلم.
توليو بنيللي، الذي معه كتبت العديد من المشاهد، أحترمه كمبدع للحبكات. حرفي في رسم المشاهد والشخصيات. لديه مزاج وحساسية روائي حقيقي. عندما ينضم إلينا إنيو فلايانو، نشكل نحن الثلاثة فريقا مثاليا. بنيللي يشغل نفسه بالبنية السردية ليأتي فلايانو ويبذل كل ما بوسعه لهدم البنية السردية، لتهشيمها إلى أجزاء. أحيانا يكون هو مسببا للكارثة أكثر من خنزير بري في حقل باقلاء.
لكن فقط بسبب هذه الميول المتعارضة تماما، يمكن لتلك الجوانب من الجدران التي ظلت قائمة بين الأنقاض أن تعتمد عليها لدعم بنية السرد. أنا وفلايانو كنا نتقاسم حس الدعابة ذاتها بشأن كل شيء: النزوع إلى العمل ببرود ورباطة جأش، التمازح، التهريج، إضافة إلى لمسة من السوداوية العصابية التي تقربنا من بعض.
لقاءاتي مع برناردينو زابوني كانت محفزة. لقد عملنا معا بشكل جيد، وتقاسمنا التجارب ذاتها والمغامرات ذاتها: جريدة مارك أوريليو، رفع ستارة مسرح الفودفيل (المنوعات)، الولع ذاته والحماسة ذاتها التي كنا نشعرها تجاه: إدغار ألان بو، ديكنز، لوفكرافت، شؤون السحر والتنجيم، الأشباح، المغامرات الميثولوجية، الخيال العلمي.
مع تونينو جويرا كتبت أماركورد، السفينة تبحر. معا نتقاسم اللهجة الإيطالية ذاتها، طفولة قضيناها بين نفس التلال والثلج والبحر وجبل سان مارينو. المناطق التي ولدنا فيها تبعد عن بعض بمسافة تسعة كيلومترات. في طفولتي كنت أذهب بدراجتي الهوائية مع أقراني إلى بلدة تونينو: سانت أركانجيلو. كان يبدو لنا أن الأهالي هناك يتكلمون بلغة أخرى. في ريميني كانوا ينظرون إلى تلك البلدة بوصفها مستعمرة لم يصل إليها المبشّرون بعد.
لكن التعاون الأكثر قيمة، وأقولها بلا تردد، هو تعاون المؤلف الموسيقيّ نينو روتا. بيننا ذلك التفاهم الكلي والشامل، بدءا من «الشيخ الأبيض»، الفيلم الأول الذي عملنا فيه معا. التفاهم بيننا لم يكن بحاجة إلى أداة ضبط أو تعديل من أي طرف. لقد قررت أن أصبح مخرجا سينمائيا وهو كان قريبا ومتاحا، كما لو كان موجودا في الموضع الصحيح لكي أتمكن من متابعة مسيرتي السينمائية كمخرج.
نينو يتمتع بمخيلة هندسية ورؤية موسيقية جديرة بالعوالم السماوية، إلى حد أنه لم يكن يحتاج أن يرى ما سوف تبدو عليه أفلامي. عندما كنت أسأله أي الثيمات الموسيقية خطرت في ذهنه لهذا المشهد أو ذاك، يتضح على الفور أن أي مشاهدة تمهيدية أو عرض مسبق غير ضروري على الإطلاق. عالمه هو العالم الداخلي، الباطني، حيث لا يمكن للواقع أن يخترقه إلا بصعوبة وبجهد بالغ. كان يعيش الموسيقى بحرية وطمأنينة شخص يعيش في أبعاده الخاصة على نحو عفوي.
كان الكائن الممسوس بخاصية نادرة، خاصية ثمينة تنتمي إلى مملكة الحدس. إنها هذه الموهبة التي جعلت منه إنسانا بريئا ومحبوبا وسعيدا إلى هذا الحد. لكن لا تسئ فهمي، عند الضرورة بوسع نينو أن يقول أشياء عميقة تتسم بحدة الملاحظة، بوسعه أن يصدر أحكاما نفاذة على نحو مؤثر بشأن الأفكار والبشر. مثل الأطفال، مثل أرواح بسيطة، مثل حساسيات معينة، ببراءة وصراحة يطرح ملاحظات رائعة... .
أثناء العمل في أفلامي اعتدت أن استخدم اسطوانات معينة لتخدم كخلفية للمشهد. بإمكان الموسيقى أن تتحكم بمشهد ما، أن تمنحه إيقاعا، أن تساعد في اقتراح حل، أن توحي بموقف شخصية ما. هناك ثيمات موسيقية أسجلها وأجلبها معي... ثيمات تتصل بمشاعر معينة. وما يحدث عندما أنتهي من تصوير الفيلم هو أنني أصبح مغرما بهذا التسجيل الصوتي المرتجل ولا أرغب في تغييره. ونينو عادة يتفق معي في الحال قائلا بأن الثيمات المستخدمة أثناء التصوير هي جميلة جدا (رغم أنه في الحقيقة يراها مبتذلة أو عادية) زاعما أنها مناسبة جدا وليس بإمكانه أن ينجز أفضل منها. وفيما هو يتحدث ألاحظ أصابعه وهي تنقر بلطف أصابع البيانو. بعد قليل، عندما أسأله: «ما هذا، ما الذي كنت تعزفه؟» فيرد نينو بنبرة حائرة، شاردة: «متى؟»... أقول بإصرار: «الآن... بينما نتحدث كنت تعزف شيئا، ما هو؟»... فيجيب: «حقا؟ لا أعرف... لا أتذكر»... ثم يبتسم كما لو يريد تهدئتي.
بهذه الطريقة تولد الثيمات الموسيقية الآسرة لأفلامي، والتي تجعلني أتغاضى عن اقتراحاتي بشأن المقطوعات القديمة المستخدمة أثناء التصوير. هكذا كنت أقف هناك، قرب البيانو أتحدث إليه عن الفيلم، شارحا ما أريد التلميح إليه مع هذه الصورة أو تلك، مع هذا المشهد أو ذاك، بينما هو يلاطف أصابع البيانو دون أن يعيرني أي انتباه، ويبدو كأنه يفكر في شيء آخر في حين يهز رأسه بالإيجاب مصدّقا على ما أقول دون أن يسمع مني كلمة واحدة. لحظتها يكون هو مستغرقا في شأن آخر، إذ يقيم اتصالا مع ذاته الباطنية، مع الثيمات الموسيقية الموجودة حينذاك في داخله. وعندما يتوطد ذلك الاتصال، لا يعود يوجّه لي أي انتباه، لا يعود يصغي إليّ، بل يضع أصابع يديه على البيانو ويغيب مثل وسيط هو صلة الوصل بين العالم الدنيوي وعالم الأشباح، مثل فنان حقيقي.
في النهاية كنت أقول: «هذا حقا جميل»... لكنه يرد: «أنا لا أتذكر».
قد تحدث كوارث مع أجهزة التسجيل وأنظمة الصوت. تلك أشياء لابد من إصلاحها وتقويمها دون أن يعرف هو ذلك، وإلا فإن اتصاله بالعوالم السماوية سوف يتعرّض للخرق والانقطاع.
العمل مع نينو روتا هو فعلا متعة حقيقية. قدرته الإبداعية جعلتني أشعر بحميمية تجاهه، إلى حد أنه ألهب فيّ نوعا من الطيش ومنحني الإحساس بأنني، أنا نفسي، أخلق الموسيقى.
كان نينو يصل في نهاية التصوير عندما تكون وطأة إعادة اللقطات والمونتاج وتسجيل الصوت أو الحوار في ذروتها. لكن حالما يصل تتغير الأمزجة ويخف التوتر، والحال ينقلب إلى ما يشبه النزهة. ندخل عالما رائقا وسعيدا، وفي جو يتخذ خاصية حياة جديدة. لكن نينو يفاجئني حقا، بعد أن يساهم بالكثير من المشاعر والكثير من العاطفة، في الموقع، يلتفت ويشير إلى الممثل الرئيسي سائلا: «من يكون هذا الشخص؟» فأجيبه: «هذا بطل الفيلم»... وبنبرة عتاب يقول: «ما الذي يفعله... أنت لم تحدّثني عنه أبدا».
الصوت كان يغذي صداقتنا. شخصيا أفضّل ألا أستمع إلى الموسيقى خارج أعمالي. إنها تتحكّم فيّ، توتر مزاجي. أصبح ممسوسا بها. إني أحمي نفسي برفضها، بالفرار منها مثلما يفعل اللص الذي يهرب من الإغواء. ربما ذلك أيضا ضرب من التكييف الكاثوليكي: واقع أن الموسيقى تسبب لي الانقباض، تجعلني مثقلا بالندم، تعذبني بتذكيري ببعد التناغم والتناسق، بُعد الأمن والطمأنينة، بُعد الكمال الذي أنا مبعد عنه، منفيّ عنه. الموسيقى قاسية. إنها تملؤني بالحنين إلى الماضي، بالندم والأسف، وعندما تنتهي الموسيقى لا أعرف أين تمضي وتختفي. أعرف فقط أن المكان الذي ذهبت إليه لا يمكن الوصول إليه... وهذا يحزنني.
أنا حتى لا أقدر أن أصغي إلى شخص ينقر بأصابعه على الطاولة دون أن يعتريني فجأة القلق والانزعاج، واشعر بضيق في التنفس. أما نينو، فبوسعه أن يكون وسط فرقة تعزف على نحو ضاج واحدة من مقطوعاته، ومع ذلك يكتب نوتة ثيمة أخرى لا يسمعها أحد غيره.
لماذا لم تحقق حتى الآن أي أوبرا من تأليف نينو روتا؟ هل لديك التحفظات ذاتها بشأن الأوبرا كما الحال مع الموسيقى عموما؟
للأوبرا مظهر جنوني والذي هو حقا فاتن. تحفظي الوحيد هو أنني لا أعرف شيئا عن الأوبرا. أعني، أعرف أن الأوبرا جزء من طبيعتي الإيطالية، مثل الرماة، غاريبالدي، الأباطرة الرومان. هناك أوبرات في شكل أنغام ظلت معي على الدوام. كنت دائما أستمع إليها. رأيت كل عماتي وخالاتي، كل أقاربي، ينتحبون كلما أنشدوا مقاطع من الأوبرا. هذه الأشياء تظل بداخلنا إلى حد أنها، مثل اللاوعي، تتحول لتصبح غريبة. إني أشعر تجاه الأوبرا بالألفة التي يشعرها الغريب، الدخيل، اللا منتمي... وهو نفس شعوري تجاه المدرسة أو الأماكن التي نقضي فيها العطل أو الأشياء التي تنتسب إلى طائفة معينة أو الأشياء التي لها خاصية طقسية: أمور كهذه غالبا ما تولد لدي إحساسا بالغربة، بالمغايرة، بالوحدة.
في شبابي لم أصادف شخصا لم يكن ينشد واحدة من تلك المقاطع الموسيقية الغامضة الواردة في إحدى الأوبرات: الحدّاد الذي كان يأتي لتصليح المرجل يعمل وهو يغني، ذاك الذي يحشو الفراش يذرع البيت وهو يغني. كذلك خدم المنازل، المخلوقات الغريبة، ذاك الذي يشحذ السكاكين، كناس الشارع. ولو سألت واحدا منهم: «لم تقول، لو كنت ذلك المحارب؟» لأجابك بأن ذلك وارد في الأوبرا ولسوف يشرع في رواية الحبكة. وتلك الحبكات غالبا ما تكون كئيبة، رهيبة، عن ثأر وحشي عنيف، وعن عشاق مخذولين هم أشبه بالأموات من فرط اليأس والعجز.
ثم هناك السكارى الذين يغنون الأوبرا. كنت دائما أخلط بين الأوبرا والسكارى. في الليل، كان هؤلاء السكارى، الوحيدين في الميدان، بستراتهم المتدلية حتى الأرض، يغنون مقاطع من الأوبرا بأعلى أصواتهم: أولئك السكارى كانوا، بالنسبة لي، أول منشدي الأوبرا.
في طفولتي، كان منزلنا في ريميني المنزل الأخير الواقع في شارع سان جوليانو. مباشرة وراء المنزل كان الطريق الريفي الذي يؤدي إلى بلدة سيسينا المجاورة. في ريميني كان لدينا مسرح فيتوريو إيمانويل، لكنني لا أتذكره جيدا لأنه غالبا ما يكون مغلقا بسبب التصليحات. الأوبرا كانت تقدم في صالة بونسي في سيسينا، وبما أن الملصقات كانت توضع في ريميني أيضا، فقد كان أكثر من نصف سكان ريميني يذهبون إلى سيسينا عبر الحافلات، السيارات، القطار الذي يتوقف في جميع المحطات، ليشاهدوا ويستمعوا إلى الأوبرا.
في الرابعة صباحا كنت أسمع أصوات العائدين من سيسينا، أصواتهم المتثاقلة بفعل النبيذ، وهم ينشدون المقاطع إما على نحو ثنائي أو كورَس جماعي. وأنا أشاهد ذلك الجمع العائد من سيسينا على دراجاتهم الهوائية، أو داخل حافلات وعربات، أو سيرا على الأقدام، بينما الظلام لا يزال مخيّما، أتخيلهم جيشا غازيا يعود إلى دياره بعد أن شنّ غارة على جيرانه.
ذات فجر، وفيما ضوء النهار يهبط على مهل، في ذلك الصفاء الغامض اقترب أحدهم، وكان مهووسا بالموسيقى، توقف تحت نافذتنا وقال لي: «إذهب واستدع أبيك وأمك»...
كان قد استمع إلى إحدى تلك الأوبرات، وبصوت جميل جدا شرع في الغناء، وبدأ حشد من الناس يصطفون وراءه. ثم فجأة اعتل جسمه بسبب إفراطه في شرب النبيذ، فأدخلوه منزلنا وأجلسوه على كرسي هزاز حيث بدا لي ميتا، غير أنه بعد قليل بدأ يغني ثانية لكن بصوت خفيض وعينيه مغمضتين.
كنت دائما أشعر بأنني أشبه الغريب، اللا منتمي، الذي يحمل إحساسا مبهما بالذنب بسبب عدم رغبته في المشاركة في هذا الطقس الإيطالي الجماعي الدافئ، المتقد، الحميم.
لماذا لم استطع التسليم بجانبي الإيطالي الخفيّ؟ هذا الطقس العميق، الفاحش بلطف، الذي يسيّجنا جميعا مثل الغشاء الذي يحيط بالجنين؟
ذلك لأنه يبدو لي أن الأوبرا -بمؤثراتها المدهشة، مظاهرها الخارقة أو المنتهكة، موضوعاتها الرهيبة من مدافن وثأر وعشق يمتد من هنا حتى حدود الخيال- تعبّر، هذه الأوبرا، بدقة وعلى نحو صحيح عما يحدث، حتى بواسطة الأخطاء التي ترتكبها. الأوبرا لا توجد على نحو منفصل أو مستقل عما يحدث. لسنوات طويلة هي تواجدت جنبا إلى جنب مع وحدة إيطاليا، الحرب، الفاشية، المقاومة.
كيف نشرع في استعادة نقائها الأصلي؟ الأوبرا طقس، قدّاس، أنشودة راع. مع ذلك فإن النتاج الراهن يجب أن يلقى الاحترام لما فعله، حتى في أساليب الحياة المختلفة في إيطاليا. لماذا نحاول جلب صرامة في التعبير إلى هذا الشكل بدلا من جعله يستل حيويته من حقيقته هو فحسب؟
لا أظن أن عدم اشتغالي في مجال الأوبرا عائد إلى خوفي من الفشل... ليس لدي مخاوف. لكن قد يصبح العمل نتاجا زائفا. إن ما يكبحني هو احترامي لعملي الخاص، والذي يجعلني غير مؤهل لفعل شيء آخر. اعترف بجهلي الكامل بخشبة الأوبرا. إذا اشتغلت هناك فسوف يحاول العاملون إرضائي بأية وسيلة حتى لو كانت مطالبي مستحيلة. أيضا سوف يتعين عليهم إخباري بما يتعين عليّ عمله. لو كانت لديّ على الأقل أفكار ثورية بشأن الأوبرا لكان هذا دافعا قويا.
ذات مساء شاهدت في التلفزيون إعدادا صاخبا لأوبرا La Traviata، بدا لي المخرج والمصور كما لو يتحركان ذهابا وإيابا عبر الخشبة مثل أبوين ينتظران مولودا في جناح مستشفى الولادة. الكاميرات تقترب بحركة زوم من كل شيء: من السجاد، من الأحذية، من مسامير في ألواح، من حشوة سن ذهبية في أفواه المؤدين.
لكن على الرغم من ذلك الإعداد غير المتقن، ووجوه المغنين، ومع إني كنت جالسا وحدي في بيتي، في غرفة صغيرة مضاءة بمصباح كهربائي، بينما تصل إلى مسامعي، من حين إلى آخر، ولولة سيارات الشرطة في الشارع وهي تندفع مسرعة، ولا أحد يعلم إلى أين... على الرغم من كل هذا، فقد أمضيت الأمسية بأسرها وأنا أبكي. مع نهاية الفصل الأول انخرطت في البكاء. وعندما ابتدأ الفصل الثاني، ومباشرة مع حلول النغمة الموسيقية الثالثة، شرعت أبكي مرة أخرى، مبتهجا لكوني أفعل ذلك... لكوني أبكي.
ربما تلك الأوبرا، لا ترافياتا، بلغت حد الكمال، وتجسّد عالما من العاطفة المحضة. حتى المعتوهين، العاملين في التلفزيون، لا يستطيعون تدميرها أو تخريبها. وإذا كان الأمر كذلك، فمن يستطيع أن يفعل لها أكثر مما فعله فيردي؟
شاشة بحجم وسادة
أفلامك: المهرجون، روما، أماركورد (أنا أتذكر)... بداية السبعينيات هي بداية مرحلة إبداعية أخرى... هل كانت هذه المشاريع مطمورة في الذهن ومتصورة في وقت مبكر؟
يبدو لي أن كل مشاريعي المنجزة لم توجد مبكرا فحسب، إنما كانت موجودة دائما وباستمرار، وهي لم تنبثق بكل إمكانياتها الإغوائية إلا عندما حانت لحظتها وفرضت نفسها بقوة. ذلك أشبه بالقلاع الصغيرة، الكائنات الحية الصغيرة، النوى الصغيرة، التي تشكـّل نفسها بينما أكون منهمكا في العمل في مكان آخر، وكل ما يتعين علي أن أفعله هو أن أتعرّف عليها، أميّزها، وأقبلها. لم أشعر طوال هذه السنوات أنني أتطور، بل كنت ببساطة أنطلق عبر خط رحلة كان معينا وموطدا من قبل. وكان علي أن أحصر نفسي في ملاحقة مهمة معينة، في إقامة حدودها، رسم محيطها، بمعنى آخر لتسهيل ذلك المجال الكامل من المهن، المعمل، الأستوديو.
دوما أصل في اليوم الأول من تصوير الفيلم دون أن أختار بعد كل الوجوه-الأشخاص لتأدية الشخصيات. وحدة الإنتاج تكون في حالة يأس. المنظمون ينظرون إليّ شزرا، لكنني بإيمان لا عقلاني أريد أن أستمر. أعلم أن الشخصيات سوف تظهر على غير توقع. لقد حدث ذلك عشرات المرات وسوف يحدث ثانية. بل أنه حدث قبل تصوير فيلم «السفينة تبحر». بين الشخصيات التي لم أعثر عليها قبل ليلة من تصوير الفيلم كان أكثرها أهمية: أميرة في البلاط المساوي-الهنغاري، العمياء منذ الولادة.
لم تكن لدي أي فكرة عما كنت أبحث عنه، عما أريده، أي وجه، أي ممثلة. لم يكن لدي أي مرجع، أي إطار حقيقي، والذي على أساسه يتم اختيار مثل هذه الأميرة. لم أعرف في حياتي أي أميرة. لكن ذات أمسية صاخبة، في إحدى مقصورات المسرح الأرجنتيني، وسط رفرفة من المناديل والأبواب التي تنفتح وتنغلق، رأيت أمامي أميرتي النمساوية، هادئة، رابطة الجأش، شفافة، وبملابس سوداء. كان اسمها بينا بوش: أشبه براهبة تتناول الآيسكريم، قديسة على مزلجة تتزحلق، وجه ملكة في المنفى، وجه إحدى المشرفات على جماعة دينية، وجه قاضية في محكمة دينية والتي فجأة تغمز بعينها. بوجهها الأرستقراطي، الناعم والقاسي، الغامض والمألوف، المتقلص في صلابة ملغزة، ابتسمت لي بينا بوش محيية... ويا للوجه الجميل! واحدة من تلك الوجوه المقدّر لها أن تشلـّنا، هائلا ومقلقا، على شاشات الصالات السينمائية.
لم أكن أعرف شيئا عن بينا بوش. علاوة على ذلك، أقرّ بقصوري... أبدا لم أكن أعرف الكثير عن الأوبرا أو الباليه. كنت واقفا هناك، في مستوى الأوركسترا، عندما اعترتني رغبة مفاجئة في التجول عبر الأروقة لرؤية ما يحدث خلف الكواليس أو في الردهة الخالية. يخجلني قول ذلك، لكنني شعرت بالضجر فلم أبق حتى النهاية. لكنني رأيت مشهد بينا بوش من البداية حتى النهاية وتمنيت لو استمر فترة أطول.
إني أتفق مع القائل بأن مثلما الفرد يعبّر عن الجزء السري، الغامض، غير المستكشف من ذاته من خلال الأحلام التي تكشف لا وعيه الخاص، إضافة إلى اللاوعي الجمعي، كذلك يفعل الجنس البشري الشيء نفسه في تأويل الإبداعات الفنية. هذا يعني أن الخلق الفني ما هو إلا نشاط حلم البشرية، وأن الرسام والشاعر والروائي، وحتى المخرج السينمائي، عن طريق تطوير وتنظيم مواهبهم الخاصة، يعبّرون عن اللاوعي الجمعي ويكشفونه على الصفحات أو الكانفاس أو الشاشة. وفق هذه الرؤية تتقوّض مسألة الحدود والقيود المفروضة على الفعالية الفنية.
هل بالإمكان استهلاك اللاوعي؟ هل يمكن أن يكون له تخوم ونهايات؟ هل تنتهي الأحلام في أي وقت؟
إن نشاط حلم الجنس البشري، الذي يبدو آليا، يصبح تقنية فنية، لغة بصريات، رموزا. والفنان عبر إبداعه يعي الوسيلة لترتيب شيء موجود سلفا، وجعله يزهر أمام الحواس والعقل. ذلك هو النموذج الأصلي للإبداع الذي يحدد نفسه المرّة تلو الأخرى، السفر من الفوضى إلى التناغم، من ما هو مختلط ومراوغ إلى النظام والاكتمال، من اللاوعي إلى الوعي. بالنسبة للفنان، أظن أن الإحساس بالفعل أقوى من الإنجاز نفسه.
يبدو لي أن أي شخص يعمل للتعبير عن شيء فإنه يعمل من خلال ذلك التعبير ويسعى قبل كل شيء إلى توصيل مبرره الخاص للوجود وسعادته الخاصة. وأي نقد يتجاهل ذلك الشرط يصبح شكلا خطيرا، ضبابيا، من أشكال حب الذات. بزهوه وغروره يقود النقاد إلى الحديث بحماقة عن ما هو نفسه قد فعله. بالتالي هو تقريبا يخون الظاهرة المتعذر تعريفها أو تحديدها داخل نفسه
العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ