العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

أي شرّ صعق جيلنا

بين فيلميك «جولييت والأرواح» و«توبي داميت» (و هو جزء من فيلم «أرواح الموتى») كان هناك انقطاع لمدة ثلاث سنوات. في «توبي داميت» تراءى لي أني أسمع صوت ناقوس جنائزي... أعلم أنك كنت مريضا جدا وتفكر في مشروعك الذي لم ينفذ أبدا: رحلة ماستورنا...

من كان يعرف هوية ذاك الرجل الوارد اسمه في كشك تليفون مدينة ميلانو، الذي دخلته عشوائيا باحثا عن اسمٍ لبطل قصة كنت أنوي تأليفها، والتي حتى ذلك الحين كانت تحمل عنوان «الرحلة».

صديقي دينو بوزاتي، البارع في ابتكار الأسماء الغريبة والرنّانة في الوقت نفسه، اقترح عشرين اسما وأنا أصغي مستمتعا بطريقته الملفتة في لفظ الأسماء. لكن بعد نصف الساعة، طلبت دليل الهاتف، ومنه جاء اسم ماستورنا.

لقد تحدثت عن هذا المشروع كثيرا. مرتان أو ثلاث مرات في السنة يأتي صديق صحفي ويسألني عن هذا المشروع وما إذا سيتم تنفيذه قريبا، وأنا بثقة تامة كنت أجيبه بنعم.

في الحقيقة عندما أنتهي من تحقيق أي فبلم، يظهر شبح هذا المشروع المضلل ويطالب ببعثه إلى الحياة. وفي كل مرّة يحدث شيء ما فيغوص ثانية إلى الأعماق حيث يكمن، كما هو الحال منذ حوالي عشرين سنة... ومن هناك يستمر في إرسال سوائله المدهشة وتياراته الاشعاعية التي غذت كل الأفلام التي حققتها بدلا منه.

أنا على يقين من أن، بدون «ماستورنا»، ما كان ممكنا تخيّل «ساتيريكون» Satyricon، أو على الأقل، ما كان ممكنا تخيّله بالصورة التي ظهر بها... كذلك الحال مع: كازانوفا أو «مدينة النساء». بل وحتى «السفينة تبحر» و»بروفة أوركسترا» يدينان بشيء ما إلى «ماستورنا».

الغريب أن القصة، على الرغم من أنها كانت تغذي بسخاء العديد من أفلامي الأخرى، تظل محتفظة ببكارتها، على نحو معجز، في بنائها السردي. هذه القصة لم تفقد البعد ولا الجوهر، وتبقى دائما الأكثر حقيقية من بين كل القصص التي كان بمقدوري تخيلها.

لا أعرف كيف أعلـّل المصير الغريب لهذا «الفيلم». ربما هو ليس فيلما على الإطلاق بل تذكير، حافز، مرشد قصة. ربما يؤدي الوظيفة نفسها التي يؤديها أولئك العمال الذين يسحبون البواخر عابرة الأطلسي خارج الميناء. باختصار، هو شيء وُلد لا ليتحقق بل ليسمح لغيره أن يتحقق... ضرب من اليورانيوم الخلاق الذي لا ينضب.

ذات مرّة في غرفة انتظار بمطار كوبنهاجن، رأيت حقيبة سفر معدنية ذات حواف منبعجة إلى حد ما. شخص ما وضعها قربي على الأرضية. قرب مقبض الحقيبة كان اسم «ماستورنا» مكتوبا على بطاقة تعيين الهوية. نظرت حولي باحثا عن صاحب الحقيبة، لكن مكبّر الصوت أعلن عن موعد انطلاق الطائرة. ومع أنني كنت أتوق إلى البقاء هناك لأرى وجه هذا المسافر الغامض، إلا أنني وجدت نفسي مدفوعا نحو المخرج من قبل المسافرين المغادرين. الحقيبة ظلت هناك وحيدة تماما، متروكة على أرضية غرفة الانتظار التي أضحت الآن مهجورة، ثم تدريجيا بدأت تمتلئ بمسافرين جدد. فقط في اللحظة الأخيرة، عندما كنت في الحافلة التي سوف تنقلنا إلى الطائرة، بدا لي أني أرى عبر النافذة شخصا ينحني ليلتقط الحقيبة. كانت امرأة. امرأة سوداء.

ألا ترغب في إعطائنا هذه المرّة ولو تلميحا عن ما يتحدث عنه هذا العمل... رحلة ماستورنا؟

ما أن يطلب مني شخص معلومات عن فيلم أنا على وشك تحقيقه حتى يشبّ فيّ خوف لا شعوري، والذي بسرعة ورشاقة يواري الفيلم مثلما يفعل دخان الشاشة حين يغيّر، يشوّه، يحجب لغرض الوقاية. لهذا السبب أروي لأصدقائي الصحفيين قصة مختلفة عن فيلم مختلف. ربما هو شكل عدائي من أشكال التواضع أو الغيرة أو اليقظة الشديدة. إني أخشى على حياة ذلك المشروع الكامن عاريا وبلا دفاع في حيّز سريع التأثر وغير حصين. أن تناقشه يعني أن تخونه، والأسوأ من ذلك أن تجازف بتعديل شكله الافتراضي المتعذر تحديده. أيضا لدي إحساس بأن التحدث عن الفيلم قبل تحقيقه هو فعل طائش وغير حكيم... أشعر عندئذ بأني أشبه الشخص المتبجح، المتغطرس والفظ، الذي يبث الإشاعات عن امرأة متزوجة لا يعرف عنها شيئا.

ما جدوى كل هذا اللغو؟ ما جدوى استباق معرفة شيء والذي، عندما ينتهي، ربما يصبح شيئا مختلفا تماما عن ذلك الذي تصورته؟

لو تعيّن علي في النهاية -بدافع المجاملة أو الإنهاك أو الصداقة أو الزهو- أن أشرع في الحديث عن «ماستورنا»،فإنني أشك في قدرتي على إيصال معنى الفيلم.

يمكنني القول مرّة أخرى أن الفيلم عبارة عن رحلة هي نتاج مخيّلة أو حلم، سفر في الذاكرة، في الكبح، في متاهة لها مخارج لا متناهية لكن ليس لها غير مدخل واحد فقط، وبسبب ذلك فإن المعضلة الحقيقية ليست في الخروج إنما في الدخول.

و بوسعي أن أستمر بوقاحة مثرثرا بخصوص التعريفات والأمثال في هذا الشأن. على أية حال، «ماستورنا» هو تلميح لفيلم، ظل فيلم، الفيلم الذي لا أعرف كيف أحققه.

إذن لندع «ماستورنا» جانبا ونتحدث عن رحلة أخرى، نحو العالم الوثني القديم الذي كتب عنه بترونيوس: ساتيريكون...

ساتيريكون كان، مع كازانوفا، الديكاميرون، أورلاندو فوريوسو، من الأفلام التي وعدت المنتجين أن أحققها منذ أن كنت أعمل في فيلمي vitelloni . في الواقع، لم أكن أتوقع أبدا أن أفي بتلك الوعود. لكن أثناء فترة نقاهتي من حساسية مرضية ألمّت بي، أعدت قراءة بترونيوس وكنت مفتونا بعنصر لم أنتبه إليه من قبل: الأجزاء المفقودة... أعني، الفراغات بين جزء أو مقطع وآخر.

أذكر في المدرسة، حين كنا ندرس شعراء مرحلة ما قبل بندار (الشاعر الإغريقي) كنت أحاول أن أتخيّل ملء الفراغات بين أجزاء القصائد المتنوعة. معلمنا كان مثاليا إلى حد الحماقة في توقـعه من مراهقين أغبياء أن يكونوا متحمسين للغاية وهم يستمعون إليه يلقي بصوته الرقيق بيتا من الشعر جاء فيه: «شربت وأنا أتكئ على رمحي الطويل»... وهذا أثار عند التلاميذ استجابات بذيئة وسوقية، وكنت المصدر لقصف صاخب عندما ابتكرت سلسلة من الأجزاء التي كنا ننوي أن نقترحها بوقاحة وصفاقة.

لكن حكاية ملء الأجزاء كانت قد سحرتني حقا. كنت مأخوذا بفكرة أن غبار القرون قد صان نبضات أفئدة ساكنة إلى الأبد.

بينما كنت أقضي فترة النقاهة في مانزيانا، صادفت كتاب بترونيوس في المكتبة الصغيرة التابعة للفندق العائلي الصغير حيث كنت أقيم. ومرّة أخرى شعرت بعاطفة قوية وانفعال شديد. الكتاب استحضر أعمدة من رخام، رؤوسا بعيون مفقودة أو أنوف مهشمة، هيئة مقبرة، متاحف خاصة بالآثار القديمة: أجزاء متفرقة، مكبوحة ومنسية في الجانب الأكبر، تصبح وحدة كاملة بفعل ما يُسمى الحلم. ليس بواسطة ملحمة تاريخية مبنية من جديد فيلولوجيا (المتصل بفقه اللغة التاريخي والمقارن) من الوثائق المثبّتة والمؤكدة صحتها على نحو قاطع لا يعتريه الشك، إنما بواسطة مجرّة من حلم كبير كان غارقا في الظلام والآن يظهر لنا بازغا وسط تفجرات وهاجة ومتقدة من الضوء.

أظن أنني كنت خاضعا للإغواء بإمكانية إعادة بناء هذا الحلم بشفافيته المحيرة، بوضوحه غير القابل للقراءة. الشيء نفسه يحدث مع الأحلام الحقيقية. إن لديها جوهرا من خلاله نحن نعبّر عن أنفسنا بعمق، لكن في ضوء النهار يكون اتصالنا الواعي الوحيد معها باعتبارها مفاهيم فكرية. لذلك تظهر الأحلام لعقولنا الواعية بوصفها سريعة الزوال، غريبة، ولا يسبر غورها.

كنت أقول لنفسي، العالم الغابر لم يوجد أبدا، لا شك أننا حلمنا به. مهمتي ستكون إزالة التخوم بين الحلم والخيال، اختراع كل شيء، إعطاء الفنتازي شكلا محسوسا.

ما الذي تتذكره عن تأثير فيلمك «ساتيريكون» على الجمهور؟

العرض الأول للفيلم كان في ماديسون سكوير جاردن بنيويورك، مباشرة بعد حفلة روك صاخبة. حضر العرض حوالي عشرة آلاف شخص. وكان بإمكانك أن تشم رائحة الهيروين والحشيش من خلال دخان السجائر.

ذلك الجيش الخرافي من الهيبيين شكـّل مشهدا مذهلا، غير اعتيادي، ولافتا للنظر، حيث تراهم قادمين على دراجاتهم البخارية الرائعة وفي سياراتهم المتعددة الألوان المضاءة كلها بالمصابيح. كان الثلج يتساقط، وناطحات السحاب في مانهاتن كانت كلها مضاءة بينما الثلج الهاطل يتلألأ في الليل.

العرض كان ناجحا. الشبان صفقوا استحسانا لكل مشهد. الكثيرون ناموا، العشاق كانوا يمارسون الحب في الصالة. وسط الفوضى الشاملة استمر الفيلم بلا هوادة في تسليط صوره على الشاشة العملاقة التي بدت كما لو تعكس ما يحدث في الصالة. على نحو يتعذر التنبؤ به، على نحو غامض، في ذلك الجو والمحيط، بعيد الاحتمال، بدا أن ساتيريكون (الفيلم) قد وجد موقعه الطبيعي. الفيلم لم يعد ملكي، خاصا بي، في ذلك الإفشاء المفاجئ لأسرار مفهومة ضمنا، لروابط دقيقة، متواصلة، غير منقطعة، بين روما الغابرة القاطنة في الذاكرة وذلك الجمهور الرائع الذي ينتمي إلى المستقبل.

كيف ينظر إليك الشبان؟

أنا لا أعرفهم. لا أعرف أين يكونون أو ماذا يفعلون. بإمكاني طبعا أن أحاول واكتشف كل ذلك... لكن مهمة كهذه، أليست فاترة وتثير الرعشة؟

إني أسأل نفسي، ما الذي حدث في نقطة معينة من الزمن، أي نوع من الشر قد صعق جيلنا بحيث صرنا فجأة نطل على الشباب وننظر إليهم بوصفهم رواد ضرب من الحقيقة المطلقة؟

الشباب، الشباب، الشباب... يبدو أنهم قد جاءوا على سفن فضائية. يعرفون كل شيء، لا يقولون لنا شيئا، لا يريدون أن نزعجهم بجهلنا، أخطائنا... ...

لا بد أن الرغبة الملحة هي التي تدفعنا لكي نرى الأشياء تبدأ من جديد، من البداية. وهناك إدراك بأننا تعرضنا للهزيمة بفعل افتقارنا للثقة بالنفس، هذا الذي يحثنا، على نحو صادم، أن نسلـّم كل المفاتيح إلى أولاد صغار لا يعرفون مطلقا كيف يستخدمونها.

إنه أمر فاتن ورهيب التفكير في ما وقع من أحداث بين 1950 و1970 والذي أجبر أجيالا أكثر حكمة أن تتخلى عن نفوذها وتسلـّم سلطتها إلى جيل كفّ لتوه عن اللهو بالدمى.

وحده الجنون الجماعي قادر أن يجعلنا نعتبر فتية في الخامسة عشرة من العمر أسيادا لنا، ومنبعا لكل حقيقة.

ربما لأننا سئمنا من السادة الزائفين المخادعين الذين، في مجابهة كل الخراب والدمار الذي حلّ بكل ما آمنـّا به، أرادوا إخراس أصواتنا كي لا نقول شيئا بعد الآن.

الإرهاب... هل تظن أنه، إلى مدى معيّن، يمكن أن يكون نتيجة منطقية، تكملة، لكل ما حدث؟

هنا أيضا لا أملك الإجابة. لكن الوضع لا يبدو بمثل هذا التبسيط بالنسبة لي. الإرهاب واقع حاولت أن أفهمه. كيف يمكن لشاب أن يطلق النار على رأس شخص لا يعرفه ويعتقد أنه يستطيع أن يعيش مع تلك الجريمة طوال حياته؟ أي مرض حلّ به؟

ربما اعتدنا، بسهولة تامة، التفكير بأن الحرب تبرّر الجريمة. حتى شعرائنا المفضلين والمحبوبين يعتقدون ذلك. لكن حين لا تكون هناك حرب فإن الجريمة تصبح وحشية أكثر ويتعذر الدفاع عنها. أستطيع أن أفهم، بمشقة بالغة، إطلاق النار على شخص نعتبره عدوا، لكنني أجد صعوبة في تخيـّل إمكانية محو الإحساس بالإثم.

هتلر، ستالين، الطغاة الكبار، كانوا يمتلكون قوة اللاوعي الجماعي المجسّم في ذواتهم. أصبحوا مركز الرغبات الشريرة والسريّة، وجسّدوا الجنون الجماعي.

لكن ما الذي يدفع العامل، الإنسان العادي، إلى إقرار القتل والقبول به؟ هل هو عقله الواهن، مشاعره البدائية؟ هذا يجعلنا نؤمن بأن في زوايا معينة من النفس، نحن لا نزال نحتفظ بالقسمات أو المعالم الوحشية لإنسان بدائي هو أقرب إلى الحيوان.

أنا لا أحترم أولئك الذين، باسم المنظور التاريخي، يطلبون منا أن نحجم عن إدانة الإرهاب لأن جرائم معينة ربما سوف تعتبر أفعالا وطنية في المستقبل. أنا لا أملك على الإطلاق ذلك النوع من الحس التاريخي. إنه منظور لا يعنيني تماما. ما يهمني هو العيش يوما بيوم، وما أستطيع أن أفعله وأنا حي، أما الباقي فإنه مجرد تخمين.

كيف عشت مرحلة «سنوات الرصاص» الإيطالية... مع الأحداث السياسية التي اتسمت بالعنف... أنا لا أطلب تحليلا للإرهاب، إنما أريد أن أعرف إلى أي مدى أثرت عليك تلك الأحداث؟

كنت أعمل دائما. العمل حاجز وقائي عظيم، سترة مدرّعة. حتى لو كان الاختباء خلف العمل يبدو ضربا من الجبن أو الهروب من مجابهة أحداث غير سوية. كان هناك الإحساس بالعجز. إحساس مشل. عجز عن فعل أي شيء، كما لو أن حياتك الباطنية قد أصابها التبدّل على نحو مرعب بفعل إثم غامض، لا معقول، لا عقلاني. إثم يحرّك شيئا لا سبيل إلى تفاديه، كما لو أننا جميعا قد ارتكبنا جريمة مجهولة، غامضة، أطلقت العنان لطاقة تدميرية مجهولة بدورها، مثل سرطان، مثل جسد مختوم بالسرطان. لكن أين وكيف ومتى نضل السبيل إلى حد أننا نستسلم، بلا أمل في الإفلات، لعاقبة رهيبة جدا.

أيضا هناك الخوف الذي ينشأ من رؤية الدولة عاجزة، وقوات الأمن والقانون والنظام مهزومة. وهناك الاستسلام المخيف والعبثي من قِبل الصحافة ومراسلي التلفزيون. وهناك الشعائر الجنائزية وتصريحات الشجب الصادرة من وزراء الدولة.

كابوس يتفاقم بسبب الرؤية الضبابية لمحللين سياسيين وصحفيين يبتكرون المبررات له، بسبب الحمقى الذين يشعرون بتعاطف مع أولئك السفاحين، بسبب تلك الوجوه المتحجّرة، تلك اللحى والشوارب، بسبب ثرثرة المحللين النفسانيين في المجلات الأسبوعية الذين يزعمون أن هؤلاء الإرهابيين «يحاولون قتل الخواء داخل ذواتهم» أو أن هؤلاء «يطلقون النار على رعبهم الخاص من أجل تدمير هذا الرعب»، بسبب تحليلات علماء الإجتماع والسياسة الأكثر ضجيجا، والراغبين في قبول هذه الظاهرة كشيء مقدّر أو محتوم، كتحوّل محتوم.

إنهم يرتكبون أفعالا شريرة وشنيعة، يوجّهون عنفهم الضاري نحو رجال الشرطة المساكين الذين لم يبلغوا بعد العشرين عاما من العمر، والذين يلقون حتفهم بالرصاص فجرا في ضاحية يغطيها الضباب بينما يرتشفون القهوة.

هناك أيضا الصور المرعبة لأولئك القتلة على شاشة التلفزيون، وتلك الجثث المثقوبة بالرصاص التي تبدو مثل ذبائح في مسلخ. ولعل الأكثر إرعابا، من بين هذه الفظاعات، ذلك «التفهم» الجبان والخسيس للعديد من المثقفين الذين يرددون برطانة فارغة، لا معنى لها، عبارات بغيضة مفعمة بالكراهية. فيض من الأخبار على الصفحات الأولى من الجرائد. ملاحقة لاهثة، أشبه ببحث رهيب عن كنز، للعثور على بيانات ورسائل في صفائح القمامة. محررو الأعمدة الصحفية الذين يرتعشون اهتياجا فيما يدوّنون لغة الموت الصادرة من أفواه أولئك القتلة.

العزاء الوحيد هو وجوه الناس في الجنازات. صمت يرتفع مثل جبهة صلبة ضد الجنون الذي يريد أن يسود ويلوّث كل شيء.

لدي أسبابي التي تجعلني أعارض كل المبررات التاريخية أو الفلسفية الممكنة، التي هي عامة جدا وغير متأثرة بالشعور الشخصي. أسبابي قائمة على البغض والإشمئزاز الذي أشعره تجاه العنف بكل أشكاله وتجلياته وأيديولوجياته.

أعتقد أن أي شخص ذي ميول فنية من الطبيعي أن يكون محافظا، حذرا ومعتدلا، ويحتاج إلى النظام من حوله. صيحات أولئك الأفراد، أغانيهم، مواكبهم الجنائزية، أسلحتهم، متاريسهم... كلها مقلقة ومثيرة للاشمئزاز وتجعلني أرغب في إخراسهم ومنعهم من تحقيق أي هدف. لا أمتلك حساسية ثورية، ولا أظن أن أحدا من أصدقائي ثوري التوجه. الثائر المفعم بالضجيج لا يكنّ احتراما لأمن وسلام الآخرين. هو، بالنسبة لهم، أجنبي وغريب تماما.

أنا أحتاج إلى النظام لأنني شخص منتهك أو مخالف للأعراف، ولكي أمارس انتهاكي وتجاوزي فإنني أحتاج إلى نظام صارم يصون المحرّمات ويضع أمامي العوائق في كل خطوة، ويحاول إخضاعي لسطوة القيم الأخلاقية... وضد كل هذه القيود والكوابح أمارس الانتهاك والمخالفة.

الجوهر الرمزي لسحر الحياة

لنتوقف عند التقييم... هل أنت راض عن الطريقة التي بها وظفت مخيلتك في هذه السنوات؟ هل تعتقد أنها نشّطت إيقاعنا في الحياة، وجعلت الأمور أكثر وضوحا، والوجود أكثر احتمالا؟

عندما أوقـّع عقد العمل لتحقيق فبلم ما فإنني لا أفكر أبدا في إمكانية أن أكون ملزما بتسريع أو تنشيط إيقاعنا في الحياة، ولا في جعل الأمور أكثر وضوحا أو جعل الوجود أكثر احتمالا... هل هذا سيء؟

إني أحقق الأفلام لأنني ببساطة لا أجيد فعل شيء آخر... أو هكذا يبدو لي الأمر.

هذه المقابلة سوف تظهر بعد محاولتك الإخراجية الأولى بثلاثين عاما تقريبا... هل تستطيع أن تقدم لنا قائمة بحالات: الندم، الافتقاد، الآمال؟

ليس لدي حالات ندم، وتلك التي لدي لا تستدعي الاعتراف هنا. لقد حققت الأفلام التي أردت أن أحققها، وبالطريقة التي أعرف أنها ملائمة. لكن كان الأحرى ألا أضع اسمي عليها لأنني واثق أنه بدون ذلك الإحساس السخيف والمشلّ بالمسؤولية كان يمكن أن أحققها يشكل أفضل، بحرية أكبر، بطمأنينة أكثر، كلعبة مبهجة ومرضية.

كنت أفضـّل لو جئت قبل مولدي بعشرين سنة. آنذاك كان بوسعي أن أصنع أفلاما مع الرواد. إن مساهمتي في ولادة السينما ستكون مرضية لمزاجي وحساسيتي أكثر من الوصول بعد أن تم فرض قوانين الفيلم الخاصة: قوانين محتومة تجعلك مطـّلعا وملمّا بالشروط الفنية والثقافية لكنها تحرمك من ذلك الجو الضاج والمقلق، تلك البهجة الضارية التي ربطت السينما بالسيرك وجعلتها تبدو كجوهر رمزي لسحر الحياة.

أنا نادم لإضاعة الكثير من الوقت بين فيلم وآخر، وجعل بعضها تتحقق وأخرى تختفي، غير أني لا أتبرأ من شيء. يبدو لي أن الأمور قد سارت على ما يرام بالرغم من ميولي السلبية: الكسل، الإهمال، الجهل، التخبط هنا وهناك، ولا أظن إنني أرجو أكثر من هذا.

كنت محظوظا حتى في حياتي الخاصة. كنت محميا تماما. وربما قد ساعدت في جعل حياتي تمضي بشكل مرض عن طريق السماح لنفسي بأن تقاد. حين كانت الأوضاع تسوقني، تدعوني، تغريني، تومئ إليّ، لم أكن أبدي أية مقاومة على الإطلاق. وإذا كان النزوع العام لدي ينحصر في الحاجة إلى رواية القصص من خلال الصور، فإن حياتي الخاصة قد نُظمت بحيث يصبح عملي هو الجزء الأهم. لم يكن هناك ما يلهيني أو يسلبني الوقت الذي أحتاجه لإنجاز أعمالي... لا مسؤوليات تجاه زوجتي وأصدقائي، ولا وخزات ضمير.

من جهة أخرى، لو أن حياتي مضت في اتجاه آخر ومع ذلك واصلت في تحقيق الأفلام، فإن قائمة الندم والآمال ستكون عندئذ أكثر إثارة للارتباك والحرج. لكن يقينا سوف لن أغيّر الطريقة التي أعمل بها. لقد جعلت الصور البصرية تبدو عميقة، حررت نفسي من خطط وبرامج وضعها آخرون، غير أن العالم الذي أعيش فيه بقي كما هو. مع مرور الزمن عشت في مستويات متنوعة، لكن ليس هناك مستوى أكثر عمقا أو اتساعا من المستوى الآخر.

في طفولتي رأيت أشياء ساحرة تحت خيمة السيرك، الآن أنا أخلق الألعاب والحيل، أشكلها، أحركها. كنت في السابق أحلّ ضيفا على الفندق، الآن أنا أملكه. أقدر أن أكون البوّاب والحمّال، وأيضا الأمير الذي يختار جناحا في الدور الأول.

الآمال؟ ليس لديّ أوهام كثيرة، بالتالي لا أشعر بحاجة لتصوّر المستقبل. وإذا كانت هناك فضاءات خالية ينبغي ملأها، فسوف أقوم بما يتعين عليّ فعله. لست مكرسا وقتي على نحو خاص لأصدقائي، للآخرين، حتى لزوجتي. مع ذلك لا يزال لدي أكثر مما يكفي للاختيار منه.

هناك من يقول بأنك الآن استهلكت أسطورتك ولا تفعل إلا القليل لتجديد طاقتك الإبداعية... مع مرور السنوات، هل تشعر بذبول في الإلهام؟

لا أعرف ما هي أسطورتي. وفيما يتعلق بأفول الإلهام عندي، فيبدو أن من سوء الطالع، أو حسن الطالع، أنني لا أعي ذلك. لا أرى عندي رغبة متناقصة في فعل الأشياء -إن كان هذا ما تقصده- أو حتى نسبة أبطأ في الأفكار أو البواعث. هذه تستمر بالمعدّل نفسه كما في السابق عندما كنت أكثر شبابا كرونولوجيا (زمنيا).

ما أفتقر إليه أكثر فأكثر، كما سبق أن ذكرت، هو المبرمج، المخطط، الشخص الذي سوف ينظم عملي. الشخص الذي سوف يخبرني: «حسنا، إني أفهم. رغم أنك قد تجاوزت الستين إلا أنك لا تزال تستمتع بتحقيق الأفلام. سوف أدرس الموضوع وأخلصك من حالة البطالة. ما الذي ترغب في صنعه؟ الفرسان الثلاثة؟ جيد. اشتغل في الفرسان الثلاثة. الجزيرة الغامضة؟ كل أعمال إدغار ألان بو؟ روايات شاندلر؟ هل تريد أن تنفذ ماستورنا؟»

إسمع، أنا لا أرغب في أن أصبح غنيا. كل ما أحتاجه معاشا شهريا وشخصا ينظم أعمالي. إذا استطعت أن أعثر عليه فسوف لن يكون لدي أدنى شعور بالاستنزاف. لو أتيح لي أن أحقق مثل هذه الأفلام الشخصية لوثبت فرحا من فكرة تحقيق فيلم عن رواية الكونت دي مونت كريستو أو أي رواية شعبية من القرن التاسع عشر

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً