العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

كيف أسرد المدينة

لعبة الابتكار، سحر الخلق... في بحثك الحسي عن المطلق ثمة كمّ وافر من الصوفية...

الفيلم طريقة سحرية للتعبير عن الحياة. ليس هناك مهنة أخرى تتيح لك أن تخلق عالما يكون قريبا جدا من العالم الذي نعرفه، بالإضافة إلى العوالم المجهولة، المتوازية، المتحدة المركز.

المكان المثالي بالنسبة لي -و قد قلت هذا مرارا- هو ذلك الذي يقع في ستوديو شنيسيتا حين يكون خاليا. هناك أشعر بعاطفة كليّة، رعشة، نشوة. فضاء غير آهل ينبغي ملأه، عالم ينبغي خلقه.

لدي قناعة مطلقة بأنني قوة خلاقة. سأكون سعيدا جدا حتى لو اكتفيت بالتقاط صور لجوازات السفر أو عمل بورتريهات لأفراد من الطبقة الأرستقراطية أو أي شيء آخر. لست مقيدا بأي أسلوب. أحب كل الأساليب. أكنّ حبا عظيما لعملي، ويبدو لي أن كل الأشياء الأخرى -علاقاتي بالآخرين، المشاعر العابرة، المصاهرات المرحلية- جميعها تتشكـّل في أداة التقطير هذه. أشعر أن عملي من أكثر الأشياء أصالة ومصداقية في حياتي. إني ألبّي نداءه بلا استجواب أو اعتراض. الذروة الأعلى للحب أو للتوتر الأشد إيلاما هما الشيء نفسه تماما: إنها لحظة غامضة، وهْم أبدي، الأمل بأن -في وقت ما- سوف يوفى الوعد بالكشف الأسمى، والرسالة سوف تظهر بأحرف من نار.

في الأسطورة، الساحر والعذراء يوجدان معا. الساحر يحتاج هذا الشكل الأنثوي البكر من أحل امتلاك المعرفة. الشيء ذاته يحدث للفنان الذي، بطريقة أكثر تواضعا، يعانق تعبير الخلق لحظة انبعاث مخلوقاته.

بين vitelloni وla strada (الطريق) هناك «وكالة زواج»، أحد أجزاء فيلم «حب في المدينة»... هل أعدت مشاهدته في أي وقت؟

شاهدت القليل منه ذات أمسية في حانة دخلتها لأجري مكالمة هاتفية. في حيّز ضيق في الخلفية، مضاء فقط بالنور المنبعث من جهاز التلفزيون، وكان هناك شخص يتفرج. صوت التلفزيون كان بعيدا فلم يصلني جيدا. لكنني شاهدت سيفاريلو، أحد ممثلي ذلك الجزء وهو جالس على ضفة معشوشبة يتحدث إلى فتاة حزينة، مثيرة للشفقة، مستعدة للزواج من الرجل المستذئب (الرجل الذئب). كنت أتجه على مهل نحو ذاك الحيّز لكي أقف هناك وأتفرج على بعض مشاهد ذلك الفيلم الذي لا أتذكر منه شيئا، عندما قام ذاك الشخص الحقير، الممسك بجهاز الريموت كونترول، بتغيير المحطة فجأة.

إنه سيزار زفاتيني (كاتب السيناريو الشهير) الذي قدّم لي عرضا للمشاركة بجزء من فيلمه الذي يتكوّن من ثلاث قصص. ولقد قبلت أن أشارك في هذا العمل الجماعي بالروح التنافسية التي يتمتع بها تلميذ مشاكس يتلقى نكات معلمه.

Vitelloni حقق نجاحا كبيرا لكن النقاد اليساريين استقبلوه بفتور وعلى نحوٍ غير ودّي. مع أن الاتفاق الجماعي في الرأي كان إيجابيا، إلا أنهم انتقدوا الفيلم لأن أحداثه تدور في منطقة مجهولة الاسم واتهموني بالمغالاة في التوكيد على الذاكرة الشعرية، وجهلي في كيفية إعطاء الفيلم معنى سياسيا واضحا. لقد فكرت بالانتقام قليلا من أولئك الذين، خلال تلك السنوات، أطلقوا ضدي تصريحات قاسية لصالح الواقعية الجديدة، وبذلك ساهموا في خلق نتائج مقيتة لا تزال مستمرة في عناد.

ما هي النتائج المقيتة التي سبّبتها تعاليم روسيلليني الخاصة بالواقعية الجديدة؟

واقعية روسيلليني الجديدة ما كانت تتجه نحو مقاصد سيئة، بل كانت تتحاشى المسالك الموحلة والاعتباطية. الشيء الأساسي في تحقيق فيلم واقعي جديد هو احترام الواقعية مهما كلـّف الأمر بوصفها حدثا وجوديا مقدّسا، راسخا، غير قابل للتغيير، ومحظورا مسّه. المشاعر الشخصية، الضغوطات الذاتية، الحاجة لأن تختار، لأن تعبّر عن الحس الفني... كلها خاضعة هنا للسياسة: فلتسقط الذاكرة، التأويل، وجهة النظر، الخيال. فليعاقب المبدع!... التبطل والجهالة والكسل جعل الجمالي الجديد مقبولا بحماسة. أي شخص بإمكانه أن يحقق أفلاما. كل شخص ينبغي أن يحققها... جمالية اللاجمالية، والتي ساهمت بدور كبير في الأزمة الراهنة لسينمانا.

في فيلمي القصير اخترعت وكالة زواج، وفتاة -لكي تتزوج- يتعيّن عليها أن تقبل الزواج بمستذئب. أقسمت أن كل ما يحكي عنه الفيلم حقيقي. وعندما عرضت المونتاج الأوّلي للجزء الذي حققته، جاء نقاد السينما اليساريين راضين ومسرورين جدا: «هل لاحظت، أيها العزيز فلليني، إلى أي مدى يكون الواقع أكثر خيالية من كل تلك الفنتازيا الجامحة، المنزوعة اللجام؟»

بعد تلك الدعابة، نأتي إلى «الطريق»la strada... ما الذي يمثـّله لك هذا الفيلم اليوم؟

يخطر ببالي الآن تعليق الناقد بيترينو بيانكي. لا أتذكر ما إذا قرأت ذلك في جريدة أو كتاب يضم مقالاته المختارة، أم قال لي ذلك مباشرة. الفيلم عُرض في مهرجان فينيسيا، وكان الاستقبال إيجابيا، بل حماسيا. النقاد الفرنسيون خصوصا أبدوا إعجابهم الشديد بالفيلم. قبلات ومصافحات. وأندريه كايات قال لي: «فيلمك من الآن صار كلاسيكيا»... وقد وافقه أندريه بازان، الناقد الضئيل والنحيل وهو يرمقني بنظرة تشبه نظرة الكاهن الذي يمنح البركة بعد الصلاة.

على الجانب الآخر، كانت هناك معارضة تامة من قِبل أغلب الصحفيين اليساريين. وفي غمرة ذلك الاستقبال المثير، الهائج، المتباين، بدا لي تعليق بيترينو بيانكي مختلفا عن البقية. قال: «يا له من فيلم شجاع»... واليوم عندما أفكر في ذلك مليـّا، يبدو لي حكمه في تلك اللحظة الأكثر إنصافا.

«الطريق» كان الفيلم الذي قدّم أكثر التباينات عمقا: الشقاء والنوستالجيا، إضافة إلى الإحساس بالزمن وهو ينقضي، والذي بالتالي لا يمكن أن يتصل بمشكلات اجتماعية وسياسية. في ما يخص الواقعية الجديدة، «الطريق» كان فيلما عن النبذ، عن ما هو متفسخ ورجعي. يبدو لي أن بيانكي كان يشير إلى شجاعتي في الذهاب عكس التيار بفيلمي هذا.

لكن ذكرياتي بشأن الفيلم هي حافلة جدا، وأرغب في التخلص منها. إن استحضارها سوف يضعني في حالة من الإرباك نظرا لما تمتع به الفيلم من شهرة وهو يجول عبر العالم ناشرا نوعا من الجاذبية العالمية.

ألا ترغب على الأقل في إخباري كيف تولدت فكرة فيلمك «الطريق»؟

كيف يمكنك حقا أن تضع أصبعك على لحظة اتصالك الأول بالشعور، أو بالحس الباطني، توقع ما سوف يكوّنه فيلمك؟ الجذور التي منها جاء زمبانو وجلسومينا (الشخصيتان الرئيسيتان) وقصتهما معا، هذه الجذور تمتد عميقا نحو موضع غائر ومظلم مسكون بالإحساس بالذنب، بالخوف، بحنين ذائب إلى قيم أخلاقية أسمى، بندم على براءة مغرّر بها.

أنا لا أشعر برغبة في التحدث عن الفيلم. كل ما أقوله سوف يبدو غير متناسب وعديم الجدوى. أذكر، على نحو غائم، أني كنت أقود سيارتي مارا بالحقول حول روما وأنا مسترخ وكسول، كعادتي وقت التجوال... وأظن وقتذاك ربما التقطت بصيصا من الشخصيات، المشاعر، الجو العام للفيلم.

بمناسبة الحديث عن السيارات، يبدو لي أنك الآن لا تسوق السيارة، مع أنك كنت شغوفا بها في السابق...

امتنعت عن قيادة السيارات منذ عشر سنوات تقريبا. ذات يوم قررت أن أتخلص منها. كان لدي سيارة مرسيدس جميلة، خضراء وتتلألأ بلون ذهبي. لها بابان مع إرسال آلي. في ذلك اليوم، جاءت صوبي سيارة فيات صغيرة، يقودها صبي في الثامنة أو التاسعة من عمره. كانت الفيات خارجة من شارع ذي اتجاه واحد، متجاوزة الإشارة الحمراء، لترتطم بي عند مفترق الطرق. جميع المتواجدين هناك، الجالسين في الهواء الطلق خارج المقهى (الفصل كان صيفا)، بعيدا عن أي منطق وأي دليل، شهدوا ضدي وقالوا أن الصبي على حق... حتى الشرطي. فورا وفي المكان نفسه، قررت أن أتخلص من السيارة وأكف عن السياقة. كان في الموقع سائح ألماني ما إن سمع الشرطي يلفظ اسمي حتى أبدى رغبته في شراء سيارتي لتقديمها هدية إلى زوجته، في هامبورغ، بمناسبة ذكرى زواجهما بعد شهرين، قائلا بأن تقديم سيارة مخرج «الحياة الحلوة» هدية لها سوف يمثـّل أوج الحب والتفاني. أحببت فكرة بيع المرسيدس إلى ألماني. أنهينا عقد الصفقة بمصافحة عند مفترق الطرق، تحت إشارة المرور، أمام الحدث الجانح والحشد الذين صفقوا في استحسان.

ربما كان الوقت قد حان، إذ سأمت من السيارات: الكثير من المشاكل، العديد من الغرامات، إشارات ممنوع الوقوف في كل مكان، ضرائب لا تحصى، والكراج بعيد جدا عن بيتي. إضافة إلى كل ذلك، هناك التحديقات القاتلة التي يوجهها صوبك قتلة أو معتوهون في سيارات أخرى تتبعك أو تحاذيك أو ترغب في التسابق معك.

لست نادما أبدا على رفضي امتلاك سيارة. هناك سيارات الأجرة (أحب أن أجلس في المقعد الأمامي وأتحدث مع السائق) وتلك التي يخصصها منتجو أفلامي لنقل الفنيين، كما أن جميع أصدقائي يمتلكون سيارات... هناك دائما شخص يبدي استعداده لتوصيلي. وعندما لا أجد أحدا، والسماء تبدأ تمطر، أقف في منتصف الشارع وأنعم النظر في السيارات القادمة نحوي، وبلا خجل أحيي السائق متظاهرا بأني أعرفه، ودائما تتوقف السيارة فاعتذر عن الالتباس لكن السائق، ذكرا أم أنثى، يعرض علي بكرم ولطف أن أركب معه ليوصلني.

كنت فيما مضى أملك العديد من السيارات الجميلة، الفاخرة والباهظة. كانت لدي سيارة زرقاء أشبه بطائرة ذات ثلاثة محركات، أشبه بمركبة فضائية. عندما أقودها عبر الأرياف حول روما، كان الأهالي يمسّون قبعاتهم احتراما، والكثيرون ينحنون في تقدير. كنا، أنا ومارشيلو ماستروياني نتسابق في شراء السيارات الجديدة. هذه اللعبة السرية والمضنية جعلت من بورنيا، تاجر السيارات القديمة، رجلا ثريا. كل يوم كان يرتدي بذلة جديدة أكثر أناقة، أكثر غلاء... وكل هذا بفضل أموالنا، أنا ومارشيلو.

لم أخبرك بعد عن المشاعر والتخيلات المرتبطة بسيارة فيات الصغيرة التي وهبها لي روسيلليني كتعويض عن سيناريو كتبته له ولم يدفع لي مقابله. ولم أخبرك عن كل تلك السيارات التي امتلكتها، فقط تلك التي أحببتها كثيرا: ألفا روميو 1910 تبدو لي الأكثر روعة وأناقة، والأفضل تصميما، ولا أفهم سبب امتناعهم عن إنتاج ذلك الموديل الرائج. أيضا أحببت كثيرا سيارات أخرى مثل مرسيدس باغودينا ولانسيا فلامينيا التي عندما كنت أقودها أشعر بأني سائق وزير الخارجية.

بواسطة السيارات اكتشفت العديد من المناطق الرائعة، القرى الجاثمة على قمم التلال، الأرياف، حقول الحنطة تحت أشعة الشمس، إقليم ماكاريس الأشبه باليابان في القرون الوسطى كما صورها كوروساوا في أفلامه... وأشياء أخرى عديدة.

إلى تجولي بالسيارة عبر المدن والأرياف وبمحاذاة البحر أنا مدين بالإلتماعات الأولى لأفلامي، الومضات، الأفكار، الشخصيات، وحتى الحوار. كنت أوقف السيارة في أي موقع أصادفه وأشرع في تدوين الملاحظات. ذلك التجوال الحر بلا هدف، في محاذاة الأشياء والألوان والأشجار والسماء والوجوه الصامتة المطلة من نوافذ السيارات، كان دائما يمتلك القدرة على استقطابي نحو نقطة ساكنة، متعذر تحديدها، حيث الصور والمشاعر والحدس تولد بتلقائية.

بالعودة إلى أفلامك: في 1953 حققت «الطريق»، وفي العام التالي «المحتالون»... هل أنا مخطئ أم أن أفلامك الأولى كانت متلاحقة على نحو سريع. بتعبير آخر، كنت آنذاك أكثر إنتاجية، محققا فيلما كل عام...

أسفي الشديد هو على عدم قدرتي العمل طوال الوقت، على نحو متواصل، وبالسرعة الفعالة والبهيجة التي كنت أتحرك بها في الخمسينيات. البنية المالية لأفلامي صارت أثقل فأثقل وانفتحت على شهية هائلة، ضرب من التضخم يقينا لم أتسبّب فيه إنما العملية بأكملها صارت أكثر تعقيدا وإزعاجا.

إذا كنت محظوظا، من جهة، لأنني تمكنت على الدوام من تحقيق الأفلام التي أردت أن أحققها، وبالطريقة التي أردتها، وبنزاعات وتسويات أقل، فأنا من جهة أخرى آسف لعدم التقائي، في كل تلك السنوات، برفيق سفري، بالمنتج العظيم الراغب في تخطيط وتمويل أعمالي وحمايتها من أي انحراف أو ضلال قد يسبّبه الزهو أو الغرور أو الفضول أو التململ ونفاد الصبر، مثلما حدث معي أحيانا. لم تسنح لي الفرصة السعيدة الالتقاء بشخص قادر أن يقدم لي اقتراحات، والذي معه أستطيع أن أتناقش وأتجادل كما كانت العلاقة التي لا غنى عنها بين الرسام والبابا، بين شاعر البلاط والحاكم.

عندما يخبرني منتج أمريكي بأنه يرغب في الالتقاء بي في جراند هوتيل أو في الإكسيلسيور للتباحث بشأن فيلم، مشروع سوف ينفـّذ في الولايات المتحدة، فإنني دائما أكون دقيقا في مراعاة المواعيد وأصل في الوقت المحدد حتى لو كنت أعرف بأنني لن أذهب أبدا إلى أمريكا. أنا لا أميل إلى الخداع، لكن الفضول هو الذي يدفعني لأن أسمع ما لدى المنتج. لهذا السبب تضيع مني شهور دون أن أفعل ما ينبغي فعله: أن أقف في الأستوديو وأقول... كاميرا، صوّر.

فلليني في أمريكا... هل من المرجّح أن تذهب يوما إلى هناك وتصور فيلما؟

كان بمقدوري أن أحقق عدة أفلام في أمريكا لو شئت ذلك، لكنني في الحقيقة لا أعرف إن كنت أستطيع فعل ذلك. دي لورنتيس (المنتج الإيطالي) الذي استقر في أمريكا منذ سنوات، كان يتصل بي هاتفيا مرتين في الشهر في الساعة الثالثة أو الرابعة صباحا، متظاهرا بأنه يجهل فارق الوقت بين البلدين. لقد عرض عليّ أن أخرج كل الأفلام التي أنتجها هناك، من «كنج كونج» إلى «فلاش جوردون»، لكنني كنت أتردد دائما، وفي النهاية أرفض العرض. في الواقع كنت سأستمتع كثيرا بالاشتغال في قصة نفسية جيدة مثل كنج كونج. بعد عرض الفيلم أخبرت دي لورنتيس بأنني وددت لو نفـّذته، وقبل أن أكمل جملتي صاح: «برافو! أخيرا أضاء الله دربك... تعال لنحقق (ابنة كنج كونج) فورا»... ولأنني أحمق فقد رفضت ذلك العرض أيضا.

أشك في قدرتي أن أحقق يوما فيلما في أمريكا. ذات مرّة تلقيت دعوة للذهاب إلى هناك وأن أقضي 12 أو15 أسبوعا أبتكر وأطور خلالها أفكارا ملائمة. كانوا من الأصدقاء الأمريكان الذين يتسمون باللطف والكرم وأبدوا رغبتهم في استضافتي، وأن يضعوا تحت تصرّفي بيوتهم ووقتهم وكتـّابهم، إضافة إلى الرحلات من ساحل إلى ساحل. أخبروني أن بوسعي زيارة مدنهم وأقاليمهم الكبيرة، وأن أشاهد كل ما أرغب في مشاهدته، وسوف يعتنون بي جيدا. بوسعي أيضا أن ألتقي بالفنانين والمثقفين، بأي شخص أرغب في لقائه من نورمان ميلر إلى وودي ألين إلى ترومان كابوتي إلى ذلك الطيف الرقيق والآسر: أندي وارهول. بوسعي أيضا أن أر أي شيء، أي مكان، أي شخص يشبه شخصيات أفلامي.

مع ذلك، وبالرغم من كل تلك المغريات، فقد تخليت عن الفكرة، تراجعت، وفي محاولة صعبة ومرتبكة لتبرئة نفسي من الإثم، عللت الأمر بعدم كفاءتي وأهليتي، بأنني لا أعرف كيف أصنع فيلما في أمريكا. حتى لو كانت بلادهم تأسرني وتغويني، وتبدو لي أشبه بموقع هائل ملائم لرؤيتي للأشياء، فإنني لا أعرف كيف أرويها في فيلم. نيويورك! إنها مركبة فضائية هائلة، مذهلة، محرّرة في الكون. ليس لها جذور أو عمق، لكنها متدلية على صحن بلـّوري لا متناه. هي فينيسيا ودمشق وبنارس... هي كل مدن العالم مندمجة معا.

نيويورك عذبة، عنيفة، جميلة، رهيبة... لكن كيف أسردها؟

فقط هنا، في بلادي، أقدر أن أجرب مثل هذا المشروع الجبار، في شنيسيتا... أي مجازفة أقوم بها في هذا الأستوديو، أشعر دائما بأني محمي من السقوط من الجُرُف بواسطة شبكة فسيحة متألفة من: جذوري، ذكرياتي، عاداتي، طباعي، بيتي... باختصار، مختبري. علاوة على ذلك، أن تعيش هناك، أن تتحرك مشاعرك نتيجة ما يحدث هناك، أن تتكوّن لديك أحاسيس وتتلمّس أشياء تتصل بواقع جديد... هذه أمور عادية ويسيرة. يقينا كلنا قادرون على فعل ذلك، قادرون على رؤيته، تكثيفه وتقويته، وأن نبدي اندهاشنا منه. نحن جميعا نشعر بصدمة، بحافز، بعلاقة مع الأشياء التي لا نعرفها. لكن أن تتحدث عنها، أن تعبّر عنها، أن تصرّح بها على نحو قابل للتصديق، على نحو مفعم بالحيوية، دون أخطاء أو سوء فهم، فذلك لا يمكن تنفيذه إلا بالتعبير عنه بلغتنا الخاصة. هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تحت تصرفنا للاتصال مع أنفسنا قبل فعل ذلك مع الآخرين. سوء الفهم ينبع من واقع أن الناس يرون في السينما مجرد كاميرا محشوة بشريط ومهمتها الوحيدة هي أن تصور ما يجري أمامها. عوضا عن ذلك، يقحم المرء نفسه بين الشيء والكاميرا. بخلاف ذلك، لا يمكن للفيلم إلا أن يعرض معلومات متناقضة على نحو مبهم.

في أمريكا تأتي الأفكار إليّ عبر لغة ليست لغتي، عبر واقع لا أعرف تلميحاته وإشاراته والتي تفلت مني نحو مستوياتها المتراصفة الخاصة، ونحو مكوّنات جذورها. إخراجي للأفلام هو عمل يقتضي التضلّع التام في لغة تنتج رؤية للعالم، أساطيره، تخيلاته الجماعية.

بالتأكيد أنا لا أزعم بأني أعرف كل شيء عن إيطاليا، لكن على الأقل هنا أنا استحضر جهلي، عواطفي، مشاعري. هنا أنا سيد حتى تلك الأشياء التي لا أعرفها. أستطيع القول عن شخص بأنه من برجامو بمجرد النظر إلى ربطة عنقه. حسنا، ربما أبالغ هنا بعض الشيء. لكن في ما يتعلق بالواقع الإيطالي، فإني أزعم فهم العلاقات بين النظم المختلفة للتمثيل، بين الصحف والتلفزيون والإعلان، تراكيب الصور الشائعة بيننا...

لكن هناك مخرجين، لهم منزلة واعتبار، يعملون في أمريكا دونما صعوبة...

نعم، أعرف أن ميلوش فورمان، رومان بولانسكي وآخرين قد نجحوا في الانخراط كليا في الثقافة الأمريكية وفي التعبير عنها، لكن هؤلاء جاءوا من عالم مختلف. إنهم يهود، من أوروبا الوسطى... ينحدرون من أبعاد نفسية وثقافية استطاعت تعويدهم وتأهيلهم ليعيشوا في أي مكان ويتعايشوا مع الآخرين بحيث يكونون أكثر وطنية من مواطني البلد أنفسهم. لديهم دائما تلك الموهبة الخاصة التي تتيح لهم امتصاص تاريخ وثقافة وذكريات الآخرين. في الواقع، هم أصبحوا أمريكيين أكثر من الأمريكان.

قبل 25 سنة تعاقدت على مشروع مع ثلاثة منتجين أمريكان مفعمين بالحماسة والذين قرروا الابتعاد عن الشركات الرئيسية وسياساتها الإنتاجية وصنع أفلام وفق النمط الإيطالي. فالواقعية الإيطالية الجديدة كانت قد أسرتهم وأثارتهم إلى حد أنهم قرروا الخروج من الاستوديوهات والعمل في مواقع خارجية مع قصص واقعية وأفراد حقيقيين «من الشارع»... هكذا كان التعبير الشائع في تلك الأيام.

كنت في لوس أنجلس حاضرا حفل توزيع جوائز الأوسكار، والمنتجون الثلاثة كانوا هناك يرمقونني في استحسان. كانوا مغرمين بكل شيء يخصني، ليس فقط أفلامي (vitelloni والطريق) لكن أيضا ربطات عنقي، تسريحة شعري، الطريقة التي أنطق بها اللغة الإنجليزية. ذات مرّة ارتطمت ركبتي بقطعة من الأثاث، ولم تكن الإصابة خطيرة، مجرد وجع بسيط، لكن كان عليّ أن أصرخ لكي أمنعهم من أخذي إلى المستشفى... ومن يدري، ربما كانوا على استعداد لإخضاعي لعملية جراحية فورية.

بعد معارضة شديدة، وافقت أن أوقـّع معهم عقد عمل يتضمن الإقامة في أمريكا لمدّة 12 أسبوعا، بعدها أكون جاهزا لتصوير الفيلم أو أعود إلى بلادي. كانوا على يقين تام من أن الاحتمال الثاني لن يكون واردا على الإطلاق.

هكذا بدأت تجوالي حول الولايات المتحدة. وقد وضعوا تحت تصرفي سكرتيرات، مترجمين، أصدقاء، صحفيين، والأكثر إثارة للإعجاب: مرافقي، رجل المافيا السابق، الذي يدعى سرينيللا. لابد أنه كان في السبعين، غير أنه يتمتع بنشاط وقوة، وجهه مكفهر أشبه بوجوه المصارعين الرومان في الأزمنة الغابرة، وعلى وجنتيه تبدو آثار الجدري. شعره الأبيض، بدلا من أن يضفي عليه لمسة نبالة، يجعله يبدو أكثر دهاء ومراوغة. مع ذلك كان عاطفيا على نحو لا يصدق، يتأثر بمجرد النظر إليّ. نفوذه هائل إلى حد أنه كان يخيفني أحيانا. كان يلبّي على الفور كل ما أطلبه منه. لم تكن هناك قيود أو حدود. حتى الأشياء المستحيلة التي أطلبها بدافع استفزازه وإثارة غيظه. لقد كان في ما مضى زعيما هاما ومهيبا، يملك فندقين في لاس فيجاس. كان مثار إعجاب وخوف. لكن عندما يدندن بالثيمة الموسيقية لشخصية جيلسومينا (في فيلم:الطريق) كانت عيناه تغرورقان بالدموع.

بعد شهر مسّني ذلك الوجع الذي يحدثه الحنين إلى الوطن. كنت أقضي أوقات ما بعد الظهيرة في غرفتي بالفندق أجري اتصالات هاتفية مع كل أصدقائي في روما، حتى أقاربي ومعارفي، بل حتى أولئك الذين انقطعت علاقتي بهم قبل سنوات. كنت أحنّ إلى أشياء صغيرة -و كم كان ذلك موجعا ومعذبا- أشياء مثل: الخروج ليلا لشراء الجرائد في جادة كولا دي رينزو أو الذهاب إلى بلازا هوتيل، الأشبه بكنيسة، فقط لأجري مكالمة هاتفية، أو أتسكع في كسل حول المكتبات.

أحببت أمريكا كثيرا... هي التي أغوتني، سحرتني. كان يبدو لي أن كل شيء هناك جاهز الصنع، مثل موقع هائل مصنوع سلفا بكل مشاهده الكاملة، المضاءة بإتقان، والمصممة على نحو أنيق.

الكثير من الأفكار خطرت لي، وعندما أبوح بها للمنتجين كانوا يبدون حماسة شديدة. لكنني شعرت بأن ليس بالإمكان تجربة شيء وسرده، أن تعيش تجربة وتعبّر عنها في الحال. ليس لدي الموهبة أو الكفاءة التي يتمتع بها الصحفي. إن فرصي للاتصال عبر هذا المستوى هي معدومة تقريبا. علاوة على ذلك، لا أعتقد أنني قادر أن أكون صحفيا جيدا إلا إذا اخترعت الأشياء والقصص.

هكذا، متصرفا مثل فتاة عُصابية هشة، أعلنت لهم رغبتي في العودة إلى الوطن بعد أربعة أسابيع فقط، مبررا ذلك بأنني لم أعد أعرف كيف أكون مخرجا، لم أعد أعرف كيف أحقق الأفلام. سرينيللا، بقبعته العريضة السوداء، ولفاعه الحريري الأبيض، وسترته ذات الياقة المخملية، رافقني إلى المطار. لم ينبس بحرف، لم يعلـّق، بل تقبـّل قراري واحترمه، مقتنعا بأنني لم أتخذ هذا القرار إلا لمصلحتي الشخصية، واثقا بأن هناك أمرا أكثر أهمية بالنسبة لي، أكثر فائدة، «أكثر نقودا»، في قراري بالرحيل.

في اللحظة الأخيرة، قبل أن أغادر، أعطاني سرينيللا عنوان صديق له تم طرده من الولايات المتحدة لكونه «غير مرغوب فيه»، والذي يعيش الآن في إيطاليا. (لا، لا أريد أن أذكر اسمه... فوق ذلك، هو لم يعد هناك)... قال لي سرينيللا: «هو قديس. لقد فعل الخير للجميع لكنهم لم يفهموه. يا بني، إذا احتجت شيئا، إذهب إليه وقبّـله نيابة عني»...

لكنني لم أذهب إليه ولم أنقل إليه قبلات سرينيللا، على الرغم من فضولي الشديد لمعرفة هذا القديس. أحيانا، عندما أواجه صعوبة كبيرة في الشروع في تحقيق فيلم، أنظر إلى الورقة التي أعطاها لي العجوز الشرير، الشهير

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً