في الأيام القليلة الماضية صدرت ثلاثة تصريحات إيرانية بشأن فوز باراك أوباما. واحدة للرئيس محمود أحمدي نجاد، والثانية لرئيس المجلس النيابي علي لاريجاني، والثالثة للمدعي العام قربان علي دري نجف آبادي.
تصريحات نجاد كانت مُهنّئة. وتصريحات لاريجاني كانت مُؤنّبة. وتصريحات نجف آبادي كانت مُحفّزة. وهو حال الدبلوماسية الإيرانية التي دأبت على توجيه رسائل متعددة وغير مُتجانسة بهدف المناورة والالتفاف على المبادرات الدولية.
الثورة الإسلامية في إيران ومنذ انتصارها في 11 فبراير/ شباط من العام 1979 استمزجت خمسة من الرؤساء الأميركيين. كلّهم ومن دون استثناء كانت لهم مواقف عدائية تجاه إيران، وإنْ أخذت طابع التباين في منسوب الحدة.
أزمة الرهائن وحادثة طبس مع جيمي كارتر. ضرب مصافي النفط على الساحل الإيراني الغربي وإسقاط طائرة «الإيرباص» مع رونالد ريغان. فرض مزيدّ من العقوبات الاقتصادية مع جورج بوش الأب. إقرار قانون داماتو مع بيل كلينتون. ضم إيران إلى محور الشر مع جورج بوش الابن.
والملاحظ في تلك المسيرة، أن التقابل على مستوى الرئاسة بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة كان واضحا. طيلة فترة رئاسة ريغان كان يُقابلها رئاسة آية الله خامنئي وجنوح إيران نحو الراديكالية بسبب الضغوط الدولية وظروف الحرب العراقية الإيرانية.
وفي عهد بيل كلنتون وصل الرئيس محمد خاتمي المحسوب على جبهة الاعتدال إلى السلطة. وفي عهد الرئيس بوش الابن فاز أحمدي نجاد الموسوم بالراديكالية. وقد ينسحب ذلك على طبيعة الانتخابات الإيرانية المقبلة مع فوز باراك أوباما.
من كلّ ذلك يمكن الإشارة إلى أنّ موضوع العلاقة المتوترة بين البلدين كان مُوزّعا على نوعين من التوتر. الأوّل كان ناشطا عندما كانت إيران في وضع ضعيف استراتيجيا حيث كان الصِدام يأخذ طابع المباشرة.
والنوع الثاني اتخذ شكل «العصا والجزرة» بعد أنْ أصبحت طهران تتمتع بقدرات داخلية وإقليمية ناجزة يصعب تطويعها أو مناكفتها بشكل مباشر. وفي ذلك يمكن استدعاء حادثة حضور وليام بيرنز (وهو الرجل الثالث في الخارجية الأميركية) في محادثات جنيف مع سعيد جليلي.
فقد كانت الولايات المتحدة حينها تُصرّ على أنّ تمثيلها القوي واللافت هو بهدف دفْع طهران لإيقاف عمليات تخصيب اليورانيوم، وإرباكها ثم دفعها للقيام بمفاضلة سريعة بين حضور أميركي في المفاوضات والقبول بتسوية ما، وهو ما لم يحدث.
الإيرانيون وفي كلّ مرة يتعمّدون رمي كرة في الملعب الأميركي بغرض الاستهلاك. في يوليو/ تموز الماضي وخلال جلسة مجلس الوزراء قال كبير مستشاري أحمد نجاد مجتبى ثمرة هاشمي: إنّ طهران مستعدة في حال ضمان مصالحها وتأمينها أنْ تقيم علاقة مع واشنطن. وفي أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي قال رئيس بلدية طهران محمد باقر قاليباف الكلام ذاته.
في أغلب الأحيان يتلقّى الإيرانيون الرسائل الأميركية بكثير من الحذر. فعندما يحضر وليام بيرنز إلى محادثات جنيف يتعاطى الإيرانيون مع الطلبات الأميركية بإيجابية على مستوى إدارة العلاقات الدبلوماسية، لكنهم لا يكونون معنيين بتغيير جوهري في مشاريعهم الاستراتيجية.
وعندما تُصرّح الخارجية الأميركية بأن واشنطن ترغب في فتح مكتب للمصالح الأميركية في طهران يبدي الإيرانيون ترحيبهم ولكن من دون تغيير في التعاطي مع أوراق اللعبة الإقليمية. بمعنى إعطاء أضواء خضراء بلا معنى. وهم بذلك يسعون إلى فرض واقع دبلوماسي جديد يُقرّ بهم كلاعب عالمي، وليس كإقليمي فقط.
الإيرانيون يُدركون أنّ هذا النمط من السياسة سيفضي حتما إلى قاعدة «الحوار من أجل التوافق» وإذا ما تمّ ذلك فهذا يعني أنّ موازين القوى ستكون قريبة جدا من حيث قدرتها على التأثير والاستقطاب، ولم تعد تفصلها مسافات ضوئية ولا صوتية ولا حتى تقليدية، وبالتالي تُصبح الملفات العالقة محل بحث طبقا لتلك القاعدة.
اليوم وبعد انتخاب باراك أوباما تبدو الولايات المتحدة الأميركية مختلفة بكل المقاييس حتى حين يقول أوباما كلاما شديدا بشأن البرنامج النووي الإيراني (والذي قد يكون إطلاقه بغرض الاستحلاب). ومع وجود سيطرة ديمقراطية على المجلسين يُمكن أن تكون الأمور مختلفة.
في عهد الرئيس (الديمقراطي) بيل كلنتون تمّ فرض عقوبات أميركية على إيران طبقا لقانون داماتو. لكنه ورغم كلّ ذلك لم تأخذ العلاقة طابع الشَّرَه نحو العسكرة والاستنفار والتحريض. بل العكس قدّم كلينتون اعتذارا للإيرانيين.
في عهد الرئيس بوش كانت أرواح العالم معلّقة بطرف خيط نتيجة التهديدات المستمرة بشنّ ضربة عسكرية ضد إيران. وكانت تلك المؤشرات دافعا؛ لأنْ تتحول المنطقة إلى جبهة مؤجّلة لكنها جاهزة الاستخدام.
الإيرانيون اليوم يفهمون جيدا إنّ وصول باراك أوباما يعني نظرة أخرى للملف العراقي، وخطاب أقل حدّة تجاه سياساتهم الخارجية. وانغماس أكثر نحو معالجة العجز الترليوني الذي يعاني منه الاقتصاد الأميركي. ربما يكون عهدا رزفلتيا أو كينيديا بامتياز.
قبل أشهر وعندما شرع الرئيس جورج بوش نحو تخصيص 400 مليون دولار للقيام بأنشطة استخباراتية وعسكرية ضد أهداف داخل إيران، استدعى الديمقراطيون في الكونغرس مدير جهاز الاستخبارات (CIA). إنهم يمايزون جيدا بين رعاية اقتصادهم والصحة والتعليم والتأمين الصحي مع السياسة الخارجية.
اليوم يبقى الحدث الذي يُمكن ترقبه بكثير من الترقّب هو ما ستئول إليه نتائج انتخابات يونيو/حزيران المقبل في إيران. هل سينتخب المزاج الإيراني رئيسا موازيا لما حدث في الولايات المتحدة كما حدث في السابق؟ أم أنّ الشأن الإيراني الداخلي هو الذي سيفرض نفسه على الانتخابات؟ لا يُمكن التنبؤ أكثر من أنّ الانتخابات ستكون حاسمة
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ