العدد 2228 - السبت 11 أكتوبر 2008م الموافق 10 شوال 1429هـ

تحليل مسرحية البرهامة للمؤلف علي الشرقاوي

شموع البنيوية تضيء سطور البرهامة الرمزية

النقد المسرحي الفائز بجائزة أحمد الشملان للإبداع الوطني (الثقافة والأدب) للعام 2008

يرى بعض العلماء البنيويين أن المسرحية أو القصة عبارة عن جملة واحدة طويلة، وأنا إن شاء الله سوف أقوم بتحليل هذه المسرحية من هذا المنطلق، ولكن ليس معنى هذا أنني أتبنى المنهج البنيوي في التحليل، لأنني في الحقيقة مغرمة بالمنهج الرمزي، لذلك سوف أزاوج بين المنهج الرمزي والمنهج البنيوي لأحصل على تحليل مختلف من نوعه، بنكهتي الخاصة.

إن من يرى أن النص المسرحي هو جملة طويلة يرى أيضا أن هذه الجملة لها أربعة محاور أساسية يقوم عليها النص المسرحي ويرتكز على واسطة لهذه المحاور، وهذه المحاور هي: الفاعل أو الفواعل التي تمثل الشخوص في النص، ويوازيها في الخط نفسه المفعول به وهو الهدف أو المغزى من النص، وفي المحور العمودي هناك المساندون والمعارضون. وفي الوسط هناك محور الأحداث والحبكة الدرامية للمسرحية. وعليه سوف نقوم بعرض هذه المحاور بإيجاز بإذن الله. وقبل هذا سوف نوضح المنهج بهذا الرسم التوضيحي:

الفواعل:

-1 البر: هو بطل دلمون الأوحد، هو رمز للفقر والقهر والحرمان الذي يرفض سلطة الظالم، وله القدرة والقوة بأن يقول «لا» في وجه كل شر وكل ظلم على وجه الأرض، كما أن اسم البر يحمل معان عميقة، فهو يحمل معنى الخير والأمل المرتقب، فالقمح دائما يدل على بداية الخير وبداية تحقيق الآمال والأحلام المستحيلة. وجوده يمثل قوة الخير التي تحارب قوة الشر فمن هنا يُخلق الصراع الدرامي في المسرحية، كما أنه يرمز إلى الحب الصادق الذي يبذل نفسه من أجل المحبوب.

-2 الهامة: الحب الخالص، هذا الاسم يدل على السمو والشموخ وعُلُو رأس الحق، فبالرغم من أن الهامة هي عنصر نسوي، والعنصر النسوي ضعيف في المسرحية، إلا أن الهامة كانت الصورة العكسية للعنصر النسوي السلبي، وظهر دورها الإيجابي في تحدي الجبابرة في المسرحية ومن ضمن هؤلاء الجبابرة والدها، فهي تمثل الحلقة الأقوى في السلسلة النسوية قاطبة. كما أن اسمها يرمز إلى نتيجة تحقيق الأمل ودحض الشر من خلال ارتفاع رأس الخير الحقيقي الذي يدعمه البر، فالبر يزرع بذرة الأمل والهامة تعلي هذه الزرعة.

-3 الحربة: أمير الصيد، رمز الاسم واضح فهو السلطة الجبَّارة في المسرحية وهو مالك نصف اقتصاد دلمون وله القدرة على أن يتحول من شيء إلى شيء آخر في سبيل تحقيق ما يريد ولعل ذلك كان غير واضح من المسرحية ولكنه يتجلى أكثر في الموقف «السلمي» عندما لقي غنَّام والد الهامة في يوم الزفاف، وعندما اكتشف هروب الهامة تغيَّر كليَّا لدرجة أنه تنازل عن هذا الزواج في المشهد الثامن عشر، ولعله الشر المطلق في هذه المسرحية فكل الأعناق مربوطة بيد الحربة. وعمله الذي يقوم به هو عين الشر وعين السيطرة المستبدة للعالم وذلك من خلال استعباد الناس وحتى لو تطلَّب الأمر قتل عائلة كاملة لاسْتِعْبَادْ فرد واحد منها. ولعل الحربة يمثل السياسة أيضا وذلك من خلال تضييق منافس الشعب بحيث أن الحربة يستطيع فعل أي شيء دون أن يقف في وجهه أحد، لأنه يمثل السلطة السياسة والسلطة الاقتصاد معا، ومن خالف السياسة يموت جوعا، ما يجعل من الناس أذلاء للقمة العيش النتنة، التي يتفضل بها الحربة عليهم.

-4 غنام: أمير المرعى، فهو النصف الثاني من فولة الاقتصاد فهي بالمناصفة بينه وبين الحربة أمير الصيد، دلالة الاسم واضحة جدا لأن غنام دوره في المسرحية يمتلك مزرعة كبيرة للبهائم، أو قل للأغنام، لقد كانت هذه المزرعة الكبيرة ليست حلمه وحده بل حلم زوجته أيضا، فقد عمل غنام طوال حياته وهو يكوّن هذه الثروة، ولأنه يقدم مصلحته على مصلحة الآخرين، يسعى لتزويج ابنته الوحيدة الهامة من الليث بن الحربة لكي يحصل على مساعدة الحربة له في توسيع هذه الثروة البهائمية، فهو مثال للطمع والجشع في كل شيء حتى في مهر ابنته حيث اشترط على الحربة أن يحضر له عبيد من أجل المزرعة.

-5 شاهة: أم الهامة، امرأة حالمة، وجشعة، فقد كانت تحلم بأن تمتلك مزرعة كبيرة مع زوجها غنام، حتى اسمها يدل على رغبتها غير الطبيعية فهو مشتق من الشاة، ولا عجب أن تكون ابنتهما صاحبة النور الوضَّاء «الهامة»، فالله يخلق من بين الخبيثين طيِّبا، هي امرأة سلبية تتبع زوجها في كل ما يريد حتى في حلمه الذي صار حلمها من سلبيتها المفرطة، ولكنها قي المشاهد الأخيرة تدرك أنها كانت تتبع حلما لا قيمة له فنراها تتراجع عنه في النهاية.

-6 الليث: ابن الحربة، عبدٌ مأمور، يهوى القتل، اسمه يحمل معاني التكبر والكبرياء والغرور، لا يعرف معنى الحب، فهو يعشق على جهل، عشق سراب، أمله هي الحياة تحقيق أطماع والده، قوي ولكنه يستغل قوته بغباء، تنطبق عليه المقولة الشائعة (البعوضة تدمي مقلة الأسد).

-7 مرجان: جوهر الصداقة الحقة، يعشق الطعام، لأنه توأم البر في الفقر والجوع والحرمان حتى من حق الحياة على هذه الأرض، اسمه يحمل لون الحمرة الصافية الدالة على نقاء الجوهر فهو يتصرف على طبيعته دائما، ويسعى لخدمة البر مهما كانت الخدمة صعبة.

-8 العرَّافة: هي عالمة بالفلك والأفلاك، عرَّافة بحق، تعرف ماذا يخبئ المستقبل، ذات نبوءات صادقة، تتحدث دائما بلغة يشوبها الغموض، لأن مهنتها محرَّمة عليها وعلى أمثالها، فهي حكر على الكهان الرسميين لدلمون.

-9 الفاضل: هو صيَّاد يخاف على لقمة عياله، يدرك تمام الإدراك أن الحربة وغنام يضيّقان عليه حياته، ولكن لا يمتلك الجرأة الكافية ليقف في وجه سلاطين الأرض، هو فاضل من الفضيلة التي يريد العيش بها ولكن لصعوبة تحقيقها على أرض الواقع فقد اكتفى بها في اسمه فقط.

-10 مرزوقة: هي مربية الهامة تحبها كثيرا، هي مستودع أسرارها، وهي المساعدة لها في الهروب من البيت لتقابل البر، اسمها يحمل دلالة واحدة وهي أنها باحثة عن الرزق، بالرغم من أنها تعمل عند غنام الجشع إلا أنها استطاعت أن تربي الهامة على الصفات الحميدة وتبعدها عن سوء الخلق الذي تلقاه يوميا نصب أعينها.

-11 الصيادون: بعضهم يدرك حقيقة السياسة الخبيثة التي يتعامل بها الحربة وغنام، وبعضهم كأنهم قطعة في وسط عاصفة هوجاء، يدورون مع كل دائر، أذلاء إلى لقمة العيش، ويحملون بعض صفات الجُبْن.

-12 التابعون: لا يعرفون شيئا سوى تنفيذ ما يطلب منهم فهم مسلوبو الإرادة تماما، لا يهمهم إن نالوا حقد الناس بسبب هذا العمل لأنهم يدركون أن الناس تبحث عن لقمة العيش أينما كانت.

-13 نساء القرية ورجالها: إنهم ينعقون مع كل ناعق، جبناء، تناسوا كلمة الشرف والكرامة والعزة بسبب الجوع، ينقادون وراء القوى الكبرى من دون وعي لكي لا يخسروا حبة رز واحدة.

الواسطة (محور الأحداث) :

إن الواسطة هي محور الأحداث عند البنيويين وهي نقطة التقاطع بين الفواعل والمفعول به والمساندين والمعارضين.

والمسرحية تدور أحداثها حول فتى في العشرين من عمره يدعى البر وله صديق اسمه مرجان، البر يعمل مغنيا والمرجان طبَّالا خلفه، وفي يوم من الأيام كانا يمشيان في الغابة إذ التقيا بالعرافة التي تنبأت بأن هناك خليطا من خيوط عطارد وخيوط المريخ وقالت لهما من الحفلة لا تقربا، وهي تقصد حفلة خطوبة الليث والهامة اللذين هما ابنا القوى الكبرى في البلد، لأن الهامة بنت غنام أمير المرعى، أما الليث فهو ابن الحربة أمير الصيد، وفي الحفلة وقع شيء لم يكن في الحسبان حيث حلَّت عاصفة هوجاء على الساحة التي تقام فيها الخطوبة وقلبت المكان رأسا على عقب وقد كُسِرَ العمود الذي احتمت خلفه الهامة ولكن خطيبها ولى هاربا عنها وذهب البر مسرعا وأبعد الهامة عن العمود وتلقَّى العمود بنفسه وبعد هذا الحادث ظلَّ طريح الفراش لمدة شهر كامل يتناوب على مراعاته الهامة ومرجان، بينما الليث خرج للصيد في اليوم الثاني من الخطبة، ولكن صيده ليس صيد الطيور أو الحيوانات ولكن صيد البشر واستعبادهم حتى أنه قد يقتل عائلة بالكامل لكي يستعبد فردا واحدا منها وعندما عاد الليث ذهب إلى والده الحربة واخبره بما أحضر، فغضب عليه لأنه أحضر القليل من الصيد وغير المواصفات التي اشترطها الأب كما أنه تأخر عن موعده بأسبوعين، ثم خرج من عنده وذهب إلى الهامة ولكنها لم تستقبله بما كان يتوقع لأن أملها قد خاب فيه تخلَّى عنها في يوم الخطوبة.

وبعدما أفاق البر من غشوة المرض التي دامت شهرا كاملا وجد نفسه لا يستطيع الحراك فضاقت به الدنيا، واسودت في عينيه الحياة لا لهمه فقط بل لهم الناس أيضا، تذكر ما حلّ َبه وبالناس، فقد مات أبوه مقتولا، فصار يعيش وحيدا بين عبيد الأسماك الذين حوَّلهم الجوع إلى أشباح تمشي من صبح الشمس إلى مغربها وهم يكدحون، لا يجب أن يبق الحال على ما هو عليه لذلك قرر البر أن يتحدَّى القوة الكبرى في البلاد.

مرجان: مازلت ضعيفا لا تملك أن تدخل معركة ضد أمير المرعى وأمير الصيد، ولا تنسَ أنك لا تملك مالا أو أعوانا أو...

البر: أملك ما لا يقدر أن يملكه الاثنان، سأدمرهما.

مرجان: بالكلمة!

البر: قل فعل الكلمة.

ثم يتجمع البحارة على الساحل لكي يسترزقون، ولكن همومهم أقرب إلى أفواههم من العمل فهم قلقون من فصل الشتاء إذا أقبل عليهم فسوف يموت الصغار جوعا، وبينما هم كذلك إذ دخل عليهم الحربة طالبا منهم العمل، فإذا بالخبر يأتيهم بأن زوجة الفاضل (أحد البحارة) قد أنجبت طفلا وبهذا يكون القلق قد أخذ مأخذه من قلب الفاضل في أن فما جديدا في العائلة يحتاج إلى الطعام.

وفي المساء خرجت الهامة مع الخادمة (مرزوقة) لكي تقابل البر عند التلة، لتشكِ له همَّها بسبب أن أهلها لا يفهمون أنها لا تريد الليث زوجا لها فقد خذلها من أول امتحان له معها، عندها زرع البر لها سنابل أمه على تلك التلة والهامة أسمتها بذرات الحب الأول.

في اليوم التالي ذهب الليث لمقابلة الهامة التي رفضت مقابلته في بادئ الأمر لولا إصرار الخادمة، أراد الليث إقناع الهامة بأنها حبه الأول والأخير لكن الهامة لم تصدق كلمة واحدة مما قال، فعرض عليها الزواج لكنها رفضت فخرج غاضبا من عندها، وبعد لحظات جاء البر من وراء النافذة مشتاقا فاتفقا على أن يلتقيا عند التلة، ويظهر أن أحد البحارة قد رآهما لذلك ذهب إلى الليث أخبره بما رأى لكي يعطيه قطعة من اللحم.

وفي اليوم نفسه ذهب الليث إلى البر يستفسر لما كانت الهامة معه فردَّ البر بأنها جاءت لتشكر صنيعه معها عندما أنقذها من العمود، ولكن الليث لم يقتنع فصفع البر وأمر أتباعه بأن يضربوا البر ومرجان.

وفي المساء توجَّه الحربة إلى بيت غنام بعدما علم من الليث أنها لا تريد الزواج منه، وقد أمر الحربة بتعجيل العرس ثم خرجا بعدما وافق غنام على طلبهما، استشاط الأب غضبا وأخذ يناديها فقالت الأم إنها غير موجودة وفي هذه الأثناء دخلت الهامة فصرخ في وجهها أين كنت؟ أجابته بأنها كانت في الساحل فقال لها إن العرس مساء الجمعة، فردّتْ بأنها ترفض الزواج فكانت النتيجة أنها حُبِستْ في غرفتها.

وفي أحدى الأماسي كانت الهامة جالسة عند نافذتها المسدودة بالخشب تناجي البر، ولكن سرعان ما تحولت المناجاة إلى حقيقة حين أتى البر من خلف النافذة يكلمها وذلك بعدما ضربه أتباع الليث، وفي تلك اللحظات أدرك البر أن هذه الأرض ليست للعشق، لذا قرر الهرب مع الهامة إلى أرضٍ تقدر معنى الحب، وقد استعان البر بمرجان في هذا الأمر وبمساعدة أيضا من الفاضل، وبينما كان مرجان والفاضل يتفقان على شيء كان الليث يبحث عن مرجان، وانتشر الخبر بين أهل دلمون عن قصة الهامة مع البر، ولما طلب البر أن يختبئ عندهم رفضوا وتنكَّروا له وطلبوا منه مغادرة البلد.

وفي يوم العرس، وهو اليوم الموعود للهرب، هيَّأت شاهة كل الأمور اللازمة للعرس وعندما جاء العريس وأهله طلبوا رؤية الهامة ولكن الهامة قد لاذت بالفرار، كان البر هناك عند التلة ينتظر الهامة ولكنها تأخَّرت في القدوم، وكان يوسوس كثيرا هل ستأتي الهامة أم لا؟ وفي هذه اللحظة يأتي الليث ومعه أتباعه يجرون معهم مرجان مقيدا بالحبال، وأول كلمة قالها مرجان سامحني يا بر، عندها احتدم الصراع بينهما فأخرج الليث من جيبه سكين (حربة) وحاول أن يضرب البر لكنه تحاشاها بعدما جرحته، فأفلت الحربة من يده، واشتبكا بالأيدي وكان الليث يصرخ قائلا (البر لي وحدي)، يأخذ البر الحربة ويطعن الليث في قلبه، هنا يتشجع مرجان فأخذ يقاوم أتباع الليث فقتلوه، فهجموا على البر وضربوه فسقط أرضا مغشيا عليه، هنا تأتي الهامة وترى الجثث الملقية على الأرض فتثور حزينة، لم تتحمل ما رأت لذلك أخذت الحربة وطعنت نفسها، أفاق البر من غشوته، وقد رأى الهامة مخضَّبة بدمائها فأخذ الحربة من قلبها وغرسها في صدره لأن الحياة من دون الهامة لا معنى لها.

المفعول به:

لقد ذكرنا سابقا أن المفعول به المقصود به عند البنيويين هو المغزى من المسرحية، وهذه المسرحية الشعرية مغزاها عميق ومتشعِّبْ فهي تصب أحداثها على قضية الحب المستحيل الذي يتوارى خلف الشمس كما توارى صاحباه وإن الدكتور محمد الخزاعي لفت انتباهي على أمر مهم وهو أن اسم المسرحية الثانوي هو قصة حب دلمونية أي أن الشرقاوي أراد أن تهتم المسرحية بالحب أولا باعتباره الحدث الأبرز، ولكن هناك مغاز أخرى، أراها بعين المتذوق المحب للمسرح.

المغزى الأول:

لقد أراد الكاتب أن يقول للناس من خلال هذه المسرحية أن الحب مازال موجودا بمعناه الصادق بالرغم من تغير الناس وتغير الحياة وبالرغم من وجود أيدٍ حمراء ملوثة بالدم الفاسد تحاول أن تمحي اسم الحب الأعظم إلا أن العاشق له إرادة قوية تزلزل جبال الكراهية المزروعة في قلوب الناس، قادرة على تخطي كل الحواجز للوصول إلى نهر العشق الأبدي، على الناس جميعا أن تتعلم كيف تُحب وتنسى الأحقاد والأضغان وتسير في موكب المحبين فبدون الحب تقسو القلوب وقد تصل إلى التحجر وقد يقود إلى الفتك بالآخر مهما كان.

تعالوا نحب، نحب أنفسنا، نحب أهلنا، نحب أصدقاءنا، نحب الناس جميعا، نحب لغتنا، نحب هويتنا، نحب عاداتنا وتقاليدنا، نحب تراثنا، ونحب تراب بلادنا، فمهما حدث، نبقى للحب من أجل الحب سعداء آمنين.

المغزى الثاني:

إن المسرحية تحمل أهدافا سياسية تطمح من خلالها إلى تحقيق العدالة بين الناس، العدالة التي لم يكن لها وجود في المسرحية، ولكن جعلت الناس تشعر بأن «لو كان العدل موجود لما حدث ما حدث».

كانت هناك قوى كبرى تتحكَّم في البلاد متمثلة في الحربة أمير الصيد القاتل الأوحد على أرض دلمون، استطاع أن ينشر سياسته الظالمة على الناس من خلال امتلاك قوتين هما قوة المال (سياسة التجويع) وقوة اليد (سياسة الدم) وإنْ حدث من قِبَلْ الناس نقض للقوة الأولى أو اعتراض عليها ردَّتهم القوة الثانية، حتى جعل الناس في الآخر أذلاء ليس لشخص الحربة وإنما أذلاء اللقمة وللحربة (السكين).

وقد كان الحربة مسيطرا على القوى الكبرى الأخرى بالسياسة أيضا، من مثل غنام أمير المرعى الذي كان يسعى دائما لإرضاء الحربة بأي طريقة، لأنه لو غضب عليه لن يستطيع أن يحصل على عبيدٍ يعملون عنده في المزرعة، كما أن الحربة مسيطر على المعبد والكهنة، لكي يسير الناس برضاهم ودون أن يواجهه أحد وإن واجهه أحد قالوا عنه أنه كفر والكفر عقابه الموت.

لقد أراد الشرقاوي أن يقول مهما تكالبت القوى الكبرى في البلاد على الشر وحاولت استعباد الناس وذلهم إلا أن هناك دائما من يعي هذه السياسة الحاقدة ويستطيع محاربتها بكل ما لديه من قوة وسلاح، سلاحٌ لا يستطيع أحد سَلْبَهُ من المقاتل هو سلاح الحب الذي عاش بين قلبين متكافئين وجسدين هشَّمهما تمايز الطبقات المجتمعيَّة. استطاع أن يقهر القاصي والداني من الناس مهما علا جبروتهم وزاد ظلمهم، واستطاع الحب أن ينفض غبار الذل عن أيدي الناس المتحجرة بسبب العمل القاتل، فلا تحيى سياسة كهذه السياسة الرذيلة فلابد وأن يكون لها يوم أسود تقوض فيه عرشها الزبدي، فالزبد زائل والماء باقٍ ببقاء بحر الحب.

المغزى الثالث:

المستقبل، أراد الكاتب أن يلفت انتباه الناس إلى أمرٍ مهم ألا وهو الهدف في الحياة، على الناس أن تعي حقيقة هذا الأمر، فالإنسان لابد أن يكون له هدفٌ يسعى إليه، وإلا ما فائدة الإنسان إذا كان وجوده في الحياة من أجل نومٍ وطعام، هل هذه هي الحياة، تعيش يومك وكأنك وحدك في هذه الدنيا لا يهمك شيء إلا نفسك؟.

لا، على الإنسان أن يحلم ويسعى إلى تحقيق حلمه في الحياة، قد تختلف الأحلام والأهواء والأفكار والأهداف ولكن السعي إلى تحقيقها هو الشيء الأسمى في الدنيا، جميل من الإنسان أن يضع نصب عينيه هدف يحققه مهما كلَّف الأمر، أمر يستطيع التضحية فيه بكل غالٍ ونفيس، حلمٌ عندما تصل إليه في النهاية تسعد أيَّما سعادة كما لو أنك لم تسعد من قبل؛ لأنك استطعت أن تتغلَّب على الطريق الشائك والمخاطر المحيطة به من أجل هذا الحلم، ولكن عندما تصل إلى هذه المرحلة عليك أن تضع أمام عينيك هدفا جديدا وأبدأ بتحقيقه فالحياة أحلى طعما بالأحلام المستقبلية، ولا تقل: وماذا أريد من الحياة بعد؟ لقد اكتفيت، أو تقل: كبرت على الأحلام وإنك لن تستطيع تحقيقها لأن القدر سيخطف عمرك دون التحقيق، بل يجب عليك أن تحلم لكي لا يباغتك اليأس وتقعد في انتظار الموت، أحلم، واجعل مَن حولك يعلم بهذا الحلم، لأنك لو فارقت الحياة فستجد مَن يحمل مِن بعدك لواء حلمك.

المغزى الرابع:

الصداقة، في هذه الدنيا لا يمكن للإنسان أن يحيى وحده دون صديق، عليه أن يكوِّن صداقات بأي شكلٍ من الأشكال المشروعة لكي يستطيع التعايش مع العالم الذي يأكل المتوحدين الذين هم مع أنفسهم يمرحون مرح الجنائز، وكلمة الصداقة مشتقة من الصدق فالصديق مَنْ صَدَقَك لا مَنْ صَدَّقَك، إذن الصدق هو أساس هذه العلاقة بل هو الشجرة التي يقيم عليها الوفاء والإخلاص والمودة كثمراتٍ لها، وبالطبع لا ترمى بالحجارة إلا الشجرة المثمرة، وهذا يعني أن على الصديق أن يتحمَّل المشكلات والمصائب التي يمكن أن تحصل بينهم من فعل عوامل خارجية حاقدة أو عوامل داخلية ناتجة عن سوء فَهْم، فلا يجب أن تباع الصداقة مهما حدث وإنْ تجرَّعتَ حرارة الموت، لأنك قد تخسر حياتك، ولكنك ستجد من يبكِ عليك الدموع دما، ويدعو لك بالرحمة وهذا أفضل من أن تحيى ذليلا، وكلَّما تطلعت في وجه صديقك الذي آذيته زدتَ حسرة وندامة بعدها ستموت بالحسرة ولن تجد من يبكي أو يترحَّم عليك، بل لن تجد مَن يذكرك، وحتى إن وُجِدَ فسيكون صديقك المأذي منك عندها ستشعر بالذلة وأنت في قبرك المظلم.

هكذا أراد الشرقاوي أن يقول في حق الصداقة، وإن مصير المرجان (صديق البر) الذي باع صديقه هو القتل، لم يحصل إلا على طعنة في القلب، فقد رحل عن الدنيا والبر غاضب عليه، ولعل البر غفر له ما فعل لأجل أنه ساعده في مواقف كثيرة غير هذه المرة اليتيمة التي قد يكون المرجان نال ألوانا شتى من العذاب لكي يعترف بمكان البر، وهذا الأمر يغفر للمرجان خطيئته اللا خطيئة.

المغزى الأخير:

الوحدة، جاءت طعنات الغدر من التفرُّق الذي ساد بين الناس حتى أنهم جعلوا فردا من أهلهم غريبا بينهم لأن الذلة والفقر تخللت بين الفجوات، فلم يستطيعوا بل لم يحاولوا أن يكونوا صفَّا واحدا مرصوصا لا يدخله الباطل بأي شكلٍ من الأشكال، استسلموا للواقع المُرْ، لا يريدون أن يُتْعِبوا أنفسهم في شيء أبدا سوى البحث عن لقمة العيش وكأنَّ الكرامة لا تعنيهم في شيء وهم لم يعلموا أن الكرامة هي التي تضمن لهم لقمة عيشٍ يومية مغموسة في عسل العزة والإباء، كانوا يستطيعون أن يعيشوا بهذه العزة لولا تخاذلهم عن احتواء طفل الحُلْم الصغير (البر) الذي كان بينهم كسقْطٍ رمته الأم العجوز مع أنه يجاهد الوقت ليلتقط أنفاسه التي تُكبِّره بسرعة حتى لا يموت هذا الخديج، ومع ذلك لم يزلزل كيانهم هذا المنظر، جعلوا من أنفسهم أضحوكة للعالم حين فشلوا في تأدية دور المهرج الغبي الذي فشل في قيامه بدور الأم التي تتنكر لأولادها.

الوحدة هي القوة هكذا تعلَّمنا وهكذا عهدنا الحياة، في التجمع قوة وفي التفرق ضعف، الآن لماذا نتخلى عن هذا المبدأ لماذا؟ فقط لنأكل لقمة مغموسة بدم الذل الأسود؟ والله هذه اللقمة لا تستحق ما يُبْذل من أجلها.

أدعوا أنفسكم إلى التجمع والوحدة وإلا ستفشلون وتذهب ريحكم، واصرخوا بأعلى أصواتكم «دلمون تحيى بكرامة أبنائها المتكاتفين».

المساندون والمعارضون:

لقد قلنا من ضمن الحديث السابق عن المنهج إن هناك من يساند الأحداث الدرامية وهناك من يعارضها، فمن هنا ينشأ الصراع الدرامي للمسرحية، وليس بالضرورة أن يكون المساندون والمعارضون أفرادا بشرية بل قد تكون ظواهر طبيعية، أو أشياء غير مرئية، ولكي نستطيع تحديد هؤلاء المساندون والمعارضون علينا أن نختار المشاهد التي يجلَّى فيها الصراع وهي بالطبع ليست كل المشاهد.

أولا: نبدأ بالمشهد الرابع حيث أقيم حفل الخطوبة في الساحة الكبيرة وتجمع الناس على تلك الموائد الممتلئة بأصناف الطعام، عندها هاجت عاصفة قوية دمرت المكان فقلبته رأسا على عقب، لقد بدا واضحا أن المساندون لهذه الخطوبة هم:

-1 الحربة، باعتبار أن مصاهرة العائلتين البرجوازيتين في دلمون يعطيه امتيازات جمَّة، أهمها الاستيلاء على المال؛ لأن غنام والد الهامة يمثل سلطة المال. حيث يقول غنام: لنا مصلحة واحدة يالحربة، أنت القوة وأنا المال فلا يمكن أن أبقى دونك أو تبقى دوني.

-2 غنام، باعتبار أنه الطرف الثاني من المصلحة، فبزواج ابنته من ابن الحربة يحصل على الحماية من الغارات كما أنه يحصل على عبيد يساعدونه في أعماله التجارية.

-3 الكهنة، مساندتهم تأتي عن طريق المصلحة أيضا، فهم يريدون مَن يهتم بالمعبد أولا، وثانيا يتَّقون شر الحربة وغنام، وهذا الأمر غير واضح من المسرحية ولكن يُسْتَشف ذلك منها.

-4 الليث: مساند لأمر أبيه، فهو لا يستطيع مخالفة أوامره إلا أنه قد توافقت مصلحته مع أمر أبيه، ومصلحته الحصول على الهامة، يقول الحربة لابنه: الظاهر أن التفكير برائحة المرأة أنساك الشم.

-5 المرجان وأهل دلمون: وغايتهم من المساندة الطعام الفاخر الذي لا يذوقونه إلا في المناسبات.

لقد عرفنا المساندون، كلٌ له غاية وهدف يريد أن يحققه من هذه المساندة، أما المعارضة فقد أتت من جانب واحد فقط وهو:

العاصفة الهوجاء، التي تمثل تنفيسا لمعارضة القدر لهذه الخطوبة القائمة على المنفعة المتبادلة، ولعل القدر غاضب على الكهنة الذين جَرَوا وراء مصالحهم وكان من المفروض أن لا يداخل الدين شيئا من المصالح الدنيوية، وهم عندما خالفوا هذا الأمر استحقوا لعنة القدر العاصفة.

ثانيا: المشهد السادس الذي يَقْدم فيه الليث على والده الحربة بعدما ذهب للصيد «البشري» وغضب الأب عليه لأنه لم يحضر عبيدا بالمواصفات المطلوبة، والمساندون إلى هذا الحدث الدرامي هم:

-1 الحربة: هو الآمر بصيد الناس واستعبادهم، فهو ظالم ومتكبر يستخدم الناس عبيدا له ينفذون أوامره دون اعتراض لأنهم أغراب فإذا لم يطيعوا الحربة ماتوا جوعا.

-2 الليث: هنا مساندته تأتي عن طريق إطاعة أوامر الوالد ليحصل على رضاه وبالتالي يستطيع أن يطلب من الوالد أي شيء يريد، وأهم هذه المطالب إكمال مهر الهامة، الذي فرضه غنام وهو له «عبيد» يعملون معه في مزرعة البهائم الكبيرة.

-3 أعوان الحربة: وهم الذين كانوا يجلسون معه عند دخول الليث ومصالحهم قائمة على مساندة الحربة فيما يقوم به من أعمال وأهم دافع لهذه المساندة هي حفظ أطفالهم من الجوع.

هذا بالنسبة إلى المساندين. أما المعارضون فلا وجود لهم في هذا المشهد فعليا، وإنما شكلي ودون صراع ظاهر بل صراع نفسي عميق غير مصرَّح به وهم:

العبيد الخمسة الذين جلبهم الليث من رحلة الصيد، فهم يعانون الهُزال الشديد بسبب الفقر والقهر، وبالطبع لا يرغب الفرد أن يكون عبدا لأحدٍ من جنس بني البشر، هؤلاء الخمسة يعانون من حاجز صمت شديد يجعلهم يصارعون أنفسهم حتى غدوا لا يكترثون بالواقع فهم دائما يعيشون داخل أنفسهم، ولا ينطقون إلا بكلمة «حاضر سيدي».

ثالثاُ: المشهد الثامن، حيث يبدأ المشهد بصراع داخلي يتمثل في حديث البر مع نفسه، بعد صدمة العجز التي أطرحته الفراش عندما أنقذ الهامة من العمود المميت، ساعده على هذا الصراع ظروفه التي عاشها من الصغر إلى الآن، وحال الناس وما آل إليه من التسليم بالواقع المر الذي يعيشونه، والمساند للحدث هو: القدر المحتوم الذين فعل بالبر ما فعل وكأن القدر يستنكر على بطل المجتمع «البر» أن يسلِّم بالواقع ويأخذه كما هو، فـ «البر» كان محتاجا إلى هذه السقطة لكي يستفيق من نومه ويواجه القوى المستبدة في دلمون، لذلك يعي البر بهذا الأمر فتراه يتهدد ويتوعَّد بهذه القوى، حيث قال في حواره مع مرجان:

مرجان: مازلت ضعيفا لا تملك أن تدخل معركة ضد أمير المرعى وأمير الصيد، ولا تنسَ أنك لا تملك مالا أو أعوانا أو...

البر: أملك ما لا يقدر أن يملكه الاثنان، سأدمرهم.

مرجان: بالكلمة!!

البر: قل فعل الكلمة.

أما المعارض لهذا الحدث الدرامي فهو المرجان، وتتمثل معارضته عندما قرر البر أن يتحدى القوى الكبرى وعارض هذا المبدأ الذي قد يودي بحياة «البر»؛ لأنه لا يكافئ الطرف المقابل فليس لديه سلاح ولا مال ولا قوة، وقد صرَّح المرجان بهذه المعارضة عندما قال له: »«خاف عليك».

رابعا: المشهد الحادي عشر وفيه يتحدث الكاتب عن لقاء الهامة بالليث ورفضها إتمام الزواج به، ومقابلة البر عند التلة التي يجلسان عندها دائما، والمساندون لرفض الزواج لا أحد سوى:

-1 الهامة: وهي صاحبة الأمر ترفض الزواج بهذا الرجل الذي تخلَّى عنها في وقت الشدة فما فائدة وجود الرجل إلى جانب المرأة ما دام لا يستطيع أن يحميها.

-2 البر: ليس لديه سبب صريح لهذه المساندة سوى حبه المتوقد في قلبه الذي يدعوه لنصرة قلب الهامة.

أما المعارض لهذا الرفض في هذا المشهد فهو: الليث، الذي يحب وجود الهامة إلى جانبه ليس عشقا بشخصها وإنما عشقا بجمالها، فهو يعتبرها شيئا ماديا يمتلكه حتى أنه ينعتها بذلك صراحة، حين قال:

الليث: مَن يسرق أملاكي أذبحه ذبحا.

البر: الهامة ليست ملكا من أملاكك أو أملاكي، الهامة مثلك مثلي إنسانٌ يحمل قلبا حيا هو مَن يختار.

خامسا: المشهد الثالث عشر، وفيه البر ومرجان يتحدثان عن الحب الذي يجمع بين البر والهامة، ويقطع حديثهما دخول الليث وأتباعه إلى المزرعة، حيث يتجلَّى الصراع بينهما على الهامة، ويشتد الحديث بينهما حتى تصل إلى ضرب البر ومرجان على أيدي أتباع الليث. والصراع هنا على الهامة، فكلاهما يريد الهامة له وحده، وممن يساند أن تكون الهامة إلى الليث هم:

-1 المرجان: إن مساندته إلى هذا الأمر تعود لسبب مهم، ألا وهو أن الليث يريد الهامة، فهو ما ساند هذا الأمر إلا خوفا على البر الذي قد يكون ليس قادرا على أن يخوض حربا مع القوى الكبرى التي ستكون نهاية البر معروفة قبل بدء هذه الحرب وهي الموت.

-2 أتباع الليث: ومساندتهم مساندة براغماتية تعود عليهم بالمنفعة السريعة ولا يهم إن كانوا من أجل هذه المنفعة يقدمون كل ما لديهم من غالٍ ونفيس؛ لأن قلوبهم قد تحجَّرت بفعل الجوع والفقر والحرمان.

-3 الليث: هو آخر شخص يساند هذا الأمر، فهو لا يرغب في الهامة رغوب العاشق المتيَّم الذي لا يستطيع أن يستغني عنها وإنما يريدها لجمالها، وتوجد نساء كُثر يحملن مثل هذا الجمال إلا أنه يريدها عنادا لها؛ لأنها رفضت الزواج منه وهو ليس ابن لأبٍ عادي لكي يرفض بهذه السهولة، وإنما يريدها ليثبت لها ولغيرها أنه ليس الليث الذي يُقال له «لا».

أما المعارض لهذا الأمر فهو البر الذي يعتبر الهامة هي المسئولة الوحيدة عن قرارها فليس من حق الليث أو والد الهامة أو حتى هو نفسه أن يجبرها على فعل شيء هي لا تريده لذلك كان البر يرى أن الهامة هي التي تختار (إما الليث وإما هو).

سادسا: المشهد الأخير، وفيه البر ينتظر مجيء الهامة فقد اتفق معها أن يهربا إلى أرض أخرى تعترف بالحب ويعيشان بسلام بعيدا عن هؤلاء الناس الذين لا يقدِّرون العشق، وبينما نار الانتظار تأكل في لحمه إذ دخل عليه الليث وأتباعه وهم يجرّون المرجان الذي أخبرهم عن المكان الذي سيجتمع فيه البر مع الهامة ودارت مشادَّات تتبعها اشتباكات بالأيدي، ثم أخرج الليث حربة (سكين) أراد أن يطعن البر ولكنه تحاشى الضربة فقد جرحته فقط ثم تناول البر الحربة التي رماها الليث وطعن الليث فقتله دفاعا عن نفسه، فهاج أتباع الليث وقتلوا المرجان بعدما قاومهم وضربوا البر ولاذوا بالفرار، عندها أتت الهامة ورأت الجثث وظنت أن البر قد مات. أخذت الحربة وقتلت نفسها وبعدما استفاق البر من غشوته، ورأى الهامة وهي مخضبة بدمها فلم يتحمل ذلك وأخذ الحربة من جسدها وقتل نفسه بعدما اختلط دمه بدمها.

هنا الصراع يتنفذ على وجه الحقيقة ظاهريا فقد أراد أن تكون الناس على علمٍ وبيّنة من هذا الأمر المروِّع الذي يخطف الأنفاس، لا يوجد أحد يساند هروب البر والهامة إلا:

-1 العشق: فالعشق له مصلحة من هذا الهروب، لأن هذه الأرض لا تعترف بالحب، لذا كان يجب على العشق أن يبحث عن هوية معترف بها بأي شكل لا يريد أن يحيى هنا وكأنه ابن غير شرعي لهذه الأرض.

-2 البر والهامة: مساندتهما مبنية على أساس بسيط صعب المنال على أرض دلمون وهو العيش بسلام، دون تمييز طبقي، دون جوع، دون كُرْه، دون قهر، يريدون حياة تجمع الحب بالحب، وتعيش يومها مطمئنة بأن قُوْتَها موجود بإذن الله، يريدون ثقافة البسمة تدخل كل بيت، ولكن للأسف اكتفيا بالموت سويَّة.

أما المعارضون لهذا الهروب فكثيرون وهم:

-1 الليث: الذي قلنا عنه سابقا إنه يسعى إلى جمال الهامة.

-2 المرجان: الذي قلنا عنه سابقا إنه يخشى على البر من الموت، بالإضافة أنه لا يريد الموت على أيدي هؤلاء الظلمة ولكن أمله لم يتحقق؛ لأنه في آخر لحظة غيَّر موقفه من هذا الهروب، وما لبث أن غيَّره حتى طعنوه وخلَّصوه من حياة القهر.

-3 السكين (الحربة): ومعارضتها تأتي من خلال دورها في المسرحيَّة فلو كانت مساندة للهروب لما كان لها وجود في المسرح ولو لاحظنا أنها استعملت للشر وللخير وبهذا كان لا يهمها ما يجري من الأحداث سوى أنها ترغب في الظهور على خشبة المسرح.

-4 القدر: ومعارضة القدر لهذا الهروب قائم على غضبه عليهما بأنهما لم يحاولا الصمود والتوكل على الله في هذا الأمر فقد اتبعوا سياسة الهروب الفاشلة التي لن تعود عليهما بالراحة إلا أياما قلائل، فعلى الناس عندما يواجهون مشكلة عليهم أن يواجهوها مهما كانت النتائج؛ لأن الله سيكون في عونهم. ولكون البر والهامة لم يفكرا في ذلك حقَّتْ عليهما اللعنة.

المكان ورمزه في البرهامة:

يستخدم المسرحيون وغيرهم من الفنانين والمبدعين الصور الخاصة بالمكان من أجل إثارة أو تكوين حالات نفسية خاصة داخلنا، فالفن بطبيعته مكاني وهو مثله في ذلك مثل الحياة يتطلب مكانا معينا يصبح ساحة للأحداث، مكانا يمكن أن يصبح ساحة لتصوير الواقع، أو إعادة إنتاجه فنيا، أو لإنتاج الأحداث الخيالية الخاصة التي يتطلبها العمل الفني فيه.

لقد عرَّف العلماء المكان بأنه: حيِّز ما يحيط بالإنسان ويطلق عليه اسما. وهذا المكان لابد أن يتسم بصفات محددة ومحسوسة، على الرغم من أنه أصلا مجرَّدا، أو فكرة عقلية مجردة، أي علينا أن ننظر إلى طبيعة المكان الفيزيائية ونوظّفها في الدلالة؛ لأنها تعكس بعضا من أحداث المسرحية.

إن المسرحية التي بين أيدينا بها أماكن كثيرة، وكل مكان له دلالاته الخاصة. وعلى الرغم من أن هذا المكان قد يتكرر إلا أنه تبعا للأحداث تكون دلالاته مختلفة بعض الشيء. إن هذه المسرحية «البرهامة» بدأت بموقف استرجاع (وكأنه يبدأ بالمشهد الأخير ثم يفصّل القول في الأحداث). لقد كانت هذه اللوحة الاستعراضية تستخدم كلمة «البرهامة» بمعنى المكان لا بمعنى اسمي البطلين «البر» و «الهامة»، كان المسرح في ذاك الوقت خالٍ من الديكور عدا جذع شجرة يوحي شكله عن جسدين متماسكين بالأيدي وهذا الجذع مجوَّف وداخل التجويف شمعة وعلى مقربة من الجذع بقايا زهور، وكان هذا المكان هو معبد يجتمع فيه الكهان كل عام.

إن الجذع وتجويفه في هذا المشهد يدل على حياة الناس من الطبقة المعدومة الذين تكالبت عليهم الهموم والمصائب من كل حدب وصوب فالقدر من جهة، وصراع القوى الكبرى في المنطقة من جهة أخرى، وإذلال أنفسهم إلى الآخر من جهة ثالثة حيث جعلتهم الحياة أشباه بشر، لم يبق منهم إلا مظهرهم الخارجي القاسي الخشن من شدة الجوع والقهر والظلم الواقع عليهم. أما داخلهم فلا شيء يُذكر، والشمعة التي احتواها هذا الجذع هو الأمل الذي زرعه بطلا هذه المسرحية وهما «البر» و «الهامة». لهذا كان الجذع يوحي من خلال شكله بشخصين متماسكين بالأيدي وكأنَّ البطلين وقفا في وجهة الظلم ليس من أجلهما فقط بل من أجل الناس جميعا. وإذا كان هناك وجود لأحدِ من أهل هذه المنطقة فهو عائد إلى هذين الشخصين.

أما بالنسبة إلى بقايا الزهور فهي تدل على الجيل الأول من الأطفال الأحرار الذين سيواصلون مسيرة «البر» و «الهامة» وهم الذين سيسعون إلى بناء وطن لا يقهره الجوع والظلم ولا يدخله من لا يستحق العيش فيه.

وأما أن يكون المكان في هذا المشهد معبدا فهو يدل على الطهارة والقداسة لهذا المكان الذي كان مستباحا للقوى الكبرى، الآن صار مكانا لا يدخله إلا المتطهرون من شر العالم، متوجهين إلى الأرض الطهور التي لم تعرف الدنس بعد «البر» و «الهامة». هذه الأرض لم تعرف إلا الطهارة منذ قديم الزمان، ولكنها تحولت إلى غابة من النمور الجائعة بوجود قوى الشر المتمثلة في «الحربة»و «غنام»، وقد صرَّح الكاتب بذلك في موقف الاسترجاع من خلال استعراض الكهان عندما قالوا:

يا برهامة

دلمون مقدسةٌ وطهور

لا تعرف ماء غير النور

مَن بدّلها

مَن غيّرها

مَن حوَّلها غابات نمور

بدأ المشهد الأول بالبر ومرجان، صاحبه، يمشيان في طريق للغابة وكأن الكاتب عندما اختار هذا المكان أراد أن يقول إن البر ومرجان يمثلان طريق الخير المحفوف بالمخاطر مثل طريق الغابة الذي تحيطه المخاطر من كل صوب حتى وإنْ كان في وَضَح النهار.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن الغابة هي المكان الأمثل للقاء العرَّافة التي قرأت مستقبل البر ومرجان، باعتبار أن العرافة امرأة مسنة لا تقوى على حرارة الشمس أولا، ثم إنها تمثل المعرفة الحقة بالكواكب والممنوعة على الناس غير الكهنة الرسميين التابعين إلى السلطة الكبرى من جهة ثانية. لهذا كانت تستعمل لغة مبهمة لكي تنعت بالجنون ولا تُقَدَمْ إلى السلطة القائمة في ذاك الوقت.

في المشهد الثاني يكون المكان فيه هو معبد الكهان الرسميين التابعين للقوى المسيطرة على أرض دلمون، وكان الكاتب يريد من هذا الأمر أن هذه القوى تعمل على تظليل عيون الناس عن الحقيقة وذلك من خلال إشراك القوة الدينية في مطامعهم الشخصية؛ لأن الدين له تأثير قوي جدا على الشعوب مما يجعلهم ينقادون وراءه دون النظر إلى صحة الطريق الذي يسيرون فيه، وكون الزواج بين الهامة بنت غنام والليث ابن الحربة له مصلحة مشتركة لذا جاء قرار الكهنة مطابقا لهذه المصلحة. وكما قلنا سابقا قد تتشابه الأماكن ولكن الدلالات تكون مختلفة؛ ففي هذا المشهد معبد يمثل السلطة الثالثة الطمَّاعة، ولكن المعبد في اللوحة الاستعراضية يمثل الطهارة والقداسة.

المشهد الثالث يكون المكان فيه كوخا وهذا الكوخ يمثل البيت الذي ينام فيه البر ومرجان. ولعل هذا المنظر هو صورة متكررة لفقراء دلمون بحيث يكون البر ومرجان جزءا من هذه الصورة البائسة، في حين أن الطبقة الغنية تقيم حفلا لخطوبة الليث والهامة في ساحةٍ كبيرة تجمع نساء دلمون ورجالها في المشهد الرابع، وهذه المفارقة تعكس مدى الضيق والفقر الذي يعيشه الناس في دلمون القديمة، ولكن سرعان ما يتدارك الكاتب هذا الموقف في جعل هذه الساحة على رغم كبير ساحتها إلا أنها أوهى من بيت العنكبوت؛ لأنها لم تصمد في وجه العاصفة، وكأن الكاتب يريد أن يلفت انتباه الناس بأن القدر غير راضٍ عمَّا يحدث وأن الكهان لهم دور كبير في نقمة القدر عليهم؛ لأن توجههم منصرف إلى مصالحهم الشخصية، فهم استغلوا الدين لهذا الأمر فاستحقوا هذه النقمة.

من سخرية القدر أن الساحة تنقلب رأسا على عقب بسبب العاصفة، إلا أن الكوخ الذي يأوي إليه البر ومرجان ظل صامدا في وجه جبروت العاصفة - في المشهد الخامس - وهذا يرمز إلى أن الخير مهما كان شكله ولونه وهيئته إلا أنه أقوى من كل شيء على الرغم من شكله الذي يوحي بالضعف والوهن.

ولعل هذا الكوخ ليس هو نفسه في المشهد الثالث، بالنظر إلى المدة التي قضاها المشهد الرابع إلى وقت المشهد الخامس (وهي مدة مقدَّرة بشهر واحد)، أي أنه قد يكون مرجان أعاد بناء الكوخ، وحتى لو حدث هذا الأمر فإن ذلك يدل على قوة أساس الخير الذي يقف على قدميه من جديد وإنْ واجه مصاعب الدنيا قاطبة.

في المشهد السادس، وكر الأسد هو المكان، مجلس الحربة وأعوانه. ولم يذكر الكاتب المكان صراحة في هذا المشهد وإنما اكتفى بذكر شيء يدل عليه وهو (الكرسي الذي له طابع خاص) وكأنَّ الكاتب استثقل كلمة مجلس الحربة؛ لأنها تُشعر الناس بتمايز طبقي، كما أنه جعلها مطلقة هكذا؛ ليتيح مجالا للمخرج ليتصرف بالديكور كيفما شاء، بحيث يستطيع المخرج أن يجعل المسرح في هذا الموقف جميلا ولكن يكتسحه بعض السواد الذي يدل على خبث سريرة الحربة وجهل أعوانه.

أما المشهد السابع فقد سلَّط الضوء على بيت الهامة. ولعل الكاتب يقصد بذلك غرفة الهامة في بيت والدها. فهو فصل غرفة الهامة عن بيت غنام، لكي يقول إن هذا البيت الذي يمثل الوكر الثاني في دلمون للشر وقهر الناس هو بيت يحتوي على الصفاء والنقاء بسبب وجود الطرف الثاني لمعادلة الخير المعقودة بين «البر» و «الهامة».

المشهد الثامن مكان البر هو الكوخ. هذه المرة الكوخ له دلالات مختلفة؛ لأن الكوخ يمثل حالة البر النفسية؛ بحيث إن البر كان وحيدا في ذلك الوقت، يعيش صراعا مع نفسه، يتأمل حالته التي غدت لا فائدة منها، لدرجة أنه يضرب رأسه وينادي الموت بصوت مخنوق، بل جعل مكانه ليس الكوخ بل أضيق من هذا، حيث جعل فراشه المصنوع من الحبل هو مكانه، يقول البر:

البر: ما جدواي الآن هنا. ما جدوى الإنسان إذا لا يقدر أن يتحرَّك. أو ينطق أو يفعل شيئا أو... (يضرب رأسه) أوليس الموت جميلا حين يكون المرء بلا ساق تقدر أن تأخذه حيث يشاء. ألا يا موت تعال إليّ. إذا لم تأت إليّ سأدفعني نحوك يا موت تعال. (يضرب رأسه مرة أخرى) يا موت تعال.

أما المشهد التاسع كان المكان ساحل البحر، هو بالنسبة إلى البحَّارة يعتبر المتنفس الوحيد لهم، هو عملهم الشاق اللذيذ، الذي ينسون همومهم عند لقائه. هذا الساحل يمتص ألم الناس ويبثه للبحر؛ لأن البحر أوسع منه، ولكن للأسف إن البحر غدَّار، بَخِلَ عليهم حتى بسمكاته الشحيحة. وهذا يدل على شدة الفقر الذي يعاني منه أهل دلمون، بل يدل على تسليمهم الذليل لقوى الشر المستبدة ويتبَّن ذلك من خلال الموقف التالي:

الفاضل: (يتنهد بحسرة) إيه.

بحار2: ما بك يالفاضل؟

الفاضل: بي ما بالناس من الهم.

بحار3: تجرَّع همك مثل تجرع طفل للبن الأم.

الفاضل: سأغص به.

بحار4: أو أطفئه بالأم (يضحكون)

الفاضل: البرد يزيد وأسماك البحر تشح ونحن السماكين أيادٍ صخَّرها الوقت فما عادت تنفع شيئا. وأخاف على الأطفال من الميتة جوعا. فأمير الصيد...

بحار2: يساعدنا.

بحار3: بالطبع يساعدنا. ماذا نبغي أكثر من هذا (ساخرا) يعطينا في فصل الصيد (عفاطي) كي يأخذ هامورا.

من خلال هذا الموقف يتبيَّن لنا أن البحار (2) يخاف من ذكر همومه أمام البحر خوفا من أميره، وهو مستعد أن يقول إنه بخير وعلى ما يُرام حتى وإنْ كان جلدا على عظم. وما كان من الكاتب أن يذكر هذا الموقف إلا لكي يقول بأن هناك فئة من الناس يضعون حبل الذل حول أعناقهم خوفا من السلطة المستبدة من جهة والخوف من الجوع الأشد من جهة أخرى. ولا ننسى أن هناك فئة من الناس وعيت تماما لما يحدث ولكنها لا تقوى على المواجهة.

المشهد العاشر مكانه تلة للقاء المحبين، هذه التلة ترمز إلى البعد عن الناس سوى الحبيب الذي لم يعترف بحبه إلى الآن. كما أنها ترمز إلى الهدوء وسماع صوت الحبيب وحده، والتراقص على نغمات صوته المختلفة، هذه المشاعر اللذيذة الممزوجة بالحب والخوف معا وبث الهموم لبعضهما بعضا. من هذه التلة زرع البر قمحه الموروث عن أمه الدلمونية، هذه القمحات هي بذرة الحب الأولى على أرض دلمون. الأمل المفقود ينبت من هذه التلة، أمل الأجيال في الحرية المغتصبة من قِبل القوى الكبرى على هذه الأرض المقدسة.

في المشهد الحادي عشر تظهر الهامة في غرفتها، تلك الغرفة هي ملتقى قطبي الصراع على الهامة، وهما الليث والبر. كان الليث يحاول أن يجعل الغرفة نور حبه مع الهامة ولكن الهامة مدركة أن حبه لا يمكن أن يصل إلى درجة الحب الحق؛ لأن حبه مقرون بالمصلحة ومتى ما ذهبت المصلحة ذهب حبه أدراج الرياح. أما البر الذي عرف درجات الحب جميعا وضحَّى بالنفس من أجل الهامة فيتمنَّى أن يستطيع دخول الغرفة ولكن إيمانه يمنعه من ذلك وكذلك حرَّاس القصر، فكان حديثه معها من الخارج وإلى الخارج حيث المكان الأول أحلى للحب الأول (التلة).

أما المشهد الثاني عشر فمكانه الساحل، ودلالته تشبه سابقتها. رمزه الغدر والخيانة. وهذه الخيانة نابعة من أصحاب الذل والهوان، باعوا مبادئهم من أجل قطعة لحم، إفشاء سر المحبين وحرمانهم من لحظاتهم الجميلة كان من أجل قطعة لحم. قد نلتمس لهم عذرا في ذلك فقد أكل الجوع من لحمهم وشرب عليهم كأسا من الفقر.

وفي المشهد الثالث عشر استخدم الكاتب كلمة منطقة زراعية بدل منطقة من الغابة حيث يعيشون، وكأنه أراد أن يقول إن البر يعيش الآن حياة خضراء مملوءة بثمر الحب ولا ينقصها إلا سياج الزواج. ولكن سرعان ما يأخذنا الكاتب إلى صراع داخلي في قلب البر، صراع بين الحب والواقع:

البر: نومٌ لا يأتيني وسرورٌ ليس يحل عليّ. كنت الأقول من قوالي الأشعار الدلمونية، كنت الصاخب مثل البحر إذا حلَّ هلال الشهر لماذا حاصر شفتي الصمت وحوّل أيامي قارب صيد لا يقدر أن يترك منطقة الساحل.

(صمت)

البر: ويحك يا بر، حديث الآخر لا تسمع، أكلا لا تأكل، كيف ستقدر أن تقتحم الأيام وأنت غريبٌ حتى عن صوتك. كيف ستقدر أن تأخذ حقك من... حقي؟ لا أبغي حقا، لا أطلب ثأرا، أبغي الهامة، لكن كيف! وحيدٌ لا أهل ولا أم ولا أخت ولا...

(صمت)

البر: اضرب في التربة قد تسحب شيئا من فائض همك، وتخفف بعضا مما تحمل، اضرب قد يغسل هذا العرق المتساقط من جسمك حمى قلبك، اضرب.

أما المشهد الرابع عشر فمكانه بيت غنام، بيت الأحلام المعقودة على البنت الوحيدة التي لا تستطيع تحقيق هذه الأحلام الجشعة في زيادة ما لدى عائلتها من بهائم بسبب حبها الصادق لذلك الشاب الفقير. هذا الحلم الخرافي تنبهت له شاهة أم الهامة وأدركت أنها كانت مخطئة فيه، ولكن غنام ما زال مصرا على تحقيق هذا الحلم مهما كان الثمن.

المشهد الخامس عشر يحكي أن مكانه غرفة الهامة، بل سجن الهامة. لقد تغيرت دلالة هذه الغرفة من الصفاء والنقاء إلى الظلم والقهر وضيق النفس من هذه الدنيا بما رَحبتْ، حتى الحجر بات محروما من النور، ظلمة نفس الهامة غطَّتْ جدران غرفتها وتطاول حتى أنه أراد الوصل إلى عنان السماء ولكن سجنها حال دون هذا الأمر.

المشهد السادس عشر مكانه الساحل. هذه المرة الساحل يمثل الحقيقة المُرَّة المعروفة لدى الجميع بأن أرض دلمون أسيرة لدى اثنين (أمير المرعى وأمير الصيد) وأن الناس الجوعى لا يمكنهم الحياة دونهما، كما يمثل الساحل الغضب البحري الكائن في غضب الليث المحكوم على حبه بالموت سالفا قبل أن يُولد.

أما المشهد السابع عشر مكانه ألَّا مكان، مساحته أرض دلمون بما ضاقت وبما رحُبتْ. هذه العُمومية ترمز إلى الضياع الذي يعيشه البر في هذه اللحظات بعدما تنكَّر له أهل دلمون جميعا. كما أنها تحمل في طيَّاتها رمز السياسة الخبيثة التي لها القدرة المسيطرة على عقول الناس بحيث تجعل من الناس لسانها الناطق بأفكارها الدنيئة:

امرأة: ( ترى البر ثم تصرخ في وجهه) اخرج من دلمون.

(يهرب من وجه المرأة، يصطدم برجل)

رجل: وجهك لا يحمل غير الشؤم.

امرأة أخرى: (عند باب آخر) منذ دخول أبيك إلى دلمون وهذا القحط القاتل يجثم فوق أراضينا.

الليث: (حاملا مشعله ويقود أتباعه) ما دخل البر مكانا إلا خرَّبه، دلمون أتتها اللعنة حين سمحنا للعشبة (والد البر) بالعيش هنا، لن ينزل مطر والبر هنا.

رجال: فلتطرد هذي اللعنة.

نساء: سوف نموت من الظمأ اليومي.

هكذا تكون السياسة هي المتحكمة في عقول الناس. كما أننا نلاحظ أن الناس في هذه المرحلة لا يستطيعون مواجهة القوة الفتَّاكة التي تعصف بهم، لذا تراهم يبحثون عن أي شيء ليجعلونه سبب تعاستهم في الحياة. وهذا يتحقق من طريقين، إما أن يريدوا من ذلك أن تسمع القوى الكبرى في دلمون ما قالوه للبر لكي لا يفقدوا رغيف الخبز، وإما أنهم من الجُهّالْ السُذج الذين يميلون مع كل ريح، فلا يعرفون من هم وماذا يريدون ومَن تكون دلمون.

والمشهد الثامن عشر مكانه بيت غنام. ذلك البيت الذي يجب أن تكون دلالته الفرح باعتبار أن الليث سيتزوج الهامة ولكن... هذا المنزل جزء من صورة جنائزيَّة، فلا الأم تشعر بالفرح ولا الهامة تحس بالسعادة، فعلى الرغم من الزينة التي تناثرت هنا وهناك إلا أن أقمار الحزن ساعدت على تزيين هذا البيت بالكدر. هذا المكان ضيِّق ويعكس ضيقه على نفوس أصحاب البيت جميعا دون استثناء أو قل العكس. جاء ضيق مكان العرس بعد سعة مكان الخطوبة، وكأن الكاتب أراد من الجمهور يتنبَّأ بأن العرس لن يكتمل، وكأن الدنيا تتسع عندما تكون الهامة سعيدة ولكنها تضيق عندما تكون حزينة؛ لأن المكان لها لا لأحدٍ غيرها، فهي الخير، والخير سلطان الأرض.

المشهد الأخير مكانه منبع الحب، التلة التي زُرِع فيها قمح الخير والعشق الدفين. هذا المكان على الرغم من اللحظات السعيدة التي عاشها البر والهامة إلا أنه صار كئيبا كأنه ليل المريض. آهٍ أيتها الدنيا التعيسة حتى هذا المكان الجميل صار مقبرة للأحلام! هنا المكان يرمز إلى الصراع الداخلي الذي يعيشه البر لترقُّبْ الهامة التي تأخرت في الحضور، من أجل لقاء الهيام:

البر: الشمس مضت للنوم ولم تأت الهامة، النجم سهيل هناك يطل عليَّ ولم تأت الهامة، هل شاهدها أحدٌ وهي تحاول أن تخرج؟ هل شكَّ الليث بها؟ لا، شيء من هذا لم يحدث، فلماذا السوء يوسوس في قلبي... سنابل أمي، حلمُ أتركه في دلمون قد يأتي شخص آخر، طفل، امرأة، رجل، ليواصل مشواراُ لم أكمله، أو سيموت كأحلام لم تنضج في تربتها؟

نعم هنا لحظة النهاية والبداية، لحظة نهاية حلم الأبطال وبداية جيل جديد يواصل مسيرة الخير التي بدأها أصحاب النور. في هذا المكان تروى سنابل العشق بدم العشَّاق، في أرضٍ لا تعترف بالحب، تعترف بالمال فقط. لقد اختلط الدم مع الدم وامتزج الدمع مع الحلم لنسمي هذه الأرض برهامة.

زمن البرهامة بين الرمز والحلم والأسطورة:

لقد تنوعت هذه المسرحية من حيث أزمانها في المشاهد وكل زمن فيها يعكس معاني خفيَّة في النص، وعلى المتذوق للشعر المسرحي أن يتعرف إلى هذه المعاني. والحلم... يقول أدونيس:«كن حلما إذا أردت أن تكون الأبد فالحلم هو وحده الأبدي، أما المنطق فعدم وخلاء. الحلم هو ذلك الزمن الآخر الذي يختلف عن الزمن الذي يجري ويمضي وينتهي».

نعم، هكذا أراد الكاتب أن تكون مسرحيته أبدية، خالدة، فقد جعلها «حلما» ويتجلى هذا الحلم في أساس المسرحية ذاتها القائم على الخيال أو قل الحلم. كما أن المسرحية أسطورة ابتدعها الكاتب وشكَّلها في قالبٍ رائع، أي أنه ربط زمن المسرحية بالزمن الغابر من خلال تعريف كلود ليفي شتراوس للأسطورة بأنها «وقائع يزعم بأنها حدثت منذ زمن بعيد»، وربط المسرحية أيضا بزمن الحلم من خلال اختلاق قصة لا وجود لها في الأساس، تحكي عن النواة الأولى لأجيال المستقبل. وبهذا وذاك أصبحت «البرهامة» أبدية على مرِّ الأزمان كأبدية النور.

المشهد الأول تدور أحداثه في وقت الصباح، كأنَّ الكاتب أراد أن يبدأ المسرحية بجوٍ هادئ يبعث على النفس الارتياح؛ لأن الأحداث الدرامية لم تتصاعد بعد، فهو يريد إدخالنا في السلَّم الدرامي درجة، درجة، والصبح يدل على الصفاء والنقاء والنشاط ولكن سرعان ما يتدارك الكاتب هذا الصفاء بدخول العرَّافة. فقد جعل هذا الصبح غائما يشوبه بعض الغموض الباعث على النفس الريبة والشك، ولكن الكاتب لا يتنازل عن هذا الوقت في المشهد الثاني لكي يبدل الريبة والشك باليقين الجازم بأنَّ هناك مؤامرة تحاك خيوطها على الناس من قِبل القوى الضاربة في البلاد. لعل النيات غير واضحة في هذا المشهد، إلا أننا نكتشف كذب الكهنة عندما خالفوا قراءة الكواكب لما قرأته العرَّافة لأنها قالت: «الظاهر أن هناك خليطا بين خيوط عطارد وخيوط المريخ». أي أنَّ هناك مزيجا جديدا من عطارد والمريخ مع وجود الأخيرين. أما الكاهن الأكبر فقال: «رأيت عطارد يدخل في قلب المريخ». أي أنه جعل الكوكبين كوكبا واحدا. هنا تتجلى المؤامرة أكثر فالصبح فيه يبعث على الكدر والضيق. ولعل الكاتب أراد أن يقول إن المؤامرات والدسائس قد تُنفَّذ في وَضَح النهار وأمام مرأى ومسمع ورضا أيضا من الناس.

أما المشهد الثالث فاتخذ من الليل ستارا تدور أحداثه فيه. هذا الليل تتمازج فيه دلالات مختلفة وهي الاستياء والتذمر من الواقع ومن حالة الانتظار القاتل الذي يعيشه مرجان، وهناك دلالة على الخوف من المستقبل أو قل الخوف من الغد. ويتمثل هذا الخوف من خلال «الحلم» الذي حلم به البر، بأن مرجان سوف يبيع الصداقة التي بينهما، وزمن هذا الحلم يبعث على نفس البر أنواعا مختلفة من الأحاسيس بالمستقبل والاطمئنان للصداقة التي تجمعهما.

لقد اختصر الكاتب الزمن بين المشهد الثالث والمشهد الرابع يوما كاملا عدا تلك الليلة الكبرى لخطوبة الليث والهامة. وكان الكاتب يريد من ذلك أن الزمن الفائت لا قيمة درامية له، ولكن له قيمة عند الدلمونيين وهو أن هنا بعض الأيام التي تمر على الناس لا يشعرون بها؛ لأنهم مشغولون بشيء أعظم من مصائبهم اليومية. وأهل دلمون انشغلوا بهذه الخطوبة البراغماتية عن مشكلاتهم اليومية - وأهمها الجوع - وذلك لوجود حل مؤقت وهو طعام الخطوبة، لذلك لم يعيروا اهتماما لهذا الوقت الماضي الذي قضوه في تخيّل ذاك الطعام ومذاقه.

أما زمن المشهد الرابع فكان الليل، باعتبار أن الخطوبات عادة تقام في الليل من جهة، ومن الجهة الأخرى فإن الليل له ميزة جميلة وهي أن أضواء الخطوبة الملونة تزهو أكثر في الليل «فالضدُّ يكشف حسنه الضدُّ»، فكأنَّه يعكس بهجة الألوان الزاهية فرحا بهذا الزواج، ولكن العاصفة أحاطت الأضواء الفرحة بالريح والتراب حتى خبا ذاك النور الساطع، فقد كان ليلا مخيفا يحمل في جعبته متناقضات العالم، ويجمع الأضداد في وقتٍ واحد. ولكن هذا الليل يحمل حالات فرحة متمثلة في أن الهامة نجت من موت محقق بسبب البر، وحالة حزينة متمثلة في قلق الهامة على البر بعدما أنقذها من العمود المميت.

أما المشهد الخامس فكان يستعيد الضياء، وزمنه الصبح المتأخر بعد شهر كامل؛ لأن البر بقي مريضا منذ وقت الحادث إلى الصبح الكئيب، وكأنَّ الكاتب أراد بهذه الفجوة الزمنية أن يقول إن الخير أو التجديد في العالم بصفة عامة، يقوم بعملٍ عظيم ومفاجئ، ولكن ينتابه بعد ذلك الخمول إلى قيام عملٍ عظيمٍ آخر، فهو يريد أن يبعث رسالة إلى الأشخاص الذين باستطاعتهم تغيير العالم عليهم أن يجدُّوا في العمل بشكلٍ متواصل وإلا ذهب عملهم في مهب الريح. وهذا ما حدث مع البر الذي لم يواصل قوته الجبارة التي أظهرها في الحفلة، فناله من ذلك الحزن والأسى بسبب قدميه الخاملتين، وبسبب تحكم القوى الدلمونية فيه، فكان حقا عليه أن يكون صبورا لكي لا يذهب عمله هباء، لدرجة أن الناس لم يعترفوا بعمل البر - إلا الهامة -؛ لأنه لم يواصل المشوار الذي بدأه.

والمشهد السادس أتى بعدما ضيَّع وقته، جاء دون وقت، زمنه كل الأزمان؛ لأن مجلس الطغيان والشر في دلمون قد يُعقد في أي لحظة، ولكن ليس معنى هذا أن المشهد جاء خاليا من الزمن بل على العكس، به أطول زمن في المسرحية كلها، وهو الوقت الذي قضاه الليث في صيد الناس واستعبادهم والمقدرة مدَّته بشهرٍ كامل وهو نفسه الشهر الذي رقد فيه البر بسبب المرض وكأنَّ الكاتب أراد أن يقول إن الغفلة التي تصيب الخير بعد أول إنجاز لهم يكون فيها عمل الشر قائما على قدم وساق من أجل التأهب للمواجهة في أي وقت، وعندما يضرب الخير ضربة خفيفة يرى من الشر ضرباتٍ قوية وموجعة لكي يتراجع عن الطريق الذي يسير فيه من أول مواجهة فاشلة سببها خمول الخير الذي لا يجب أن يتكاسل ولا لحظة واحدة منذ إعلان الحرب إلى الانتصار.

أما المشهد السابع فجاء زمانه تابعا للمشهد السابق باعتبار أن الليث بعد مجيئه من الصيد ذهب لرؤية الهامة، فالمسافر عندما يعود يلتقي بأهله، ومن الملاحظ أن الكاتب سكت عن الزمن في هذا المشهد على الرغم من أنه يصرح بدليل واضح عليه، وهو أن الهامة قد اعتذرت من الليث بحجة التعب لكي تخلد إلى النوم، أي أن الوقت كان مساء. ولعل الكاتب لم يذكر ذلك لكي لا تتكون عنده فكرة بأن الليل الذي يجمع بين الليث والهامة هو ليل المحبين الطويل بل ليل مقيت يبعث على الضجر والبؤس لكلا الطرفين، والليث يشعر أنه قد فقد الحب الذي كان يرجو الوصول إليه. أما الهامة فقد كانت حزينة؛ لأن الحب الذي كان يجمع بينها وبين الليث ليس إلا ضبابا أقشعه ذاك العمود المنكسر في حفل الخطوبة البائسة.

المشهد الثامن زمنه ليل كئيب يأخذ صاحبه إلى مقبرة الأحلام. هذا ليل الانكسار الصامت الذي يأتي كفصل الشتاء القاتل لفصل الخريف، هذا ليل الأسير، أسير الصمت، أسير الجنون، أسير الوحدة القاتلة، أسير لكل شيء في الوجود حتى لذاك الكوخ الكئيب، وقت لغلبة العبودية على الحرية.

البر: لا أحد يقدر أن يفعل ما يبغي، لا أحد في الدنيا حرٌ، لا يمكن أن تصبح حرا وأمامك عبدٌ، لا يمكن أن تصبح حرا ما دمت تعيش بعيدا عن نفسك، ماذا عن حلمك يا مرجان؟

حتى الحلم اغتاله الليل.

أما المشهد التاسع فقد فتح ذراعيه للصبح الجديد مع حسرة في الفؤاد ودمعة في العين وقهقهات من القدر الحالك، هذا الصبح مأمور بالشغل. الشغل، لا شيء غير الشغل كما يقول الحربة. الصبح مجبور على الظهور على الرغم من كآبته، مثلما البحارة مجبورة على العمل على الرغم من جوعها.

والمشهد العاشر فضَّل أن يتوارى خلف ستار الليل، ستار القلوب المتلهفة إلى اللقاء، هذا اللقاء الذي يداخله تعب الحبيب عن مواصلة مشوار المسايرة للظروف الحالية. هكذا كانت الهامة تعبة من الحال التي هي عليها، فقد كان ليلها طويلا كالقسوة وصبحها كئيبا مثل الثاكل في أوقات العرس، فهي لا تستطيع أن تتحرر من شباك هذا الوقت؛ لأن الأهل كلهم ممن لا يعترفون بالحب، ولكن الهامة في هذا الوقت تزرع مع البر حبات العشق الأولى كسرا للظروف التي تحيل بينها وبين السعادة.

وأما المشهد الحادي عشر فغلَّف جوَّه بالصبح المغاير لليل تماما، فالليل مع الحبيب الأوحد والصبح مع الخطيب الأجبن الذي يزن الحب بالكيلو، وكأن الحب صندوق من التفاح متاح للجميع وبالسعر نفسه أيضا، لا يعلم أن الحب مشاعر لا تقاس بالمادة الفانية؛ لأن الحب أبدي. والليث لا يدرك أيضا أن المرأة يستحيل أن تعشق رجلا لا يستطيع حمايتها في وقت الشدة، كما أنه لا يدرك أن الحب درجات وعلى قدر التضحية تأتي المحبة.

المشهد الثاني عشر آثر الصبح على كل الأوقات، ولكن هذا الصبح بدا بهيما يخيّم غدره المتطاوح هنا وهناك على أرجاء الساحل. هنا مربط الفرس. هذا الموقف، موقف حسرة وبكاء على البحارة التي أرادت إفشاء سر المحبين من أجل قطعة لحم، وآسفاه على الناس من الجوع. والله لو كان الفقر رجلا لقتلته، أترى يستحق هذا الفتات بيع أرواح الناس؟ لا والذي نفسي بيده لا يستحق شيئا، إلا أن الجوع قد أكل من أجسادهم ونال منهم ما نال حتى غدوا كهياكل عظمية مكسوة بالجلد الخشن.

الوقت ذاته في المشهد الثالث عشر الصبح الحائر، تتملَّك البر في هذا الوقت الحيرة ماذا يفعل في الحب الذي اخترق جلده حتى عظامه، لا يعرف كيف يتدبَّر أمره، فقد وقف عند مفترق الطريق فهو لا يستطيع مواصلة الدرب الشائك الذي سلكه، ولا يستطيع العودة إلى النقطة التي بدأ منها، كما أن هذا الوقت يبعث على الخوف من المستقبل المتمثل في المصير المرتقب، ويقف هذا الوقت موقف المتفرج على الصراع الدائر بين الخير «البري» والشر «الليثي».

أما المشهد الرابع عشر فقد كان زمنه الليل، ليل اللاهث طوال سني العمر، يركض خلف حلمٍ تبيَّن بعد سنين أنه حلم تافه يحمل الجشع والطمع وحب جمع المال.

شاهة: منهكة من هذا الركض اليومي وراء الماعز أو حلب الأبقار وتهيئة الوجبات مع الإشراف على الشيء المتحرك من بشر أو حيوان. أشعر أن العمر يغادرني يوما بعد الآخر، وأنا كالمعتوهة أجري في الأرض هنا وهناك، تعبتُ من الركض يا غنام.

غنام: أما كانت أحلامكِ أن تمتد بهائمنا حتى تصل الحد الأقصى للرؤية، إنْ نمتِ قليلا كنتِ تزيحين النوم، تقولين القيلولة لا تصلح إلا للعاجز والمقعد، ها زادت في الأرض بهائمنا حتى ما عدنا نقدر أن نحصيها.

شاهة: مخطئة كنتُ بأحلامي البلهاء، أنا متعبة جدا، متعبة وأكاد أحس بأني جسد مفتوح لدواب الغابة.

كما أن هذا الليل يمثل المواجهة بين القوى الكبرى وبين الهامة التي أعلنت بكل جرأة رفضها لهذا الزواج القائم على المنفعة المتبادلة.

المشهد الخامس عشر زمنه الليل. الليل الخانق الذي حبس القمر في ليلة تمامه في قبرٍ يسميه غرفة، منعوه حتى من الضياء الذي يستمده من الشمس لهذا غدا البدر مظلما، ولكن سرعان ما تبدد الظلام بسبب الشمس التي أتت تبحث عن القمر المغيَّب خلف ألواحٍ من الخشب ضُرِبتْ على النافذة. فها هو البر يطرق قلب الهامة سائلا يا حلم الضياء يا حين يلتحف السماء بحر الخليج أجيبيني يا قرة العين، وكأنها بلسان الحال تقول: إلى هناك حيث مملكة العشق تنتظر، لنذهب لها.

وأما المشهد السادس عشر فجعل النهار معاشا، هناك على ذاك الساحل حيث اجتماع البحارة للصيد، هناك مَن يدرك حقيقة معادلة الجوع القاتلة التي فرضها غنام والحربة على الناس، وأدراك المصير الذي سيلقاه كل من يخالف هذه المعادلة.

الفاضل: هذي أرضٌ يحكمها اثنان، أمير المرعى وأمير الصيد ونحن الجوعى لا يمكن أن نحيا دونهما لو فكَّر واحدنا أن يخلع ما يربطه بالأول لا تتصور أن يقبله الثاني.

كما أن هذا الصبح كان يبشّر بالويلات التي تطول البر وقد تطول المرجان باعتباره المفتاح الوحيد للوصول إليه.

أما المشهد السابع عشر فوقته الليل، ليل الصراع المتأزم بين البر والناس بل بين الدلموني وأهل دلمون. لقد تنكروا له مثلما تنكر الوقت له، هذا الوقت الذي محا تلك السنين التي قضاها البر في هذه الأرض. وشاعت سياسة التضليل لعيون الناس حتى صارت مع الوقت تنعت البر بالغريب. ومثلما استطاع الوقت أن يطمس هوية البر الدلمونية يستطيع أيضا أن يجعله في طي النسيان في أيامٍ معدودة.

المشهد الثامن عشر زمانه الليل يحيط المكان من كل جانب. إنه وقت العرس المفروض المرفوض. هذا الليل الخانق حابس للدمعة وكأن حدثا عظيما سيحدث، لا بل حدث بالفعل. لقد هربت الهامة من أيدي الخطيب المنغمسة في الدماء إلى أيدي الحبيب المتقاطرة بماء النور الدلموني، ولكن الزمن دائما له لعبة تغير مجرى الحياة. نعم، لقد حال دون اللقاء في المشهد الأخير، والهفتاه عليك يا زمن وعلى لعبتك القاتلة سوف تفرق الشمل، وتبعد الأهل، وتكتفي بصمت الموت الأخير للبرهامة.

العدد 2228 - السبت 11 أكتوبر 2008م الموافق 10 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً