البحث الفائز بجائزة الشيخ عبدالأمير الجمري للعطاء الوطني (البحوث والدِّراسات) للعام 2008
كيف يمكن قراءة ما يحدث من تجاذب وصراع بين الدَّولة والمجتمع من خارج المدوّنة السياسيّة التي تحضر بقوّة في أجندة الأطراف المشتركة في الحقل السياسي؟
كيف يمكن تفسير هيمنة الحضور الديني في النقاشات السياسيّة كافة الدائرة سواء في الشرعيّة الدستوريّة أو القوانين الأخرى كقانون الأسرة (الأحوال الشرعيّة) بغير ما يدرج حاليّا من أسباب تدور أغلبها حول جدل المصالح وأسباب الصِّراع بين السياسيّ والدينيّ؟
هل كانت هناك أنظمة معرفيّة تحكم المجتمع البحريني أدّت بطريقة مَّا إلى صعود سلطة رجال الدين وتأسيس حكم مركزي بناء على معارفهم وإنتاجاتهم؟
الصراع الدائر في البحرين اليوم قد يكون صراع أنظمة معرفيّة قارّة (ثابتة) تعمل على حماية نفسها وتسعى إلى مقاومة اختراقها. أنظمة تعمل جاهدة على استعادة ما تفقده جراء المنازعة السياسيّة، وإنّ تصدع أي نظام معرفي لا يعني زواله من الوجود أو انعدام سلطته، بل إن النظام المعرفي يخوض صراعا داخليّا وخارجيّا لاستعادة الهيمنة التي كان يتمتع بها، ويتبع استراتيجيات موجَّهة ناحية النظام المسيطر من أجل إضعافه أو الحد من قوته.
الصراع الذي نتكلم عنه ليس صراعا بين القديم والجديد، أو بين الحداثة والتقليد، بقدر ما هو صراع على سلطة مُستلبة من قبل طرف، وجماعة أهليّة مقهورة مستبعدة عن تداول السلطة. وبالتالي فإنّ دراسة هذا الحاضر المشوش تبدأ من خلال رصد استراتيجيّات الصراع كما جرت في العمق التاريخيّ أو في التشكيلة التاريخيّة للمجتمع، للتعرّف على مفقودات النظام ومكتسباته.
ما تحاول هذه الدراسة أن تبحثه يتعلق بوجهة نظر تقول إنّ القرن السادس عشر أسّس التشكيلة المعرفيّة المفضية للنظام العمائمي وسلطة رجال الدين السياسيّة، وهو وإن تراجع بحكم سيطرة النظام الاستعماري والقبلي لاحقا على المجتمع البحريني منذ بدايات القرن التاسع عشر، فإنّه بقي يعمل كذهنيّة وكنظام معرفي يشتمل على جملة من المفاهيم والتصورات الخاصّة بمسألة السلطة. إنّ النظام العمائمي قد يكون انتهى تاريخيّا وهيكليّا، لكنه مازال متواصلا كذهنية تجاه السلطة وكممارس قوي للنفوذ في أوساط الناس وتشكيل مواقفهم.
الوصول إلى هذه النتيجة يقتضي منا دراسة المشتبك التاريخي وفق عدّة محاور، هي:
-1 أساسيات النظام المعرفيّ.
-2 الذَّاكرة التاريخيّة الممتدّة.
-3 التشريح التاريخيّ للنظام العمائميّ.
-4 تعاقب الأنظمة المعرفيّة.
-5 إعادة إنتاج النظام العمائميّ.
أوّلا- أساسيّات النظام المعرفيّ
النظام المعرفيّ كما يعرّفه ميشال فوكو(1) هو عبارة عن التشكيلة المعرفية المتكونة من مجموعة من المعارف والعلوم في فترة زمنية معينة، تكون مسئولة عن إنتاج الأفعال السياسيّة والاجتماعيّة بصيغة أنواع مختلفة من السلطة المبثوثة على مختلف القطاعات والفئات التي يتكون منها المجتمع. إنّ هذه الشبكة من المعارف (النظام) تمثّل في النهاية حلقة مسيطرة ودافعة لإنتاج استراتيجيات الاستحواذ على الجسد الاجتماعي والجسد السياسي. فحتى ينتظم المجتمع وتبرز فيه الفوارق الاجتماعيّة وتمارس فيه السلطة بشكل واضح، يحتاج في ذلك إلى منظومة معيّنة من العلوم والمعارف يستطيع من خلالها تبرير آليات عمله أمام نفسه وأمام الآخرين.
يصبح المجتمع مقتنعا تماما بأهميّة هذه الشبكة المتداخلة من المعارف، فمن خلالها، يستطيع رؤية العالم وتفسيره، وتُمكّنه من التعامل مع الأشياء والكلمات، ويصوغ خطابات الحقيقة الخاصّة به، ويمارس عملية إعادة إنتاج نفسه من خلالها.
لذا فإنّ مهمّة توصيف أو تحديد النظام المعرفي في أيّ مجتمع هي مهمّة شاقة وعسيرة جدّا، وفي الوقت نفسه عملية خطيرة أيضا لكونها تتعامل مع مفردات المجتمع بآلية اختزالية تختصر الطرق أمام التفسير وتكوِّن لنفسها نموذجا للتعامل المباشر وغير المباشر.
من جهة ثانية، فإنّ هذه الأنظمة المعرفيّة ليست واحدة وإنّما تشهد تطورا وقطيعة مع نفسها عبر استنزاف قدرتها على الاستمرار في الاستحواذ على السلطة والحفاظ على مواقعها. نعم قد تستمر لمدة طويلة من دون أن تقطع نفسها بما يسميه فوكو «الطيّة»، أي الانتقال في النظام المعرفي إلى درجات مختلفة في شكلها وتفاوت حضورها لكنّها تبقى رهينة لمبادئها الأساسيّة التي تنتظم حولها تلك الشبكة الموسعة من المعارف(2).
تكمن قدرة النظام المعرفي، في قدرته على تشكيل المجتمع، بما يتوافق ومضمون هذه العلوم والمعارف، وبهذه القدرة يستطيع أيضا أن يشكل المجتمع بتراتبية معينة تفصح في النهاية عن نمط توزيع السلطة على الفئات الاجتماعية. كما أنّ هذه القدرة ليست شيئا مختلفا عن مجموع الاستراتيجيات التي يعمل من خلالها النظام المعرفي لتثبيت نفسه.
ضمن الإطار المفتوح للنظام المعرفي سيكون بمقدورنا أن نعمد إلى تحديد أساليب الكشف عنه، وتعيين المجالات التي يتحرك من خلالها. وهذا يعني أن المجتمعات تختلف فيما بينها بناء على معطيات الأنظمة المعرفية المستحكمة فيها من جهة، وتجاوزها من جهة ثانية. كما يسمح هذا الإطار المفتوح أيضا بتتبع صيرورة المجتمع وانتقاله من نظام إلى آخر.
إن مفاتيح بحثية كالتشكيلة التاريخية والخطابية وغيرها التي طالما لجأ إليها فوكو في عمله الجاد للكشف عن أنظمة الغرب المعرفية، ستكون ذات جاهزية لتتبع نشوء الأنظمة المعرفية ونموّها في مجتمع صغير كمجتمع البحرين، رغم تسليمنا أنّ مثل هذه الترسانة الضخمة من المفاهيم قد لا تجد لها واقعا حقيقيّا لسبب واضح هو أنّها مفاهيم مستمدة من تجربة عيانية قابلة للمساءلة وإعادة الفحص في المدونات أو السجلات التاريخية وهو ما تفتقده المدونة التاريخيّة، بما يفتح باب التشكيك في قدرة هذه الأطروحة على إنتاج صلابة تفسيرية لحالة الصراع الدائر عبر قراءة من خارج الحقل السياسي.
لكن هذا التشكيك يتجاوز العرض المفاهيمي ليصل إلى صلب الأدوات البحثية المستخدمة واعتبارها أدوات ناقصة وغير مكتملة ولا تستوعب الحدث المجتمعي بكامله. إضافة إلى أنّها واجهت العديد من الإشكاليات المنهجية والمعرفية كما في نقد بيار بورديو مثلا للنظام المعرفي وقدرته على تفسير التغير الاجتماعي بما يحيل إلى اعتبار النظام المعرفي خارج السيطرة أو خضوعه إلى قدرة متيافيزيقية على تغيير نفسه.
ثانيا - الذَّاكرة التاريخيّة الممتدّة
ربما لم يولِ الباحثون في شأن السياسة في البحرين اهتماما كثيرا لما أورده الشيخ محمد حسن العصفور من مراسلات حدثت بين علماء ووجهاء الشيعة في البحرين والشاه عباس الصفوي بغية التخلّص من الاستعمار البرتغالي(3). حدثت تلك المراسلات في القرن السادس عشر الميلادي وأتت ثمارها بخروج الاستعمار البرتغالي من البحرين العام 1602 وتمت المصالحة بين الشاه الصفوي وبين علماء البحرين الشيعة على تولي علماء الشيعة الأمور الحسبية والبتِّ في قضايا القضاء الشخصي والمنازعات الأهلية لتكون بداية حكم ذاتي للشيعة مقابل الوالي أو الحاكم العام التابع إلى الدولة الإيرانية، واستمر هذا الوضع حتى العام 1783م.
مكث هذا الأثر طويلا في الذاكرة والممارسة الشيعية وظلّ محركا خفيّا وعصيّا على الإمساك في كلّ مرّة يتمّ طرح ملف الشيعة والسياسة في البحرين. فأين يلتقي هذا الأثر بما هو سائد حاليّا من أفعال سياسية تنسب إلى الطائفة الشيعية؟
عبر هذا السؤال يمكننا البوح بما هو غير خفي عن أطر وتشكيلات الشيعة السياسية قرابة قرن من الزمن إذا ما اعتبرنا أنّ الظهور السياسي العلني الحديث للشيعة كفئة سياسية تمّ في العشرينات من القرن العشرين يوم أن قام الشيعة بتقديم عريضة سياسية للمعتمد البريطاني (العام 1922م ) يطالبونه بالتدخل لوضع حدّ للانتهاكات والإقصاءات الممارسة ضدهم ويعلنون دعمهم للإصلاحات الإدارية(4) التي شكّلت بدورها المعالم الأولى لشكل الدولة الحديثة في البحرين، ومن ثمّ يمكننا أيضا استعراض مسيرة التنظيمات الشيعيّة يوم أن كانت سريّة تعمل في الخفاء، ويوم أن ظهرت للعلن لتعمل بقانون الجمعيات المرادف لقانون الأحزاب منذ العام 2003.
هذه المسيرة الممتدّة عبر ذاكرة تاريخيّة متخيلة قابعة، ومحاولات بدائيّة للمشاركة السياسيّة، وبين عمل سري ارتبط بقانون أمن الدولة وعمل علني مدرج في مشروع الإصلاح السياسي هي ما تشكل صلب النظام المعرفي الذي نحن بصدد التعرف عليه.
بالرجوع إلى الكتابات التاريخية، وخصوصا تلك المتعلقة بالتاريخ السياسي للبحرين، ثمّة إجماع على أنّ الشيعة كانوا يشكِّلون الأكثرية(5). هذا لا يلغي الطابع التعددي الذي هي عليه البحرين، إذ يذكر صاحب «التحفة النبهانيّة» أنّ سكان البحرين قبل حكم آل خليفة عليها العام 1783م كانوا من الشيعة(6).
بدورها كانت هذه النسبة تقف خلف العديد من المشاكل السياسية بين الشيعة ونظام الحكم، وتسببت بدرجة مَّا في طبيعة التنظيم السياسي عند الشيعة وتحوله من القيادة الدينية إلى قيادة التجار والأعيان والعودة مجددا إلى القيادة الدينية. ومع كلّ تحوّل كانت آليات الاشتغال السياسية تختلف في أسلوب عملها وطرق وأطراف تحالفاتها، لكنّها كانت تجمع على مطالب متكررة ظلّت تُرَدَّدُ طويلا ولاتزال تعمل حتى اليوم.
كانت هناك محاولة قادتها القيادة الدينية هي محاولة رجل الدين السيد شبر الستري (حوالي العام 1895 م) الذي عكف على جمع السلاح، وتثوير البحارنة الشيعة(7) ومحاولة الاستيلاء على الحكم، إلاّ أنّ محاولته لم تحظََ بموافقة كثير من علماء الدين المعاصرين له. لقد اشتغل الستري بالأدوات نفسها السائدة آنذاك وهي عقد تحالف مع قوى إقليمية توفر له الغطاء، واتّبع أساليب التعبئة القديمة نفسها من حيث التركيز على الأحقية، إلاّ أنّ محاولته باءت بالفشل لأسباب عديدة، منها أن التحالفات التي حاول اختراقها كانت أقوى من أدوات التعبئة والأيديولوجية التي رفعها وتمكن الحكم من تثبيت نفسه في المنطقة بحكم الاتفاقيات المبرمة مع بريطانيا القوّة الأولى في الخليج آنذاك.
بعد هذا التاريخ دخل النشاط الشيعي في سكون تام ولم تظهر لهم أيّة محاولة سياسية وكأنّ الأمور كانت تنتظر أنّ تفرض أجندتها الجديدة وتحديث النخبة السياسية بمقولات مختلفة أكثر ذكاء واستباقا للزمن.
السؤال الذي لم يتوقف عنده المؤرخون لحركة السيد شبر الستري وغيره من العلماء هو: ما الدوافع التي دفعت به إلى مثل هذه الثورة وهذا التصدي؟ وهل من نظام معرفي يقف من خلفه؟ إذا كانت الإجابة نعم، فلماذا تعطل بعد ذلك؟ إذن نحن بصدد السؤال عما «وراء الظاهرة السياسية» وهو ما سوف نتناوله في محور تعاقب الأنظمة.
في واقع الأمر فقد تشكلت المخيّلة الشيعيّة والذاكرة الشعبيّة على أساس المظلوميّة بجانب الثوريّة التي توفرها المشتبكات العقائدية. ومن المؤكّد أنّ هذه النظرة تعززت بالمناخ العلمي والإنتاج المعرفي الغزير الذي عرفته البحرين منذ القرن الثامن الهجري وحتى القرن الثاني عشر، إذ ظهرت نهضة علميّة وتطوّر في الفقه والفكر الإسلامي وازدياد هائل في أعداد العلماء وانتشارهم في مناطق خارج البحرين كشيراز وأصفهان والنجف والهند.
على أيّة حال كان هذا المتخيل يدفع بالكثيرين من الطائفة الشيعيّة إلى البحث عن أطر سياسية يتحركون من خلالها ومازال هذا الدّافع يدفع بالمعاصرين من الشيعة إلى تنظيم أحزاب ومنظمات سياسية تحاول أن توجد أطر عمل مشتركة تنمّي عنصر المواطنة بعد أن اتّضح فشل وعقم الإطار الطائفي.
كانت أولى تلك المحاولات التي ظهر الشيعة فيها كدعاة إلى الوطنية بدلا من الطائفيّة هي أحداث بداية العشرينات من القرن الماضي وتحديدا منذ 1922م حيث أفرزت هذه الحقبة تنظيمات سياسية شيعيّة يقودها الأعيان والتجار الشيعة بالمشاركة مع بعض رجال الدين. فبحكم التواصل بين تجار الشيعة ومناطق السياسة الساخنة وخصوصا الهند اقتنع أعيان الشيعة بأنّ الزمن الجديد قد يحقق لهم بعضا من الاعتبار ويضمن لهم بعض الحقوق السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
هذا التحول في الوضع الداخلي لم يكن مقتصرا على البحرين بقدر ما كان مرتبطا بتغير استراتيجي تفرضه بريطانيا المسيطرة على مشيخات الخليج قبل تحولها إلى إمارات ودول، إذ كانت هناك رغبة بريطانيّة في إحكام السيطرة على البحرين.
وجد أعيان الشيعة أنّ الإدارة البريطانيّة عازمة على إدخال إصلاحات إداريّة (بيروقراطيّة) من أجل تسهيل مهمّتها في البحرين. ومنذ 1904م وبريطانيا سعت جاهدة إلى تغيير كثير من القوانين المعمول بها ولديها رغبة في نقل النظام السياسي من مرحلة المشيخية الميراثية إلى المرحلة البيروقراطية(8). وهذا يعني إعادة النظر في تقسيم مصادر السلطة، واعتقد أعيان الشيعة أنّ الفرصة أصبحت مؤاتية جدّا لتحسين أوضاع الطائفة الشيعيّة في البحرين وفرصة لترتيب البيت الشيعي في ظل الدولة الحديثة المرتقبة.
لم يكن أعيان الشيعة يمثلون الطبقة البورجوازية الصافيَة بل كانوا خليطا يتركب من أغنياء يرتبطون بنظام تقليدي يتمحور حول النظام العمائمي، من هذا المنطلق كانت فكرة الدستوريّة والإصلاح السياسي تتحرك بقوّة وتدفع بالأعيان إلى بذل مزيد من الجهود واللقاءات لابتكار طرق جديدة في التعاطي مع الشأن السياسي.
كانت فكرة العرائض ومخاطبة القوى الفاعلة والضغط عليها من أجل ضمان مكاسب أكبر هي ما اتفق عليه الأعيان في اجتماعاتهم، فقرّروا في العام 1922م رفع عريضة تطالب بريطانيا بالتدخل لمساعدة الشيعة ومنع الظلم والإبادة التي تلحق بهم، وسرعان ما أتت العريضة ببعض الثمار غير النّاضجة وقرّرت الحكومة الاستماع لمطالب الشيعة بعد إضراب عام.
على إثر ذلك تقدّم أعيان الشيعة بعريضة للحاكم الشيخ عيسى بن علي طالبت بوقف أعمال السخرة والاعتناء بالسجون وتعديل المحاكم ونظام الضرائب(9) وبفعل إصرار بريطانيا على تحديث النظام السياسي في البحرين تمّت الاستجابة لأغلب تلك المطالب، إلاّ أنّ مطالب أخرى تضمنتها عرائض أخرى بعد العريضة الأولى تسببت في تصدع العلاقة مع بريطانيا وكشفت أنّ بريطانيا ليست مستعدة للتحالف مع الشيعة كما كان يتصور أولئك الأعيان(10).
بعد هذا الموقف البريطاني استدرك الشيعة أنّ عمليّة بناء التحالفات ليست بالعمليّة السهلة وتحتاج إلى مقدرة عالية من المهارة الفائقة في اللعب بخيوط اللعبة السياسية، الأمر الذي أدار دفّة العمل السياسي من جديد للبحث عن حلفاء جدد ربما يكون بعضهم من أعداء الأمس.
ثالثا - التشريح التاريخي للنظام العمائمي
السؤال الذي نودُّ طرحه هنا، في أي نظام معرفي يستطيع طاقم العلماء التأثير في مجريات الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، وهو سؤال يستحق أن يطرح طالما كان للعلماء حضور قوي ومنتج. ولن تكون الإجابة مقنعة ما لم تقاطع نفسها مع التشريح التاريخي للقوّة العلمائيّة في داخل المجتمع البحريني. السؤال الثاني هل انتهى ذاك النظام الذي يسمح لعلماء الدين بالبروز والسيطرة، أم أنّه مازال قائما وفاعلا؟
أ- التشريح التاريخيّ
سنقترح تسمية مجازية مؤقتة للنظام المعرفيّ المستحكم في القطاع المجتمعي البحريني (البحراني تحديدا) وهي النظام العمائمي، وهو نظام يرى العالم من خلال العمامة، أي من خلال رؤية عالم الدين ونظامه الفكري الثنائي الجامع بين الدنيويّة والأخرويّة، لا بصيغ المصاهرة والاندماج، بل وفق طريقة منفصلة تؤسس لرؤية انفصاليّة بين الدِّين والدنيا.
هذا الانفصال يجتاح المنطقة الفكريّة والفقهيّة في النظام العام السياسي الشيعي، لكنه يختلف في سياق التجارب التاريخيّة الشيعيّة ومن فترة زمنيّة إلى أخرى. اختلاف تحدده شبكة المصالح المتقاطعة والمتجاوزة للنظام السياسي العام، وبالتالي فهو اختلاف مؤثر على حركة المجتمع وتراتبية السلطة الموزّعة بين الأفراد. إنّ حضور رجل الدين عادة مَّا يكون من أجل الحماية والدفع بالرؤية الدينية ومقارعة الدنيويّة، فنحن أمام تدافع تاريخي يرتبط بالتغيرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الخاصّة بالمجتمع.
بمقتضى التشريح التاريخي للمجتمع البحريني فإنّ قوّة العلماء وحضورهم في الحقل السياسي والاجتماعي هو حضور مستلِّ من حضور العلماء في التاريخ الإسلامي. ووفق هذا التحليل فإنّ ما ينطبق على التاريخ الإسلامي ينطبق على المجتمع البحريني، فهناك قدر كبير من التداخل بين الحقل الديني والحقل السياسي ولطالما كان هناك تخادم بين الفاعلين في كلا الحقلين كما في معاضدة السلطان لقوّة الفقيه أو انتصار الفقيه بقوّة السلطان.
ولكن قد نخطئ النقاش إذا ما تمّ الاكتفاء بهذا القدر من التحليل العام بما نحتاج معه إلى تحليل خاصّ بالمجتمع البحريني، وإنّ كلّ شيء يحدث كما لو كان واحدا.
إن الفترة التي تزامنت مع الاحتلال البرتغالي للبحرين (1521-1602م)(11) من الممكن اعتبارها اللّحظة المؤسِّسة فعلا لاستقلاليّة رجال الدين في التدبير السياسي للبلاد وتمكّن النظام المعرفي(العمائمي) من إحلال نفسه وتوسيع سلطته وشبكة مصالحه. ففي هذه الفترة تكوّنت الزعامة الدينية مقابل الزعامة السياسيّة واستطاعت الأولى أن تقود أكبر انتفاضة مخطّط لها ضدّ الاحتلال البرتغالي مما سمح لها بعد ذلك أن تكون في منطقة مستقلة إلى درجة كبيرة تطالب من خلالها بحفظ كيانها واعتمادها كمنطقة خطيرة قادرة على اتخاذ القرار وتخليص المجتمع من أشر الأشرار. كان ذلك منطلقا من الصبغة التي أتى بها الاحتلال البرتغالي وهي الصبغة الدينيّة المحمولة على استئناف الحروب الصليبيّة من جديد.
لقد عاش المجتمع وهو يذوق الهمجيّة (الدينية) كما يمارسها جنود الاحتلال البرتغالي في ظل تقاعس الأدوات السياسيّة وانشغالها في تثبيت أجندتها وعجزها عن مقاومة الاحتلال، فكان الدين ودور العلماء يمثلان ركيزة أساسيّة في نشوء نظام القوّة الدينيّ وتكاملها داخل المجتمع البحريني حتّى أصبحت قوّة منافسة لقوّة السياسي.
تجلّى هذا التنافس بل هيمنة الدينيّ على السياسيّ عندما كان الحاكم السياسيّ (أيام الدولة الايرانية الصفوية بين 1602 و 1700م) ممثل الفرس في البحرين يحضر دروس الحاكم الدينيّ لا عن رغبة في التملّق أو التماهي بين كلا الحقلين كما يحدث عادة في علاقة الدينيّ والسياسيّ، بل كان يحضر مسلما تمام التسليم بهيمنة وقوّة حضور الدينيّ ويؤكّد تبعيّة السياسيّ للدينيّ(12).
ب- أرضيّة الحكم المركزي
لم يستطع الحكم الاستعماري البرتغالي من بعثرة النظام القائم في البحرين على رغم تفهمه لضرورة تغير هذا النظام من أجل الإجهاز عليه وتمرير الأهداف الاستعماريّة الخاصّة به. لقد اتسمت ممارسة البرتغاليين بأنواع القهر والتسلط كافة على المجتمع لإحداث قبول بالوضع الجديد الرامي إلى تشكيل المجتمع من جديد، فعمد الاستعمار البرتغالي إلى تنصيب حاكم فارسي سنيّ (يمثل الاستعمار البرتغالي) على البحرين ذات الأغلبيّة العربيّة الشيعيّة(13)، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها المجتمع البحرانيّ آليّة من هذا النوع، حيث التعارض بين نظام الحكم والمجتمع الأهلي.
بيدَ أنّ قوّة وتماسك النظام المجتمعي في البحرين استطاعت بدرجة عالية جدّا من المهارة السياسيّة مقاومة هذا الاختراق عبر الالتجاء إلى الفعل الجماهيريّ المنبثق من أساسيات النظام نفسه حيث اعتمد على القوّة الدينيّة وحضور المكوّن الدينيّ برمزيّة الفقيه في الساحة السياسيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة. وعبر الاستعانة بالخارج والاستقواء به متمثلا في الالتحام مع الدولة الصفويّة الناشئة والراغبة في مدّ نفوذها.
من خلال هذين العاملين استطاع النظام المجتمعي أن يحافظ على كيانه وقوّته ويتمكن من طرد الاحتلال البرتغالي في عام 1602م وخلال هذه الفترة تمكّن النظام الاجتماعي الممزوج بالدين من تدعيم نفسه وتدعيم آليّات عمله بالشكل الذي طوّر منها ما يتناسب والصراع الإقليمي وبدأ يتأثّر بما هو سائد في المنظومة الشيعيّة عامّة.
إنّ انتماء المجتمع البحريني الشيعي إلى المنظومة الشيعيّة هو أمر مسلَّم به ولا يمكن الرهان على خلافه. وقد انعكست خصائص الفكر الشيعيّ السياسيّ والاجتماعيّ على خصائص العمل المجتمعي وطرق الإدارة فيه، بل حتّى أنّ الإنتاج المعرفي تمايز بهذا التأثير في هذه الفترة، فلم تخرج مؤلفات علماء البحرين عما هو سائد في مدونات الفكر الشيعيّ، حيث الاهتمام بالفكر العقائديّ والفقهيّ.
لن يدفعنا هذا إلى التغافل عن طبيعة تلك الانتاجات الاجتماعيّة والتي تأتي غالبا في سياق بناء هويّة اجتماعيّة متماسكة تحمي الذوات المنتمية إلى الجماعة. فقد كانت هناك حاجة ماسة جدا إلى بلورة مسالك للتوحد والالتحام مقابل نزعة الانقسام والتشتت السائدة. يؤدّي هذا النوع من السلوك إلى تدشين أرضيّة مناسبة لتأسيس حكم مركزي يسمح لظهور دولة قويّة بعض الشيء تواجه أخطار الانقسام والتردي وحتّى نزعات الاستحواذ التي اعتبرت في تلك الفترة ركيزة أساسيّة في النظام الدولي.
بدوره يفسر هذا الاتجاه في البحث ظاهرة أخرى ترتبط بما نحن فيه وهي تعاقب كثير من الدول على الحكم في البحرين، بعد هذه الفترة، استطاعت جهود العلماء أن تؤسس أرضيّة مناسبة لبروز الدولة المركزية وبالفعل ظهرت العديد من الدول معتمدة على إرث ذلك النظام المعرفيّ المؤسَّس من قبل علماء الدين منذ القرن الثامن الهجري.
في المسار التاريخي المتقدّم، وبعد بروز الدولة الصفويّة وتنامي حاجتها الحقيقيّة إلى بناء معرفيّ سياسيّ برزت كثير من المقولات الخاصّة بمعالجة الأزمة المعرفيّة المصاحبة لفكرة الدولة في الإسلام.
في هذا المجال برزت شخصيّة العلامة محمد باقر المجلسي (توفي العام 1699 م) صاحب موسوعة بحار الأنوار، حيث دشن نظريّة خاصّة في التعامل السياسي مع الدولة وفرّق بين الشرعيّة الدينيّة والشرعيّة السياسيّة(14). كان مقتضى هذا التفريق بروز إمكانية التوفيق بين الشرعيتين واندكاكهما معا، وبالتالي فهو تعامل يسمح بقيام نظام سياسيّ شرعيّ من دون اشتراط وجود الإمام المعصوم شرط أن تهيمن الشرعيّة الدينيّة على الشرعيّة السياسيّة.
لقد انعكس هذا الطرح على واقع المجتمع البحريني ربما لعدّة أسباب أهمّها تماثل التيار الإخباريّ في البحرين مع تيار العلامة المجلسي الإخباريّ، إضافة إلى تتلمذ كثير من علماء البحرين على يد العلامة المجلسي نفسه.
ومن خلال هذا التبادل اكتسب المجتمع البحراني خبرة التعامل السياسي المزدوج، واستطاع أن يدير الحاضرة بناء على القبول بالشرعيّة المزدوجة كحلّ لأزمة المجتمع. وتمّ استدخال صيغة الحاكم الشرعي المتمثل في الفقيه القائم بالأعمال الحسبيّة وممارسة القضاء وصيغة الحاكم السياسي التابع إلى الدولة الصفويّة أو دار السلطنة. مما أعطى المجتمع البحراني في النهاية مرونة في التعامل الإداري والسياسي ليصل إلى وضع أقرب إلى الحكم الذاتي ووفّر غطاء ملائما للعمل السياسي والإدارة السياسيّة لمعالجة الأزمة التي تنشأ بين الدولة والمجتمع.
يقودنا ذلك إلى استخلاص مهم جدا هو: إنّ النظام العمائمي لا يمكنه العمل بكفاءة من دون سواعد ودعائم تقف بجانبه وهي إمّا أن تكون عوامل داخلية أو خارجية. إنّ اختفاء هذه العوامل يحدّ من قدرته على مواجهة الأنظمة الأخرى بما سمح لها بالتفوق وممارسة العزل السياسي والاجتماعي للنظام العمائمي. كما يحيلنا هذا التشريح إلى ماهية النظام العمائمي وقدرته على إيجاد صيغ من التوازن السياسي والاجتماعي وتأسيس هويّة مشتركة جامعة، بما يذهب كثيرا من الشكوك والظنون حول قدرة هذا النظام على الإدارة السياسيّة المحلاّة بطابع وطنيّ.
رابعا - تعاقب الأنظمة المعرفيّة
في بدايات القرن التاسع عشر توالت على البحرين حملات من الهيمنة السياسية من خارج البحرين ساهمت بقوّة في عزل النظام العمائمي واستبداله بأنظمة أخرى. تسبب هذا العزل في بروز أنظمة معرفيّة ذات طابع سياسي مضادّ لما هو عليه النظام العمائمي. إلاّ أنّ أبرز تلك الأنظمة المتعاقبة كان النظام المشيخي السائد في دول الجوار والنظام الميراثي الذي تحالف مع صاحبة النفوذ العالمني الاول حينها، بريطانيا(15).
إلى فترة ما قبل حكم آل خليفة على البحرين 1783م كانت الجزر تحكم بواسطة حاكم محلّي، إذ وبحسب الرواية المحلّية كان قضاة الشرع(16) والعلماء الفقهاء هم من يتولون شئون المجتمع المحلي أو ما يتعارف عليه بالأمور الحسبية وهي القضايا الشخصية والخلافات بين الأفراد والنزعات المالية وكان هؤلاء الفقهاء يتوزعون على قرى البحرين البالغ عددها آنذاك 360 قرية، تشكل فيما بنيها أحزمة مناطقيّة ترجع في قضاياها إلى أحد الفقهاء أو إلى فقيه المنطقة(17). في مقابل هذا الحكم المحلّي كان هناك الحاكم العامّ الذي يتولّى الشئون الخارجيّة وماليّة الدولة العامّة وهو حاكم تابع إلى إيران. فبعد سيطرة نادر شاه على البحرين (حوالي 1735 م) عين عليها غيث وناصر آل مذكور وهم من العرب اليعاربة حكاما عليها(18). هذه الصيغة من التطوّر السياسي تعرضت للتفسخ مع قدوم آل خليفة وتمّ إحلال نموذج مختلف عنها تماما، إذ أصبح أسلوب إدارة الحكم الجديد يعتمد على النهج القبلي، ونظر البعض إلى الجزر البحرينيّة على أنّها غنيمة من غنائم الفتح، وهذا أدى إلى علاقة غير واضحة مع سكان البحرين، واختلطت بعلاقة المنتصر بالمهزوم.
لقد هيمنت بريطانيا على منطقة الخليج منذ أوائل القرن التاسع عشر (1820 م)، وعملت على ربط نفوذها بالمشيخات القائمة على سواحل الخليج العربي عبر تحويلها من أنظمة قبليّة صرفة إلى أنظمة ميراثيّة (Patrimonialism) بالتعبير الفيبري (نسبة لعالم الاجتماع ماكس فيبر) ومن ثمّ أدخلت الأنظمة البيروقراطية كنظام مانع لجموح الميراثية. كان من نتائج ذلك أن اختلطت بنية التحديث السياسيّ بمتغيّرات أكبر من طبيعة المنطقة وكأنّها فرضت عليها فرضا.
لقد سعت بريطانيا الى القضاء على سمة الاستقلال التي تمتعت بها البحرين عن سائر الدول المركزية الأخرى، كدولة اليعاربة في عمان أو الدولة العثمانيّة أو حتى دولة نادر شاه فكان على بريطانيا أن تعيد ربط البحرين بمركزيّة بريطانيّة، بيدَ أنّ هذه العمليّة لم تكن تحدث بسهولة لولا قيام بريطانيا بإدخال تغييرات سياسية تطول البنية القائمة.
عبر جهود عديدة استطاعت بريطانيا «تحويل سلطة شيوخ القبائل القائمة على الدَّم والعصبية (بالمعنى الخلدوني) إلى حكام يسيطرون على رقعة جغرافيّة محدّدة، ويحتكرون السلطة في ذريتهم؛ شيء يشبه الإقطاع من جهة، ويشبه علاقة الوالي أو الوكيل المحلّي بالسلطة المركزيّة الأجنبيّة»(19). لقد كان هذا التحوّل تحوّلا ذاتيّا تقتضيه مصالح البقاء وضمان النفوذ وإحكام السيطرة فبدونه كان يصعب الاستمرار في الحكم وفي الوقت نفسه فسوف يمهّد تلقائيّا لتحوّل آخر هو التحوّل ناحية النظام الميراثي.
إنّ المجتمعات التي تحكم بواسطة هذه النظم عادة ما تكون عرضة للثورات والانتفاضات الداخليّة، ومحلا مناسبا للأطماع الخارجيّة، وإذا ما صادف أن تباطأ النظام المشيخي في تحويل نفسه إلى نظام آخر فإنّه يكون عرضة للانحلال والتفسّخ. ونظرا إلى كونه نظاما غير مؤسسيّ ولا يبتني على وجود مؤسسات ولو بطريق غير رسمي (مؤسسة خطابية مثلا) فهوقد يسمح بالتدخلات الخارجيّة وفرض الهيمنة من قبل القوى الكبرى على المجتمع.
السمة البارزة والمؤثرة في النظام المشيخي أنّه نظام يفتقد التعبئة والأيديولوجيا في طريقة حكمه، خلافا للنظام العمائمي، ويعتمد على التقليد كأداة وحيدة وفاعلة يحافظ بها على بقائه وتشكيل هويته. لقد تسببت هذه السمة في جعل البحرين عرضة لتبديل ولائها من طرف إلى آخر ففي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي قام أحد حكام البحرين بطلب الانضمام إلى تبعيّة الباب العالي وكان قبلها بعدّة أشهر يفاوض الإيرانيين في الشأن نفسه(20).
إن افتقاد أيّ نظام سياسيّ للتعبئة يحدّ من قابليته لقبول التحديث السياسيّ بفعل غياب المركزيّة واعتماد التجزؤ كأساس للحكم وبالتالي فإنّ تقديم تنازلات ولو محدودة للتحديث السياسي يعرض شبكات المصالح القائمة للاهتزاز ويحدث فئات جديدة للمطالبة بحصّتها في السلطة، ومن أجل السيطرة وإحكام القوّة وتعزيز السلطة المجزأة فإنّ إستراتيجيّة تشتيت القوى المحليّة وتقطيع الأرض والسيطرة على الموارد الزراعيّة والاقتصاديّة ممثلة في صيد اللؤلؤ وجمع الضرائب ستكون الخيار الأفضل بالنسبة إليه.
خامسا - إعادة إنتاج سلطة العلماء والنظام العمائمي
سنحاول الآن النظر إلى موروث هذه الفترة وما تلاها واعتبار هذا الإنتاج بمثابة التدعيم الخطابي للتجربة التاريخيّة التي مرّ بها المجتمع عبر حضور العلماء وتأسيس قوتهم وسلطتهم العيانيّة.
يستعيد الخطاب العمائمي قوّته وحضوره من التراث التراجمي، وهو تراث ضخم جدّا يعجّ بالكثير من الدلالات الخطابيّة المؤسسة لقوّة العلماء من جهة، ويحتوى على شبكة المعارف المكوّنة للنظام المعرفي العمائمي من جهة ثانية(21).
فهذه التراجم تبرز الصورة التي كان عليها الوضع العلمائي منذ تلك الفترة، كما تعطي الدفعات القويّة للنظام العمائمي من أجل استرداد نفوذه وقوته. فعلى سبيل المثال تأخذ المساحة الجغرافيّة والممارسة العمليّة بعدا قويّا في سائر التراجم وهما مؤشران قويّان حول أطر الدولة المركزيّة التي يدور حولها النظام العمائمي حيث تحدّد الجغرافيا كبديل للحدود الجغرافيّة للوطن وتحدّد الممارسة العمليّة ذات الطابع الطوبائي طبيعة السلطة السياسيّة والاجتماعيّة.
أ- التخوم الجغرافيّة
في معرض سرده لسيرته الذاتيّة تعرّض الشيخ علي البلادي (توفي 1921م) إلى التقسيم المكاني للزعامة الدينيّة فوصف منطقة بلاد القديم من خلال نوعيّة التكتّل الدينيّ المهيمن فيها وهو التيار الأصولي مقابل التيار الإخباري الذي اتخذ من منطقة جدحفص مكانا له، وإذا ما صادف أن برزت زعامة أصوليّة من خارج حوزات بلاد القديم ومدارسها حمل إلى البلاد القديم وهيّئ له مكانا ومدرسة دينيّة. كذلك فعل في سرده لسيرة بعض العلماء الكبار فركّز تركيزا ملحوظا على وصف القرية التي يقطنها أو المدينة التي يعيش فيها وحصّتها من المكانة العلميّة وعدد رجال العلم فيها، فيورد الشيخ البلادي أرقاما كبيرة لعدد رجال العلم الذين اتفق وجودهم في فاتحة وفاة أحد رجال الدين في مسجد المشهد في منطقة الخميس (إحدى قرى بلاد القديم) حدّده بـ 400 فقيه ومجتهد كما أورد عدد رجال العلم الذين قتلوا من قبل العمانيين في منطقة سترة وبالتحديد في مدرسة الشيخ داوود بأكثر من 70 عالما.
ما يظهر هنا أنّ التقسيم الجغرافي لا يجد نفسه إلاّ مع التقسيم العلمي لرجال الدين، فتحسب المناطق بحسب نفوذ رجل الدين فيها ونوعيّة اتجاهه بين أصولي وإخباري كما هو الحال بين جدحفص وبلاد القديم والماحوز وسترة.
وبحسب هذه الرؤية فإنّ الجغرافيا تختزل في نوعية العلم وكميّته ولا يمكن قياس ذلك إلاّ بالرجوع إلى الكيان الشخصي لرجل الدين بما يعزّز قوّته وحضوره حتى خارج مجاله وحقله التخصصي. لا يقتصر هذا الاختزال على الجغرافيا المحليّة فقط، بل تتشكل جغرافيا جديدة تحمل على عاتقها مهمّة تحديد الخارج قبال الداخل، فيجب تفسير علاقة جغرافيا الحوزة الداخليّة بمراكز العلم الكبرى وخصوصا النَّجف وكربلاء والحلّة في العراق وشيراز وأصفهان في إيران، فهذه الأماكن تدين في وجودها وتطوّرها لجغرافيّا الحوزة المحليّة، فالنجف لا تقاوم علم الشيخ ميثم البحراني (توفي 1299م)، كما أنّ أصفهان وشيراز تدار بعلماء هاجروا إليها من البحرين وتسلموا القيادة الدينية والأمور الحسبيّة فيها وخصوصا في شيراز وبندر لنجة والأهواز، فعندما هاجر إليها الشيخ حسن بن الشيخ حسين العصفور (توفي 1865 م) أكرمه حاكم شيراز وولاّه الأمور الحسبيّة في الأهواز. إنّ رجل العلم هنا يحتلّ تلك التخوم ويحولها إلى منهجه وقوّته.
الحال كما يؤكّد إدوارد سعيد أن الجغرافيّا المتخيلة تلعب دورا كبيرا في تأسيس سلطة معرفيّة أوسع من الجغرافيا الحقيقة وتخلق لنفسها إرادة قوّة تُعلي من شأن نفسها على حساب الواقع المتعين في الحدود الطبيعيّة والأركولوجيّة.
كان همّ صناعة هذه الجغرافيّا المتخيّلة المؤسسة على جغرافيا الحوزة المحليّة يظهر في الاهتمام بسرد المصنفات الفقهيّة على شكل مسائل موزّعة على الأقطار والبلدان البعيدة والقريبة رغم أنّ بعضها لا يتجاوز عشر صفحات، فتُعنوَن باسم المنطقة التي جاءت منها كما في المسائل الخراسانيّة (نسبة إلى خراسان) والصاغانيّة (نسبة إلى صاغان) للشيخ حسين العصفور (توفي 1801 م)والمسائل البهبهانية (نسبة إلى البهبهان) للشيخ يوسف العصفور (توفي 1772 م) وغيرهم كثير من العلماء. الوظيفة التي تؤّديها هذه المسائل (الجغرافية) هي التذكير بالبعد الجغرافي لسلطة المرجع الدينيّ وحجم امتدادها إلى خارج الحدود والتخوم المحليّة.
لا مجال هنا للطبيعة في أن تحدّد الجغرافيا في قبال تكوين رجل الدين العلمي الذي لا يخضع لسلطة الحدود والتخوم، ومادام الأمر كذلك فإنّ التفسير الذي يجب على النظام العمائمي أن يقدّمه هو، أن تكون قوّة رجل العلم وحضوره غير محدّدة هي الأخرى بالجغرافيا، بل يجب أن تكون مطلقة لا تعلوها أي سلطة مهما تكن.
ب- الممارسة العمليّة أو الصورة الذهنيّة
يمكننا تعريف الصورة الذهنيّة على أنّها مجموعة التمثلات التي يكوّنها الفرد أو المجموعة حول فئة معيّنة بما يخلق معها أنواعا متعدّدة من العلاقات المتجاوزة والمتقاطعة. المتحكم في تكوين هذه الصورة الذهنيّة هو النظام المعرفي الفاعل في أنظمة المجتمع الأخرى، فهذا النظام المعرفي قادر على تكوين صور ذهنيّة متعدّدة تشمل الفئات كافة والمواقف كافة. ومادام النظام العمائمي هو النظام المعرفي السائد في المجتمع البحريني فإنّ تلك الصورة الذهنيّة لفئة رجال الدين ستكون جزءا منه ونتيجة أيضا كعلاقة جدليّة.
لقد عملت سِير التَّراجم العلمائيّة على رسم صورة نموذجيّة لحياة رجل الدين معتمدة في ذلك على اختزال وتعميم بعض القصص وأساليب الحياة لتشمل كلّ لحظات رجل الدين. فإضافة إلى ضرورة تمتّع رجل الدين بالفضائل الأخلاقيّة كالتَّواضع ومساعدة الضعفاء ومقاومة الظلم هناك الجانب العلمي والشبق نحو المعرفة وسعة الاطلاع بما يحيل رجل الدين إلى موسوعة شاملة للعلوم كافّة.
إن رجل الدين لا يدرس الفروع الفقهيّة والمعرفة الدينيّة الخالصة فقط، بل يدرس سائر أنواع المعارف كالحساب والفلك والطب والفلسفة وعلوم اللّغة والأدب وأحيانا الكيمياء والرياضيات. على رغم أنّ هذه المقررات المعرفيّة تكون مساعدة في الأساس ولا تدرس بتخصص كافٍ إلاّ عند نفر قليل يتفرّغ لدراستها بمحاذاة العلوم الدينيّة الخالصة، لكنها في مجتمع تسوده حال انعدام المعرفة أو قلّتها، فهي تحوّل رجل الدين إلى عالم متفوّق يحوز الرِّيادة في المجالات كافّة.
تأسيسا على هذه الصورة النموذجيّة تتكوّن سلطة معرفيّة تمتد إلى أن تكون سلطة اجتماعيّة تتحكّم في الجسد السياسي والاجتماعي بحكم المعرفة الواسعة، ونتيجة لمثل هذا السلوك تنشأ عن رجل الدين توقعات هي الأخرى قائمة على النموذج كما في حالة طلب البركة أو تقديم رجل الدين في المناسبات والاجتماعات.
معرفيّا فإنّ الصورة الذهنيّة المتكوّنة هنا تصوغ نفسها في قالب من التنميط الشجري (استنساخ مثال ورسم الشجرة) يصبح فيها رجل الدين الحلقة الوسيطة بين جذر الشجرة وسائر الفروع والأغصان، هذا في النظام المعرفيّ العام، أمّا في النظام المعرفيّ المجتمعيّ، فإنّ رجل الدين يصبح هو الجذر لنسب الشجرة المعرفيّة المنتجة للسلطة على الجسد السياسيّ والاجتماعيّ بفعل عمليّة الاستنساخ للتنميط الشجريّ.
المظهر الأكثر محوريّة في تكوين هذه الصورة الذهنيّة هو كميّة الألقاب التي تعطى في السيرة الذاتيّة لرجل الدين، فهذه الألقاب تعتبر مصدرا مهمّا لتكوين الصورة الذهنيّة، كما أنّها بنفسها تؤسّس سلطة خاصّة يستطيع بها رجل الدين تثبيت نفسه في داخل أنسجة المجتمع وقطاعاته المختلفة.
تعتمد كتابة السير العلمائيّة استراتيجيّة خاصّة لإعطاء اللّقب العلمي، فبعض الألقاب محصورة على الرتب العلميّة العالية، كمراجع الدين أو الفقهاء، وأخرى خاصّة للعرفاء الروحانيين أو علماء الأخلاق، وأخرى تخصّ طلبة العلوم الدينيّة وهكذا يتمّ تكوين الصور الذهنيّة من خلال مجموعة الألقاب المدرجة في سيرته. فالصورة الذهنيّة المكوّنة عن شخصيّة الشيخ ميثم كمال الدين البحراني من خلال الألقاب الممنوحة إليه لا يرتقي إليها أيّ رجل دين بحراني آخر، لكونه يقف في أعلى درجات العلم الدينيّ، ويتمتّع بحضور علميّ لا يضاهيه إلا الشيخ يوسف البحراني مؤلف كتاب الحدائق الناظرة أو بعض رجال الدين القدماء الكبار كالشيخ سليمان الماحوزي الملقب بالمحقق البحراني.
سادسا - استعادة الحضور والقوّة
من الناحية الاجتماعيّة وفي ظلّ الاستقرار السياسيّ تشكّلت الصيغة الاجتماعيّة بشكلها المستقرّ، وأفرزت بنية اجتماعيّة متماسكة تقوم على الرفع من قيمة الاكتساب الاقتصاديّ، فبرزت المهن المُقسِمة لحاجات المجتمع، وتحوّلت هذه المهن إلى نسبة وقرابة عائليّة، فتكوّنت عائلات تنتسب إلى المهنة التي يديرونها، مثل الحدّاد، والنجار، والسماك، والصباغ، والحواج، والبنّاء، والعطار، والصائغ، والبقالي، وغيرها. وهي مهن تتوزّع على كافّة صيغ الاقتصاد المعيشيّ الذي يسعى للوصول إلى حدّ الاكتفاء على الأقل. الملاحظ أنّ بعض تلك العلامات ذات الصيغ المعرفيّة، تحوّلت هي الأخرى إلى مهنة تنسب إليها في خطّ قرابيّ واحد مع العمل اليدوي، كما في نسبة الملا والخطيب والشيخ والمعلم.
إنّ وجود هذه النسب القرابيّة المُقسِمة، اقتضى وجود قانون ومؤسسات خاصّة، تسمح لمريد العمل الامتهان الفني لها، الخضوع لها والمرور بفحص مجتمعي صارم. وبالتالي نحن أمام نوع من تقسيم العمل يعطي فرصة أخرى للإدارة السياسيّة، أو غيرها، لتتشكّل وفق ما تؤسّسه شبكة المعارف للنظام العمائمي. فضلا عن ذلك فإنّ تقسيم العمل هذا خلق وبصورة طبيعيّة تلاحما لأفراد المجتمع، يقوم على الطواعية والقبول، وهو ما تحتاجه أيّ إدارة مجتمعيّة لعمليّة النموّ والازدهار لبناء أوليات المجتمع المديني.
لقد حافظ المجتمع البحريني على قوّة مؤسساته وخطّ له خيوط المحافظة بدل الثوريّة بحكم طبيعة العلاقات السائدة وبحكم طبيعة الازدواج في السلطة السياسيّة ونظام تقسيم العمل عنده. هذا الاتجاه المحافظ هو الذي دفع بالكثيرين إلى محاولة إدانة هذا النظام ومحاولة التخلّص منه ونعته بنعوت كثيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ معظم هذا التوصيف (السيئ) انطلق بعد تطوّر المجتمع البحريني ناحية التصنيع، أي بعد الانتقال إلى مجتمع النفط بغية خلق قيم جديدة تتناسب والواقع الاقتصاديّ والسياسيّ الجديد ومن وجهة نظرنا فإنّ عمليّة الإدانة هذه تمّت من دون الرجوع إلى اللّحظة الزمنيّة الكفيلة بتحديد زمن الصراع والتعرّف على الأسباب المفضيّة لهذا الانهيار.
الخاتمة
لقد شكلت فئة رجال الدين عنصرا مهما في تشكيل المجتمع البحريني سواء في شقه الاجتماعي أو في شقه الرسمي الماثل في التحالف المبرم بين القبلية و السلطة الدينية في وقت مبكر وحتى تطورها بالشكل الظاهر حاليا. هذا الحضور يؤدي بنا إلى القول أن أي تسوية سياسية لا تضع في اعتبارها هذه الفئة ربما لم تكن قادرة على المواصلة والاستمرار. وتؤكد نتائج الدراسة على أن قوة وسلطة رجال الدين على رغم أنها تستمد من الرابطة الاجتماعية لكنها تقوى وتتدعم بالموقف الرسمي لذلك فإن البحث عن أطر مناسبة تحفظ هذا الدور وتضمن استقلال الدولة وقراراتها يعتبر من أهم القضايا التي يجب أن تعالج في المنظور القريب، كما أن دراسة اتجاهات هذه الفئة وطبيعة خياراتها السياسية تعتبر أيضا من المسائل الملحة لكونها تقرب المسافة بين الدولة والمجتمع. تتأكد هذه المسائل في ظل القصور المعرفي بشأن طبيعة العلاقة الحالية بين رجال الدين والشرائح المكونة لها وبين الدولة ومؤسساتها.
الهوامش:
(1) لمزيد من تفاصيل رؤية ميشال فوكو، انظر، حفريات المعرفة، المركز العربي الثقافي، الرباط.
(2) نفسه ص112.
(3) محمد علي العصفور، عيون المحاسن أو تاريخ البحرين (مخطوط).
(4) سعيد الشهابي، البحرين في الوثائق البريطانية، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1996، ص43 وص109.
(5) انظر: النبهاني، التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية، دار العلوم، بيروت، ص86.
(6) النبهاني: م. س، ص86.
(7) علي البلادي، أنوار البدرين (ترجمة السيد شبر الستري داخل الكتاب).
(8) لمزيد من التفاصيل انظر: عباس المرشد، المشيخة الميراثية، بحث غير منشور، سوسن الشاعر، عبدالقادر الجاسم، البحرين قصة الصراع السياسي 1904 - 1956 ص27 - 47.
(9) انظر: سعيد الشهابي: البحرين في الوثائق البريطانية، ص 33.
(10)محمد غانم الرميحي، التغيير السياسي والاجتماعي في البحرين، دار الجديد، بيروت 1996.
(11) حسين عبيد غان غباش، عمان الديمقراطية الإسلامية تقاليد الإمامة والتاريخ السياسي الحديث (1500 - 1970)، ترجمة انطوان حمصي، دار الجديد، 1997، ص93.
(12) السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، ترجمة السيد أحمد الماجد البحراني.
(13) الشيخ محمد علي العصفور، عيون المحاسن أو تاريخ البحرين، مخطوط.
(14)عباس المرشد، اللغة المضمرة في الفكر السياسي الشيعي، بحث غير منشور.
(15) تمت مناقشة هذه التطورات بشكل مفصل في عباس المرشد، المشيخة والميراثية، التحديث السياسي في البحرين، بحث غير منشور.
(16) لفترة متأخرة من تاريخ البحرين حددها الخوري بأوائل القرن العشرين كان القضاة الشيعة يخرجون من صفوف الناس ويحظون بمكانة عالية تفوق سلطتها سلطة الحكومة المركزية. فؤاد إسحاق الخوري، القبيلة والدولة في البحرين، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1983، ص316.
(17) لمزيد من تفاصيل ذلك انظر علي البلادي، أنوار البدرين.
(18) انظـر تفاصيل ذلك والرسائل المتبادلة بين الإيرانيين وآل مذكور في عيون المحاسن أو تاريخ البحرين للشيخ محمد علي العصفور، (مخطوط).
(19) محمد عبيد غباش: «الدولة الخليجية: سلطة أكثر من مطلقة، مجتمع أقل من عاجز» منتدى التنمية، الاجتماع السنوي الخامس والعشرين «إصلاح جذري: رؤية من الداخل».
(20) جون كلي، بريطانيا والخليج العربي 1795 - 1870 الجزء الأول ترجمة محمد أمين عبدالله، سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1979، ص198.
(21) الإحالات الواردة في هذا القسم مستلة من كتاب أنوار البدرين للشيخ علي البلادي.
العدد 2228 - السبت 11 أكتوبر 2008م الموافق 10 شوال 1429هـ