العدد 2228 - السبت 11 أكتوبر 2008م الموافق 10 شوال 1429هـ

الاستيطان وانبعاث مشروع التهويد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الهجمات التي تتعرض لها الأقليات الفلسطينية في الأرض المحتلة في العام 1948 ليست عفوية أو مجرد خلافات بين سكان أحياء في المدن. فهذه الهجمات تبدو مدبرة ومنظمة ومحمية من منظمات وهيئات وترعاها مجموعة أحزاب سياسية تتمتع بنفوذ في البرلمان (الكنيست) ومؤسسات الدولة. كذلك لا يمكن عزل الحملات ضد الأحياء العربية في مدينة عكا عن تلك الاستفزازات المسلحة التي تشنها مجموعات من المستوطنين في القدس والضفة الغربية ضد أهالي القرى في المناطق المحتلة في العام 1967.

الحملات والهجمات مرتبة ومبرمجة وتلقى تغطية من زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» افيغور لييرمان الذي شجع المستوطنين على «قمع العرب الإسرائيليين». كذلك تلقت دعما من النائب عن حزب «شاس» ديفيد أزولاي الذي برر الهجمات والحملات ودعا إلى تشريعها قانونيا وإلا أضطرت «الجموع اليهودية» إلى أخذ القانون بيدها. أما النائب عن حزب «المفدال» أرييه درعي شجع المستوطنين ودعا «اليهود المدنيين» إلى حمل السلاح ضد الأحياء العربية في عكا.

فكرة الخروج على الدولة ودعوة المستوطنين إلى حمل السلاح ومطالبة اليهود بأخذ القانون بمعزل عن المؤسسات تعتبر في مجموعها سياسة تخويف وتهديد وربما مراجعة للدستور أو بداية قرار خطير ينذر بحرب أهلية وحملات تطهير عرقي واقتلاع ديني. وهذه الأفكار في حال تطورت وتفاعلت خارج الرقابة الدولية وبرعاية من السلطة الإسرائيلية فإنها في إطارها العام تشكل عودة إلى أيديولوجية التهويد التي أوقفت اضطرارا في العام 1948 بعد صدور قرار العودة ونمو ضغوط دولية تعارض مشروع التشريد وتوزيع الشعب الفلسطيني في المحيط الجغرافي.

فكرة تهويد فلسطين ليست جديدة وهي ليست طارئة على الفكر الصهيوني. فالقوى المتطرفة في «إسرائيل» تعتبر الدولة عبرية ولا يجوز أن تشترك في جنسيتها أو هويتها فئات أخرى تنتمي إلى ديانات ومذاهب غير يهودية. وترى هذه القوى الأيديولوجية في وجود مجموعات أهلية مسيحية أو مسلمة تسكن في المدن والقرى والمناطق سياسة تخالف مبدأ العقيدة وتشكل خطرا على يهودية الدولة في المستقبل. وبناء على هذه القناعة تطالب التيارات المتطرفة بطرد العرب من الأحياء والمدن وتجميعهم في مناطق لترحيلهم أو وضعهم في «كانتونات» تشبه تلك «الغيتويات» التي عاش فيها اليهود خلال تاريخهم الطويل في أوروبا.

فكرة الدولة اليهودية الصافية ليست طارئة وإنما تشكل قاعدة مركزية في التفكير الصهيوني الذي تأسست أنظمته الأيديولوجية في نهاية القرن التاسع عشر متأثرا بنمو التيارات القومية والمدارس الشوفينية في تلك الفترة التي دعت إلى تأسيس دول متجانسة دينيا. وحتى تتوصل الدولة اليهودية إلى وعاء متجانس بشريا ومتناسق في هيكله لابد من تصفية الجيوب أو ترحيلها أو تجميعها أو نقلها على غرار ما حصل في بعض الدول الأوروبية.

فكرة الصفاء الديني تحاكي سياسة التصفية ضد الآخر المختلف، وهذا ما بدأت تنفذه المنظمات الصهيونية المسلحة في العام 1947 واستمرت به إلى أن توقفت بعد النكبة وإعلان «الدولة» في العام 1948. آنذاك وقع الخلاف بين هيئة الدولة التي أخذت تكتسب شرعية دولية واعترافات رسمية بعد دخولها الأمم المتحدة وبين المنظمات المسلحة التي واصلت أنشطتها الميليشاوية خارج سلطة الدولة ومؤسساتها. وبسبب حاجة «إسرائيل» إلى الدعم الدولي اضطرت الحكومة إلى اتخاذ سلسلة قرارات رسمية ألزمت كل المنظمات بتسليم سلاحها أو الدخول في الجيش الإسرائيلي حتى لا تؤدي الازدواجية في السياسة إلى نوع من الفوضى الأمنية.

تجميد مؤقت

الموقف الرسمي الإسرائيلي جاء آنذاك استجابة إلى الضغوط الدولية وذاك القرار الذي نص على حق العودة ومنع الاستمرار في مشروع الاقتلاع والتطهير. فالموقف الإسرائيلي الرسمي أراد احتواء الصدمة واكتساب شرعية دولية تعزز تلك الثقة التي كانت الحكومة بحاجة إليها لتثبيت المؤسسات وانتزاع سمعة تلبي رغبة مرحلية في مواجهة ضغوط عربية وأوروبية وآسيوية.

أوقفت الحكومة الإسرائيلية عمليات الترحيل ودمجت تلك المنظمات المسلحة في إطار الجيش واصطدمت عسكريا مع تلك الاتجاهات المتطرفة التي رفضت الاستجابة للقرارات الرسمية بذريعة أنها تخالف العقيدة ومبدأ الدولة والفكرة الصهيونية. إلا أن الحكومة برئاسة ديفيد بن غوريون تحايلت على القرار الدولي الذي ينص على حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم مقابل وقف هجمات الترحيل وحملات الاقتلاع. واستمرت سياسة التهرب من موضوع حق العودة إلى أن وقع عدوان يونيو/ حزيران 1967 الذي استخدمته تل أبيب لتطوير الهجوم ضد السكان المدنيين فارتفع عدد النازحين واتسعت رقعة المخيمات في داخل فلسطين ودول الجوار. وبدلا من أن يعود أهل فلسطين إلى أرضهم بدأت «إسرائيل» بدفع المزيد من السكان إلى اللجوء وأخذت تروج لفكرة حكم ذاتي في المناطق التي احتلت حديثا.

بعد العام 1967 أسقطت «إسرائيل» عمليا فكرة حق العودة وأخذت تتعامل نظريا مع مشروع يتأقلم مع تلك المتغيرات التي أنتجها عدوان يونيو. حتى فكرة تقسيم فلسطين إلى شطرين أخذت تل أبيب تتخلى عنها رويدا مستفيدة من التحولات الدولية والميدانية المعطوفة على ضعف عربي غير قادر على التعامل بقوة مع قرارات تصب في مصلحة عودة الفلسطينيين. وأدت هذه العوامل إلى توفير فرص للبدء في سياسة تهويد القدس وقضم الأراضي وبناء المستوطنات والوحدات السكنية وتوسيعها رويدا حتى أصبحت تسيطر سكانيا على 40 في المئة من الأراضي المحتلة في العام 1967.

فكرة التهويد ليست جديدة وإنما مبرمجة في سياق مشروع متكامل يريد في النهاية منع ظهور ازدواجية في التركيبة السكانية حتى لو كانت السياسة الرسمية منحازة وعنصرية ومعادية لتلك الأقليات التي استمرت صامدة في أمكنتها. فالمجموعات الفلسطينية الموجودة في أحياء المدن العربية والنقب والجليل كانت عرضة للإهمال والعزل والتمييز بقصد إجبارها على النزوح والرحيل. وكانت حكومات تل أبيب تعمل دائما على تضييق حياتها اليومية وتنغيص معيشتها بانتظار أن تسنح الفرصة وتبدأ باستكمال مشروع الاقتلاع والطرد الذي أوقفته اضطرارا ومؤقتا في العام 1948.

فكرة التهويد لم تتبخر من المشروع وإنما تم تجميدها حتى لا تتلاشى مع مرور الأيام. فالطرد يحتاج إلى غطاء دولي وذرائع مقنعة وسياسة أميركية واضحة في تأييدها لفكرة التطهير العرقي والاقتلاع الديني. وهذا ما تسرب بحياء خلال تصريحات أطلقها الرئيس جورج بوش حين أبدى عدم اعتراضه على فكرة يهودية «الدولة الإسرائيلية». كلام بوش جاء تعليقا على خطاب ترحيبي ألقاه إيهود أولمرت في الكنيست خلال زيارة الرئيس الأميركي لتل أبيب.

عدم اعتراض بوش على كلام أولمرت عشية الاحتفال بذكرى مرور 60 سنة على تأسيس «الدولة» وإعلان استقلالها مر من دون انتباه دولي ولكنه كشف عن بدء انتعاش فكرة التهويد انطلاقا من وقائع ميدانية ومخاوف مفتعلة عن إمكان حصول متغيرات سكانية تؤثر في هيئة الدولة وهويتها.

الآن يستعد أولمرت لمغادرة مكتبه مطلقا بالونات حرارية عن فشل الحلم (إسرائيل الكبرى) وضرورة الانسحاب والقبول بالحد الأدنى من الأراضي (إسرائيل الصغرى). كذلك يستعد بوش للخروج من مكتبه في واشنطن بعد 15 أسبوعا تاركا المنطقة العربية في فوضى أهلية وانقسامات سياسية تقارب مشهد التصفيات المتبادلة في بلاد الرافدين. وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والقلق تصبح الأفكار المتطرفة المصحوبة بالأحقاد العنصرية والكراهية الدينية هي الأكثر رواجا في الشارع وتداولا في السوق.

الحملات والهجمات خطيرة في توقيتها وهي تستند إلى مبررات أيديولوجية تستمد حيويتها من مخزون سياسي تعطل جزئيا في العام 1948 ولكنه أخذ حديثا يستعيد زخمه مستفيدا من تلك الإشارات المتفهمة لفكرة التهويد التي أبداها بوش خلال زيارته للدولة العبرية بمناسبة تأسيسها.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2228 - السبت 11 أكتوبر 2008م الموافق 10 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً